- الحمد لله... مستورة!
وأسأله عن أحواله، فيطيل:
- أنا سعيد جداً... سعيد في بيتي، والفضل يعود إلى اختك أم محمد، ( وهو يقصد زوجته) وسعيد في عملي. عملنا، كما تعلم، في الطوارىء فحسب. نُدعى مرة واحدة إلى العمل في العام، أو لانُدعى. طول النهار وربما في الليل أيضاً مع زملائي. نعيش كالإخوة: فطور في الصباح، وفي أوقات المناوبة: شاي... قهوة... شاي. ونقضي الوقت في لعب الورق، أو الطاولة. نروي آخر «النكات» أو أخبار الفضائح.. نضحك من كل شيء.. وكثيراً مانغرق في حديث السياسة الذي لاينتهي... المهم أنا سعيد... سعيد جداً!
ونفترق، يمضي كلّ في طريقه. وتمضي شهور وشهور، قبل أن نلتقي ثانية، فيعيد عليّ «الاسطوانة» ذاتها. ولاأخلو، في كل مرّة، من نوع من الغبطة وربما من الحسد إزاءه. وأسرّ لي ذات لقاء، وهو عاجز عن كتم فرحته، أنه قد رُفّع وأصبح مسؤولاً عمن كانوا زملاءه بالأمس، واستقلّ بغرفة خاصة. وانتبهت إلى تغيّر في حركاته، وفي طريقة حديثه، وفي ملابسه كذلك، مما دفعني إلى الابتسام، وأنا أودّعه، وأستعيد صورته في خيالي.
وفي اللقاء التالي، بعد شهور، كان مقطباً، متأففاً، زاهداً في الكلام. فاضطررت أن أحثّه فانفجر:
- ياأخي..! هؤلاء الموظفون! إنهم لايُعطون وجهاً ولاقفاً. تعوّدوا البطالة! طول النهار: فطور، شاي، قهوة، ورق، طاولة، قصص. يتهامسون ويضحكون كالـ... استغفر الله العظيم. أولاد الحرام لايمكن ضبطهم. وكتمتُ ضحكة غالبتني، وقلت له مستغرباً:
- وماذا في ذلك مادمتم بلا عمل؟
قال صارخاً:
- عليهم بدلاً من تضييع أوقاتهم في السفاسف أن يكونوا على استعداد للطوارىء.
قلت:
- ولكن أنت.. أنت ماذا تفعل؟
قال وكأن هموم العالم على كتفيه:
- أنا..؟ أنا وحدي في غرفتي طول الوقت. أسمع أحاديثهم السخيفة، وضجتهم، وأنا أغلي من القهر.
وقلت ألتمس له الفرج من هذا المأزق:
- ولكن لماذا لاتشاركهم أنت، كما كنتَ تفعل من قبل؟!
قال مذعوراً، وكأني أهنتُ كلّ مقدّساته:
- أنا؟! هل أنت مجنون؟ كيف أشاركهم؟ هل تريد منّي أن أتنازل لهم؟ ألم أقل لك: إنّي أصبحت مسؤولاً عنهم؟ مسؤول..ياأخي.. ألا تفهم؟