وكان قد تزوج من أسرة فقيرة بنتاً صبية، وبعد أقل من شهر توفيت، فتقدم إلى الأسرة نفسها يخطب شقيقتها، فوافقت البنت على الفور، ولكن أباها وإخوتها السبعة رفضوا ذلك، فهي البنت الوحيدة المتبقية عندهم، ولكن البنت أصرت، وأكدت رغبتها في الزواج من ذلك الغني، كي تكتشف سر وفاة شقيقتها، والزوجات السابقات جميعاً.
وتم الزواج، وعاشت الفتاة في القصر عيشة هانئة، فيها الرغد والوفر الكثير، وحظيت من زوجها باهتمام بالغ، وعناية كبيرة، بل لقيت منه تعلقاً شديداً، كاد ينسيها غايتها، وهي البحث عن سبب وفاة أختها.
وذات صباح، ارتدى الزوج فاخر الثياب، وتهيأ للخروج، ورافقته زوجته إلى الباب مودعة، وقبل أن يخرج ناولها حلقة فيها مفاتيح كثيرة، وقال لها: "هذه مفاتيح أربعين غرفة من غرف القصر، يمكنك أن تتفرجي على تسع وثلاثين غرفة، وتتسلي بمحتوياتها، في غيابي، ولكني أحذرك من الغرفة الأربعين، وأطلب منك عدم فتحها". ثم تركها في القصر وخرج، وبين يديها مفاتيح الغرف كلها.
وأخذت تطوف في أرجاء القصر، تتفرج على غرفه واحدة واحدة، وتدهش لما تحويه كل غرفة من أثاث وفراش ورياش، يفوق ما تحويه الغرفة الأخرى، مما يذهل له الناظر.
وأمضت على هذه الحالة أياماً، وهي تسأل كيف يسمح لها الزوج بدخول الغرف جميعاً، على الرغم مما فيها من أثاث ثمين، ولا يسمح لها بدخول الغرفة الأربعين؟! وكانت تفكر دائماً بفتحها، والدخول إليها، ولكنها كانت تتردد وتخاف.
وذات يوم وضعت مفتاح الغرفة الأربعين في قفل الباب، وأدارته، ثم أحجمت، ولكنها عادت، فأقدمت، وفتحت الباب، فصر صريراً راعباً، ومدت رأسها من شق الباب، فدهشت، وثار في نفسها الخوف، فالغرفة خاوية، ولا شيء فيها، سوى الغبار والعناكب.
وأدركت على الفور أن في هذه الغرفة يكمن سبب وفاة الزوجات السابقات، وأن وراء هذا الفراغ سراً كبيراً، يخفيه عنها زوجها، ويحذرها بسببه من فتح الغرفة.
ودخلت، وفي عمق الغرفة رأت خزانة خشبية، تقدمت منها بحذر وخوف، ونظرت، فإذا بابها من غير قفل، فتحته فانفتح، وعلى رف من رفوف الخزانة رأت قطعة قماش بيضاء، عتيقة، مصفرة، يعلوها الغبار، فلم تلمسها، وأغلقت الخزانة على الفور، وخرجت، وأقفلت باب الغرفة.
وفي المساء رجع الزوج كعادته، فسألها عن يومها كيف أمضته، فأكدت له سرورها بما رأت في الغرفة من أثاث فاخر، ثم حاولت التشاغل بعد ذلك بإعداد مائدة العشاء، ولكنها فوجئت به يقول لها: " ولكن لم تسأليني عن سر القماش الأبيض في الخزانة الخشبية؟!"
فصعقت، وأدركت على الفور أنه عرف أنها فتحت الغرفة الأربعين، ولم تجد مفراً من الاعتراف، وهي في خوف وقلق شديدين، ولكن الزوج تبسم، وأظهر هدوءاً بارداً، ثم أكد أنه لا يبالي بالأمر، ثم رجاها أن تنساه، وأخذ يعبر عن اهتمامه بها ، وحرصه عليها، ولكن هذا زاد من قلقها، فأخذت ترجوه أن يخبرها بسر الغرفة، والقماش الأبيض، وبعد إلحاح منها، وتوسل، ورجاء، أخبرها أنه يحتفظ بذلك القماش لليلة الغنجة، وزادها ذلك قلقاً، فأخذت تسأله عن تلك الليلة، كيف هي؟! ومتى تكون؟ فلم يجب، ووعد أنه سيخيرها بأمرها في الوقت المناسب.
وأخذت تعيش في قلق وترقب، متوفزة الأعصاب، ولا تسعد بطعام؛ ولا تهنأ بنوم، وهي تنتظر تلك الليلة، متوقعة فيها الخطر، بل الموت.
وذات صباح، وقبل أن يخرج الزوج من القصر، أخبرها أن الليلة القادمة هي ليلة الغنجة، وطلب منها أن تتهيأ لها، وأن تكون في زينتها الكاملة، وأن ترتدي حلة ليلة الزفاف، وأوحى لها أنها ليلة لذة وسرور، ثم ودعها وخرج.
ولكن الزوجة أحست في كلامه الخداع، فأسرعت إلى أبيها وإخوتها، وأخبرتهم بالأمر كله، ثم دعتهم إلى النزول في غرفة قريبة من الغرفة الأربعين، والاختباء فيها، والتهيؤ لنجدتها، إذا ما أحسوا بالخطر.
ثم تهيأت، وتزينت، وارتدت حلة ليلة الزفاف، ولما حضر الزوج في المساء، أظهرت رباطة جأش، واستعدت لكل الاحتمالات، ولكن الزوج كان لطيفاً اللطف كله، فآنسها، وتناول معها طعام العشاء، وأبدى رقة مفرطة.
وفي الغرفة الأربعين، أخرج القماش الأبيض من الخزانة، وبسطه على الأرض، واعتذر لقدمه واصفراره، ثم رجاها بلطف شديد أن تستلقي فوق ذلك القماش، فترددت، ولكنها استجابت، مطمئنة إلى أن أباها وإخوتها في الجوار.
ومرة أخرى اعتذر لها الزوج، وأكد لها أنه مضطر إلى لفها بالقماش الأبيض، وربطه بحزام متين عند قدميها، وعند رأسها، حتى تبدأ ليلة الغنجة، فاستجابت لذلك، ورضيت، وعند ئذ أخذ يدغدغ أخمص قدميها بهدوء ونعومة، فأخذت تضحك، ثم بدأ يدغدغ أخمص قدميها بحدة، فبدأت تقهقه، ثم شرع يحفر بأظافره، في أخمص قدميها بعنف ووحشية، وهي خاضعة لتأثير الدغدغة تقهقه بألم شديد ولا تقدر على إيقاف ذلك، حتى أغمي عليها، وهو مايزال يحفر بأظافره في أخمص القدمين.
وأحس أبوها وإخوتها في الغرفة المجاورة بالانقطاع المفاجئ في القهقهة، فأدركوا أن في الأمر خطراً، فاقتحموا الغرفة، وذهلوا لما رأوا.
وأسرعوا على الفور إلى انعاش الزوجة، ثم اقتادوا الزوج إلى الحاكم، واعترف أمامه بجرائمه، فقد كان يلجأ إلى قتل زوجاته على تلك الطريقة، حتى لا يترك فيهن أثراً يدل على القتل.
ودعا الحاكم آباء الزوجات اللواتي توفين عند ذلك الزوج، كما دعا ذوي قرابتهن، وسألهم عن القصاص الذي يرغبون في إيقاعه به، وكانت الزوجة الأخيرة التي نجت من الموت حاضرة، فاقترحت قتله بالطريقة نفسها التي كان يقتل بها زوجاته، فوافق الجميع، وتم تنفيذ ذلك على الفور.
تعليق:
تدل الحكاية بصورة غير مباشرة على ظلم الأغنياء للفقراء، وقد تجسّد ذلك في صورة الرجل الغني المقتدر، الذي يتزوج فتاة إثر فتاة، ليقود كل واحدة إلى حتفها بطريقة ترضي نزوته وغروره.
كما تدل على قدرة المرأة على صنع الخلاص بذكائها وحسن تدبيرها، وهي لا تحقق خلاصها وحدها، إنما تحقق خلاص بنات جنسها ومجتمعها كله، وتنهي سيطرة ذلك الغني المقتدر، الذي يقتل المرأة، رمز الخصب والتجدد والعطاء..
وتبدو الحكاية للوهلة الأولى تصويراً لظلم الرجل للمرأة واستبداده بها، ولكن الحال ليس كذلك، مثل هذا الفهم قاصر، لأن الرجل ههنا ليس رمزاً لكل الرجال، إنما هو رمز للرجل الغني المقتدر ليس غير.
والحكاية تبدو شبيهة بحكاية شهريار وشهرزاد، وإذا كان شهريار قد قتل زوجته لأنه رأى عبداً في مخدعها، فإن المرأة في هذه الحكاية لاذنب لها.
ولعل الرجل في هذه الحكاية يمثل نموذج الرجل السادي الذي لايجد متعته إلا في إلحاق الأذى بالمرأة. أو لعله عقيم، ولذلك فهو يقدم على قتل المرأة حتى لا ينكشف سرّه، وكأنه يريد بقتله المرأة أن يثأر لنفسه من المجتمع كله، فيجعله عقيماً مثله.
والحكاية معروفة لدى شعوب كثيرة، ولا سيما شعوب أوروبة، وبقدر قليل جداً من الاختلاف، وقد حولت إلى شريط عرض للأطفال، وإلى مسرحية، وإلى أوبرا غنائية، وهي مشهورة بعنوان: " الرجل ذو اللحية الزرقاء