بتـــــاريخ : 11/19/2008 6:39:34 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1601 1


    الهواية

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمــد شــاكر الســـــبع | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    شعرت أني أنا وليست روحي فقط سقطت في درب الآلام والحزن والغم في أروقة هذا المستشفى التي تبدو هادئة، وديعة وساكنة في الظاهر، إلا أنني شعرت بآلام نزلائها تنخر عظامي. لم يبق لي سوى الفرار إلى شوارع المدينة المليئة بالبشر الذين يضجون بالعافية، بالسيارلات التي تخلق ضجيجاً لا مثيل له بمنبهاتها. ومع ذلك فالسعادة لم تزلزل أبواب القلب.... هذا القلب الذي سكن فيه الأعمام جميعاً، ثم رحلوا عنه واحداً بعد الآخر. وها هو العم الأخير الذي تشكلت معه أجمل ذكريات الطفولة، سيرحل هو الآخر... كم يتعذب هذا القلب الذي أحمله؟.. عدت إلى تلك الأروقة الكئيبة التي تنضح بكل مايهتك أسرار الإنسان الذي يفقد قوته وجبروته وكبريائه وعجرفته. تصورت أني سأجد العم كمال قد فارق دنياي. لذلك دخلت غرفته والدموع وصلت فمي، إلا أنني وجدته متكئاً على وسادته.. احتضنته وبكيت على صدره.. قال في أذني:

    -أنا كذاب ابن سلالة كذابين أيها الوغد؟‏

    ازداد بكائي، فهذا العم لا يغفر أبداً، على الرغم من كل ما قلته عن حكاياته السابقة. دفعني عنه برفق وقال:‏

    -بدل أن تبكي. عليك أن تسمع ماذا حل بجدك الطيب حين وثق بأحد أحفاده.‏

    تحولت أعصابي إلى أسلاك من فولاذ. لم يبق في القلب مكان يمكن أن يحتله الحزن. قلت بجفاف:‏

    -تحملت كا ماقتله عن أخوالي، أما جدي فلا.‏

    -لا تكن أحمق صغيراً.. جدك نفسه حزن لما حدث له طويلاً.‏

    -دع جدي وشأنه.. لا تجعله يتململ في قبره.‏

    -قلت لك لا تكن أحمق صغيراً، فالأحداث والأيام هي ما ترتكز عليهما حياة الحكماء، وبدونهما لا يبقى للحياة معنى، فالإنسان الذي لا يفهم ويتعلم من الأحداث والأيام هو أشبه بالكلب.‏

    -ماذا تعني؟‏

    قال العم كمال بنبرة صوت أسمعها منه أول مرة:‏

    -كان جدك حكيماً، لقد تعلم من الأحداث والأيام إلى الحد الذي أصبح حكيماً فاستعمل العصا.‏

    -حكيم ويستعمل العصا؟‏

    -يا ابن أخي الوغد إذا لم تستعمل العصا فأنت حمار كبير.‏

    من أين يبدأ السبيل إلى التفاهم مع هذا العم الذي يرقد في سريره والسرير في مستشفى؟. وتيار الحزن الذي لم يتحرك ويفارقني جعلني استمع إليه بدون إرادة مني. قال العم كمال وهو يضحك:‏

    -تصور أن جدك الحكيم فقد حكمته التي انبثقت من التجربة وليس من الدراسة، بسبب معلومة علمية يفهمها طلاب المدارس الابتدائية.‏

    قلت بغضب:‏

    -لم يبق في القلب متسع لأحزان جديدة.‏

    هدر العم كمال:‏

    -لا تتعامل مع الحياة بالأحزان، وإنما بالقوة، القوة المنطلقة من الفكر الذي يعرف ما يصح وما لا يصح، وبدون ذلك ستجد نفسك أيها الوغد هدفاً لهجوم كل الآخرين الذي لا يدفعون ثمن فقدانك للزمن، لأن همهم أن يأخذوا... يأخذوا؟... بل يسرقوا منك ما يريدونه.‏

    الحق أقول أن العم كمال تحول، أول مرة في حياته، إلى ما يشابه الفيلسوف، وهذا ما جعلني أحس بالحزن العميق، إذ ما قيمة فيلسوف على وشك الموت؟. جاءني صوته دافئاً جداً:‏

    - هذا ما حدث لجدك الطيب الذي ترك تجربته الحياتية وراء ظهره ووثق بما يقوله المعلمون في المدارس...‏

    لكن المعلمين في المدارس يقولون الحقيقة إذا كانت مستندة إلى العلم‏

    -هذا صحيح أيها الوغد.‏

    -أين الخطأ إذن؟‏

    -لا تقاطعني مرة ثانية حين أتحدث، وتذكر دائماً أنني عمك أيها الوغد. بل يا وغد الأوغاد. عليك أن تفهم أن ليس كل حقيقة علمية تجرى في مختبر صالحة أن تخرج إلى الشارع وتعيش بين الناس.‏

    -لم أفهم.‏

    -حسناً تفعل،.. دعني أتحدث بدون اعتراضاتك السفيهة... أنا حين أقص عليك هذه الأحداث عن أخوالك، فلأنهم نوع غريب من البشر، نوع له نسيجه الخاص الذي لا يشبه أي نسيج.... إنهم بعبارة وافية المعنى قطاع طرق...‏

    -قطاع طرق مرة أخرى؟‏

    انفجر العم بصوت ملعلع:‏

    -أمرتك ألا تقاطعني، وها أنت تفعل ذلك.‏

    وطنت النفس على الصبر الذي توصي به السماء قبل الأرض.. ينبغي علي أن أسمع كل مايقوله العم كمال عن جدي الطيب.. قال العم حين لمس مني الطاعة:‏

    -ابن خالك عبد الزهرة.. مااسمه؟‏

    -أيهم؟... الكبير أم الصغير؟‏

    -الصغير عليه اللعنة سبع مرات.‏

    -محسن.‏

    ابتهج العم كمال وقال:‏

    -محسن هذا حين وصل إلى السادس الابتدائي درسوه في مادة العلوم ضغط الهواء من الأعلى إلى الأسفل.. لم يكتفوا بذلك، بل أخذوه إلى المختبر وأجروا التجربة أمامه.. عقله الصغير لم يستوعب الأمر واعتبر كل ذلك نوعاً من السحر. وفي غرفة أمه في بيت الجد الكبير أعاد التجربة، عندئذ طرحته أمه أرضاً وأطلقت النواح.. هرعت إليها الجدة والأخوات، ورأين الزجاجة والبيضة المسلوقة في داخلها. تلكم الجاهلات كيف يفهمن كلام الصغير محسن عن ضغط الهواء من الأعلى إلى الأسفل؟‏

    -ساحر.. هذا الصغير ساحر.. الويل لنا.‏

    والفضول -كما يقولون- أكبر لعنة سقطت على رأس البشر -دفع كل واحدة منهن وهن في غرفتها إلى سلق بيضة وإحضار زجاجة ثم إشعال نار داخلها، ودخل كل البيض إلى الزجاجات. اجتمعن مرة أخرى بالجدة وأخبرتها بما فعلن. الجدة اعترفت أنها فعلت نفس الشيء... قالت:‏

    -هل نحن جميعاً ساحرات؟‏

    تفرست في وجوه بناتها وزوجات أبنائها علّها تكشف الحقيقة، بيد أنها شعرت بالهلع فكفت عن ذلك، وأوصتهن جميعاً أن يكتمن الأمر حتى لايصل إلى أسماع الجد.. ونفذت البنات وزوجات الأبناء إلا الجدة التي جعلها الفضول تنسى أمرها، وهكذا رآها الجد يوماً وهي منهمكة في إدخال البيضة في القنينة، فصرخ:‏

    -ساحرة... أنا متزوج من ساحرة دون أن أدري.‏

    صعقت الجدة أمام غضب الجد الذي كان يبحث بعينيه عن العصا، لكنها سرعان ما تمالكت نفسها المنهارة:‏

    - لا تصرخ هكذا كالمجنون.‏

    -ماذا؟... أنا مجنون أيتها الساحرة. الآن، فهمت لماذا يتصرف أولادي خلافاً للآخرين.. يالي من مغفل.. أنا الذي اعتقدت أنهم أقرب الشبه بالحمير، وإذا بهم أولاد ساحرة.‏

    وصرخت الجدة:‏

    -عن أية ساحرة تتحدث يا رجل... هذه مصيبة سقطت على رأسي وعلى عائلتي، وأنت أيها الحكيم عليك أن تساعدنا.‏

    وصرخ الجد:‏

    -سأفعل ذلك وبسرعة، ولكن دعيني أجد العصا أولاً.‏

    قيل أن الأبناء دخلوا البيت مثل الإعصار وحالوا بين الجد الغاضب وأمهم، ومع ذلك هدد الجد:‏

    -سأطلقك يا ساحرة، وستأخذين جميع هؤلاء السحرة والساحرات معك يا عدوة الله.‏

    لم يشهد بيت الجد اضطراباً مثل ذلك الاضطراب.. قيل أن الليل انتصف حين فهم الجد جلية الأمر، فأمر أن يجلبوا ذلك الجرو الذي سبب المصيبة. وتحت أنظار الجد انزلقت البيضة من فتحة القنينة الضيقة إلى داخلها.‏

    -كيف حدث هذا؟‏

    وتأتأ محسن الصغير، فهدر الجد:‏

    -هذا ما كان ينقصني؟... ألا يكفيني كل هؤلاء الحمير حتى يولد لي ساحر؟‏

    اعترض محسن الصغير:‏

    -إنه ليس سحراً.‏

    -إذن ماذا يكون أيها الكافر الذي سيدخلنا جميعاً إلى جهنم؟‏

    فأجاب محسن خائفاً:‏

    -إنه ضغط الهواء من الأعلى إلى الأسفل.‏

    -ضغط ماذا؟‏

    -ضغط الهواء يا جدي.‏

    -ابتعدوا إن رأسي سينفجر.. ما دخل الهواء في هذه البيضة المسلوقة؟‏

    وشرح محسن الأمر وأعاد شرحه أكثر من مرة، لكن الجد لم يهدأ غضبه"‏

    -ضغط الهواء من الأعلى... من الأسفل.. بيضة مسلوقة تدخل في قنينة.. يا أيها الرب الرحيم.. ماذا يحدث في بيتي؟.‏

    توقف عن الحديث ونقل نظره بين أولاده وسألهم:‏

    -لماذا في بيتي فقط يقوم ضغط الهواء بإدخال البيض في القناني؟... ولماذا لا يقوم بإدخالها في بيوت الآخرين؟‏

    هذه المرة أنا الذي صرخت:‏

    -يا عم ما الذي تفعله بجدي؟‏

    قال العم كمال بهدوءه:‏

    -لا تعترض... إنني أقص ماحدث، وعليك أن تسمع جيداً. كانت تلك الليلة لا تطاق، فالجد لم يغمض له جفن، وفي منتصف الليل إنسل من فراشه وسلق بيضة وجاء بقنينة وأشعل في داخلها النار، وحدث الذي يخيفه.. سأل نفسه:‏

    -هل أنا من سلالة سحرة دون أن أدري؟.‏

    في الصباح الباكر توجه إلى مدرسة محسن، وهناك كاد يبطش بمعلم مادة العلوم، لكن الأخير شرح للجد هذه الظاهرة، ثم قاده إلى المختبر وأجرى أمامه عدة تجارب. فسأله الجد بريبة:‏

    -يعني أنه ليس سحراً؟‏

    -بالتأكيد ليس سحراً.‏

    اطمأن ضمير الجد الذي كاد أن يشتت شمل أسرته الكبيرة بسبب تلك البيضة المسلوقة التي تنزلق بسهولة في القنينة. لكن هماً جديداً سقط على كتفي الجد، فقد أصبح إدخال البيض المسلوق في القناني هوايته التي لا يستطيع التخلص منها.‏

    اعترضت وأنا أكاد أبكي:‏

    -يا عم.. تذكر أنه جدي.‏

    فأكد العم كمال:‏

    -أنا لا أقول غير الحقيقة.‏

    -عن أية حقيقة تتحدث يا عم؟.. جدي الذي اشتهر بحكمته أصبحت له هواية إدخال البيض المسلوق في القناني الفارغة؟‏

    -ألم أقل في البداية أن جدك فقد حكمته بسبب معلومة علمية صحيحة إذا أجريت في مختبر ولكنها لا تستطيع العيش في الشوارع بين الناس؟‏

    شعرت أن الغضب يهزني هزاً، ونبعت في روحي رغبة لكي أطلق العنان لدموعي من أجل جدي وكل أخوالي الذين جلدهم العم كمال بسوطه، غير أن تلك الرغبة توقفت في منتصف الطريق حين علا صوت العم:‏

    -أخذ يحمل معه البيض المسلوق والقناني الفارغة إلى المقهى الذي يجلس فيه، ويقوم بالتجربة أمام أصدقائه الذين تسقط فكوكهم دهشة أمام هذه المعجزة، لكنهم في الليلة التالية ينددون به، فأولادهم في البيت شرحوا لهم الأمر حين حدثوهم بما فعل الجد.‏

    سألت العم بصوت جاف:‏

    -وبعد ذلك؟‏

    -شعر الجد بالحزن واتهم أصدقاءه القدامى بالجحود وعدم الوفاء. مع ذلك فإن هذه الهواية لم تنخفض درجة حرارتها لديه، عندئذ شن هجومه على بيوت بناته المتزوجات:‏

    -هاتن بيضاً مسلوقاً.‏

    ووضعن البيض المسلوق أمامه.‏

    -هاتن قناني فارغة.‏

    وحين فعلن تكلل جهده بنجاح ساحق. غير أن الأمور أصبحت لا تطاق في كل البيوت التابعة لبيت الجد...‏

    -ألا يكف عن إدخال البيض في القناني؟.. كلنا نعرف أنه ضغط الهواء.‏

    كذلك علق معظم الأزواج، واتخذوا الإجراءات الصارمة بإفراغ جميع البيوت من البيض وكسر جميع القناني، حتى تلك التي هم بحاجة إليها، إلا أن هذا لم يثبط عزيمة الجد، فأخذ يحمل معه البيض والقناني.‏

    توقف العم كمال عن حديثه ثم سألني:‏

    -وكيف تخلص الجد من هذه الهواية؟‏

    -كيف؟‏

    -في إحدى الليالي تدرع زوج ابنته الكبرى بالشجاعة، وطلب من الجد بعد أن انتهى من إدخال البيضة، أن يقوم بإخراجها؟‏

    فتساءل الجد مأخوذاً:‏

    -ماذا؟‏

    -نحن نعلم يا عم أنك تستطيع إدخال بيض العالم كله في القناني.. ولكن اخرج واحدة فقط من كل ذلك البيض الذي أدخلته.‏

    انهزم الجد هزيمة ساحقة، وفي اليوم الثاني قال له معلم مادة العلوم:‏

    -لايمكن إخراج البيضة إلا بكسر القنينة.‏

    -إذن، ليس في إدخال البيضة أية حكمة.‏

    حزن الجد طويلاً، لكنه لم ينس أن يجلد محسن الصغير الذي جلب هذه الهزيمة إلى بيته.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()