عقدة الكورتيزون بقلم:د . هدى برهان حماده طحلاوي
في المرة الأولى جاءتني تشكو السمنة لأنها منذ سنوات تتناول دواء الكورتيزون لتخفف من حدة الربو القصبي المزمن الذي تعانيه , وكان طبيبها المختص بأمراض الصدر قد وصف لها هذا الدواء , ولكنها بحكم صداقتنا القديمة منذ أيام الدراسة الأولى أحبت استشارتي فلعلي أشجعها على ترك دواء الكورتيزون الذي ملت تناوله وتخشى تأثيراته الضارة التي تسمع عنها من محيطها .
كان الربو القصبي مستقراً لديها وتحتاج إلى جرعة قليلة من الكورتيزون مع أدوية مشاركة أخرى تساعدها على العيش والعمل كربة منزل وأم لسبعة أولاد .
نصحتها بالاستمرار في هذا العلاج وعدم الالتفات إلى أقوال الآخرين لأن ضرر التوقف عن تناول الكورتيزون سيكون أكبر بكثير من تناوله . فالربو القصبي الذي تعانيه كان شديداً وأي خلل بعلاجه سيحدث عاقبة وخيمة لا تحمد عقباها .
في المرة الثانية جاءتني بعد أشهر لتزف إلي خبر إيقافها الكورتيزون واستبداله بدواء سحري آخر _ كما وصفته_ وقالت أنها مرتاحة تماماً ودلتها عليه إحدى قريباتها . ولما اطلعت على اسمه تبين لي أنها واهمة لأنه وحده لا يغني عن الكورتيزون الذي تحتاجه ونصحتها بالعودة إليه واستشارة طبيبها الخاص .
في المرة الثالثة جاءتني ابنتها الكبرى بعد أشهر من انقطاع أمها عن زيارتي لمرض جلدي ألم بها , وكان الحزن بادياً على محياها , ولما سألتها عن أمها التي اعتادت المجيء معها أجابت باستغراب ألم تعلمي ما حصل لأمي ؟! لقد ماتت .
وقع النبأ علي كالصاعقة ودمعت عيناي أسفاً عليها , فهي لم تكمل الأربعين من عمرها بعد , واستطردت الفتاة قائلة : لقد أصيبت بنوبة ربو قصبي شديدة خانقة لم ينفع معها الإسعاف السريع , وأعلمنا الطبيب أن السب هو حرمان جسمها من الكورتيزون الذي كان دواءها الأساسي , وتخلت عنه ولم تعمل بنصحك ولا بنصيحة طبيبها الخاص مكابرةً وعناداً .. سامحها الله على كل حال .. ماتت وتركتنا للشقاء .
أثرت هذه القصة في نفسي كثيراً وذكرتني بعقدة الكورتيزون التي أصابت كثيراً من البشر بشكل مبالغ به أكثر من أي دواء آخر قد تكون له آثار جانبية أخطر من الكورتيزون وأشد .
فكثر هم المرضى الذين يطرحون على طبيبهم تساؤلهم عن الدواء إذا كان يحوي كورتيزوناً أم لا , وقد يعلنون رفضهم له إذا كان الجواب نعم وكأنهم انتصروا على طبيبهم بمعرفتهم عنه!
وواقع الأمر أن البداية كانت بتحذير الأطباء المرضى من تناوله بشكل عشوائي أو دون وصفة منهم لما له من آثار جانبية غير مرغوب بها والتي تحدث على المديين القريب والبعيد. أما الطبيب فعندما يصفه لبعض الأشخاص الذين يحتاجونه سواء كانت أمراضهم جلدية أم داخلية فإنه إنما يصفه بحكمة وتعقل , إذ ربما كان الدواء الشافي أو المنقذ لحياة هؤلاء , وهو عندما يصفه إنما يضع في ميزان حكمته الفائدة المرجوة منه في كفة والضرر المتأتي عنه في كفة أخرى ويحكم للمريض بما فيه الخير له ولصحته أولاً وآخراً .
علماً أنه لا بد من الإشراف الطبي الدائم إذا تطلبت الحالة استمرار تناوله كجرعة داعمة أو جرعة صيانة كما تسمى , والطبيب وحده من يوقف تناوله أو يستبدله بدواء آخر إذا دعت لذلك حالة المريض .
إن قاعدة واحد زائد واحداً لا تساوي اثنين في الطب وذلك لاختلاف أجسام المرضى بعضها عن البعض الآخر واختلاف تأثرها بالأمراض والأدوية فكل إنسان كيان خاص مستقل عن غيره , ولا يرى هذا الأمر سوى الطبيب الحكيم الذي يكتشف ذلك ببصيرته قبل بصره وبخبرته قبل علمه وبمتابعته لكل ما يستجد من أبحاث ودراسات تهم مرضاه وتقدم لهم أفضل سبل العلاج والوقاية .
ليس الكورتيزون وحده الذي له آثار جانبية ضارة بل كل دواء يعتبر سلاحاً ذا حدين : في حده الأول الشفاء والصحة وفي حده الثاني الضرر والأذى , والذي يثق بطبيبه يترك له حرية التصرف في وصف هذا الدواء أو ذاك , أو في إجراء جراحة له إذا استدعت الحالة .. أليس من أجل ذلك أطلق على الطبيب لقب حكيم ؟
د . هدى برهان حماده طحلاوي