بتـــــاريخ : 11/19/2008 7:10:38 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1359 0


    قلعة من رؤوس

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أحمد زياد محبّك | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    كان لتاجر كبير ابن وحيد، وكان يصطحبه معه دائماً إلى الدكان، فيرى أباه وهو يبيع ويشتري، بسماحة كبيرة، قانعاً بالريح القليل، وكان إذا طلب منه أحد قرضاً منحه إياه، من غير أن يكتبه، حتى إنه كان يمنح قروضه لمن لا يعرفه، وكلما راجعه ابنه في ذلك، قال له: "افعل الخير يابني، ثم ارم به في البحر"، حتى إن الابن كان يضيق بطيب والده، وجوده.‏

    وذات يوم أرسله أبوه في سياحة إلى بلاد بعيدة، ليعرف الدنيا، ويرى الحياة. فحملته الأسفار من بلاد إلى بلاد، حتى حطت به في بلد، سار فيه يتفرج على منازله ومبانيه، وإذا هو أمام قلعة رصفت واجهتها بالجماجم، فعجب مما رأى، وأخذ يسأل الناس عن شأن القلعة، فما ظفر من أحدهم بجواب، فأدرك أن للقلعة سراً، وقرّر الإقامة في البلد، لمعرفة السرّ.‏

    ونزل في خان، وأخذ يطوف في الطرقات، حتى رأى دكان حلاق، دخلها، وقعد ينتظر دوره ويصغي إلى أحاديث الناس، فما ورد في حديثهم ذكر للقلعة، فلما كان دوره، أخذ يحدث الحلاق، ويسامره، ولما انتهى، أجزل له العطاء.‏

    وأخذ يتردد على الحلاق كل يوم، يحلق لحيته عنده، ويعطيه، فيكثر له في العطاء، ويحدثه فيتبسط معه في الحديث، ويمكث عنده، فيطيل المكث، ثم دعاه إلى الغذاء، حتى تعرف إليه، وقويت بينهما أسباب الصداقة، فجعل الحلاق يدعوه إليه، فيزوره في بيته، ويحدثه بدخيلة نفسه، ويكشف له الحلاق عن همومه، حتى وثق كل منهما بالآخر.‏

    وذات يوم رأى الشاب الفرصة مواتية، فسأل صديقه الحلاق عن سر القلعة، فنصح له الحلاق بالعدول عن معرفة سرها، وحذره منه، ورجاه ألا يلح عليه فيه، ولكن الشاب أبى، وألح في السؤال، فراوغه وموّه عليه، ثم رأى أخيراً أن لابد له من إجابة صديقه، فروى له سر ّالقلعة.‏

    ففي القلعة ترقد الأميرة بنت السلطان، وهي قلعتها، خصها بها أبوها، مع الخدم، أما الجماجم جميعاً، فهي رؤوس خاطبيها، أو بالأدق هي رؤوس أزواجها، ذلك أن كل زوج يدخل عليها في المساء، يعلق رأسه على سور القلعة في الصباح، ولا أحد يعرف السبب، سوى أن الخدم يدخلون عليها في مخدعها في الصباح، فيرون رأس الزوج مقطوعاً.‏

    فلما سمع الشاب قصة القلعة، ثار في نفسه العجب، ورغب في المغامرة، وأعلن عن عزمه على خطبة الأميرة، والدخول عليها، زوجاً، أياً كان الثمن، فحذره الحلاق، ونصح له، وتوسل إليه، ورجاه، ولكن من غير جدوى، فقد عزم الشاب، وصمم، وعندئذٍ اشترط عليه الحلاق أن يناصفه في كل مايحصل عليه، فوافق الشاب.‏

    ومضى الحلاق، فسعى لدى السلطان، يخطب ابنته لصديقه الشاب، ثم لازمه في كل ما كان عليه أن يقضيه، فاشترى له فاخر الثياب، وأعده لليلة الزفاف وكان لا يفارقه قيد أنملة، حتى كانت ليلة الزفاف، فأعد له أروع احتفال، ورافقه إلى باب القلعة، ثم ودعه وتمنى له التوفيق.‏

    ومضى الشاب وحده، يرقى الأدراج، إلى مخدع الأميرة، حتى إذا بلغه، دخل عليها في غرفتها، فرآها ترقد على فرش من دمقس، في سرير من عاج، تعلوها كلة خيوطها من ذهب وحرير، فدنا منها، فغمرته روائح العطور الفاغمة، فلما نظر إليها، خفق قلبه، وهو يرى إلى عينيها ذواتي الأهداب السود الطويلة، وإلى شعرها المرسل على صدرها، وتملّى فمها الصغير، وأنفها الدقيق، وصدرها الناهد، وهو يعلو ويهبط في نفس دافئ هادئ، فقد كانت تنام كالطفل الغرير، فلم يشأ أن يوقظها، وراح يتأمل محاسنها، كأنه في معبد، حتى أخذته سنة من النوم، فأغفى، وهو راكع أمام سريرها.‏

    وعندئذ نهض من وراء السرير عفريت هائل، انتضى حساماً مصلتاً ورفعه إلى فوق، ليهوي به على رأس الشاب، ولكنه انشطر فجأة إلى نصفين، بهراوة غليظة، ووقع على الأرض، من غير أن يمس الشاب بأذى.‏

    وكان الحلاق قد دخل القلعة، وراء الشاب، متسللاً، من غير أن يشعر به أحد، وتتبعه، حتى دخل غرفة الأميرة، فدخل وراءه، ووقف خلف الباب، فلما أغفى الشاب، ورأى العفريت يهم به، التقط هراوة، وشطر بها العفريت، ثم تسلل خارجاً، مثلما دخل من غير أن يشعر به أحد.‏

    ولما وقع العفريت على الأرض، تآكل وذاب، ولم يبق منه أثر، وعندئذ تململت الأميرة في سريرها، وفتحت عينيها، ثم نهضت، فرأت الشاب راكعاً أمام سريرها، وهو في إغفاءة، فأقبلت عليه، مفتونة بوسامته، وهو أول شاب تلقاه، فأيقظته، وأخذته بين يديها، ولما أفاق الشاب، ضمها إليه، وأمضيا معاً بقية الليل، في اجتناء ووصال، حتى إذا أقبل الفجر، أغفى كل منهما، وهو يوسد الآخر ذراعه.‏

    ومع الصباح دخل الخدم على الأميرة، كعادتهم، وهم يتوقعون أن يروا رأس الزوج مقطوعاً، مثلما ألفوا، ولكنهم فوجئوا به نائماً مع الأميرة، فارتدّوا خجلين، ثم أسرعوا إلى إخبار السلطان، فقدم بنفسه إلى القصر، فرحاً بسلامة صهره، وبخلاصه من مقتل أزواج ابنته.‏

    وأقيمت الأفراح، واحتفل الناس في البلد بزواج بنت السلطان، وانتهاء سر القلعة، فرفعت عنها الجماجم، وزينت بالأعلام والمشاعل، ودامت الأفراح سبعة أيام، مع سبع ليال، لم ينس فيها الحلاق صديقه الشاب، فقد زاره، وهنأه بزواجه، وبارك له فيه، وحمل أغلى الهدايا له ولعروسه.‏

    ومرت أيام وشهور، كانت ساعاتها هناءة للزوجين، وكان الشاب لا ينقطع فيها عن زيارة صديقه الحلاق، وذات يوم رغب الشاب في العودة إلى الأوطان، فشاور السلطان في ذلك واستأذنه في أخذ زوجته معه، فأذن له، وأعد للزوجين موكب الوداع، وحملت الجمال الهدايا، وأثمن الرحال، وخرج الجند في وداعه، والأميرة إلى جانبه، حتى بلغوا حدود البلاد، عادوا راجعين.‏

    وكان في موكب وداعه صديقه الحلاق، الذي أبى إلا أن يظل مرافقاً له، حتى يبلغ به حدود بلاده، فسارت بهما الإبل معاً، ينزل الحلاق حيث ينزل الشاب، ويرحل حين يرحل، حتى دخلا صحراء قاحلة، فنزلا في أرض قفراء، ليتناولا شيئاً من الطعام، فدعا الحلاق صديقه وزوجته إلى تناول الطعام، على كثيب من الرمل، بعيداً عن الخدم المرافقين، فاستجاب الشاب إلى طلب صديقه وبعدوا جميعاً عن الخدم.‏

    وعندئذٍ ذكر الحلاق صديقه الشاب بما اشترط عليه، فلم يكد يذكر الشاب، فذكره بأنه اشترط عليه أن يناصفه مايحصل عليه، فذكر الشاب الشرط، واعترف بموافقته عليه، وقال له على الفور: "لك نصف أموالي فخذها"، فأبى الحلاق، فعرض عليه أمواله كلها، فرفض، فحار الشاب، واستفسر من الحلاق عما يريد، فصرح له بأنه يريد أن يشاطره زوجته، فدهش الشاب من صديقه الحلاق، وأنكر عليه ذلك، وذكره بما بينهما من صداقة وإخاء، فأبى إلا أن يكون له شطرها، فنظر الشاب حوله، فوجد نفسه وحده، لايملك فعل شيء، فعرض على صديقه أن يتخلى له عن زوجته وأمواله، فأبى وقال: "لا أريد إلا شطرها"، فاستسلم الشاب لطلب الحلاق.‏

    وعندئذٍ عمد الحلاق إلى حبل، فعلّق به الأميرة من قدميها في نخلة، جاعلاً رأسها إلى الأسفل، ثم أوقد ناراً تحتها، وألقى فيها بعض البخور، مما كان يحمله في كيس صغير، ثم شهر سيفه، ورفعه إلى أعلى، وهم بشطرها إلى نصفين، وصاح: "الله أكبر"، وإذا عفاريت صغيرة، تندلق من فمها، فتلقفها النار، فتذوب فيها، كالملح، وتحترق".‏

    ثم التفت الحلاق إلى صديقه الشاب، وقال له: "خذ زوجتك، مباركة لك"، فدهش الشاب لما رأى، وعانق الحلاق، وراح يقبّله، ثم قام كلاهما بإنزال الأميرة، التي بدت أحلى مما كانت عليه، وأجمل وأروع، فقد كانت مرصودة لذلك العفريت، يقتل كل رجل يريد زواجها، ليحتفظ بها خالصة لنفسه، وقد أودع فيها تلك العفاريت الصغيرة، فخلصه منها الحلاق.‏

    ثم عاد الجميع إلى حيث كان الخدم، فحمل الحلاق صديقه الشاب وزوجته على راحلتهما، وامتطى هو راحلته، ثم ودعهما، ومضى متمنياً لهما حياة سعيدة، وابتعد عنهما قافلاً إلى بلاده، ولكن ما إن ابتعد عنهما بضع خطوات حتى ناداه الشاب قائلاً: "بالله عليك، هلا خبرتني أيها الرجل من تكون؟"، فالتفت إليه الحلاق، وهو يبتعد، ثم أجابه: "أنا الخير الذي كان يفعله أبوك، ويرميه في البحر".‏

    تعليق:‏

    تؤكد الحكاية أن فعل الخير لا يضيع، إذ يُجزى صاحبه خير جزاء، ولو تأخر، فما على المرء إلا أن يفعل الخير، في كل حين وآن، وأن من غير أن يرتقب الجزاء.‏

    والحكاية تظهر مايمر به الشاب الغرّ من تجارب قاسية تكسبه عبرة وحنكة وخبرة، وماعليه إلا أن يتزود بالصدق والجرأة، أن يحسن معاشرة الناس، ويجيد اختيار الأصحاب، فالمرء بمن حوله من صحب وخلاّن.‏

    والحلاق رمز لفعل الخير، الذي ساعد الشاب، وكان صديقاً صدوقاً، والعفريت رمز للشر، وهو مهما استفحل وقوي فمآله إلى زوال، بفضل التعاون والصدق والإخلاص.‏

    والحكاية موجهة إلى الشباب، وهي تعدّهم للمستقبل، وتبين لهم ماقد يعترضهم من صعاب وتزودهم بقدر كبير من الثقة والتفاؤل، وتزين لهم ضرورة فعل الخير.‏

    والحكاية منسجمة وعناصرها متماسكة، وفيها خيال مبدع.

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()