بتـــــاريخ : 11/18/2008 7:11:37 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1281 0


    خبزٌ وجبنٌ وماء

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد قرانيا | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    قالت له حين شاهدته يحمل حجراً ثقيلاً على كتفه:‏

    -ارحمْ نفسك يا خالد، منذ الصباح لم تتوقف لحظةً واحدة..‏

    رسم ابتسامة متفائلة على شفتيه من دون أن يردّ، ثم تابع صعود السلّم، فأوصل الحجر إلى مكانه، وعاد إليها.‏

    -أتخافين عليَّ يا سلمى؟‏

    -الأجرُ الذي نتقاضاه معاً لمدة شهرٍ كاملٍ في العمل هنا، لا يكفي ثمنَ وصفةِ طبيب.‏

    جلس إلى جانبها على الأرض، عاود رسم ابتسامةٍ مشرقةٍ على شفتيه، غامت نظراته في اللانهاية تراود سيلاً عارماً من الأحلام والأماني.. عندما تزوج سلمى وجدَ نفسه مكبّلاً بالديون، وأفقُ القرية المحدود، لا يتيحُ له مجالاً لكي يعيش مطمئنّ النفس، ما دام لا يملك شبراً من أرض.. وأحلامُه المتوثبة تطيرُ به إلى البعيد، تحثّه على الإسراع والابتعاد عن الزرائب، والبيوت البائسة، والنزوح إلى ذلك العالم الرحب الفسيح الذي يمكن من خلاله أن يطلّ على العالم الآمن، والذي يمكن أن يهيئ له عملاً يأكل منه لقمة خبزٍ، ويبعد عنه أشباح الفقر والخوف.‏

    -ألا تشعر بالجوع؟‏

    قالت ذلك، ثم مدّت يدها إلى (الزوّادة) وأخرجت خبزاً وقطعتي جبنٍ، وقرّبت إبريق الماء.‏

    -كُلْ يا خالدُ‏

    مدّ يده، تناول قطعة خبزٍ يابسةٍ، وضعها في فمه، ثم أتبعها بقطعةٍ صغيرةٍ من الجبن، وأخذ يمضغها بأناةٍ بين فكّيه.‏

    البناءُ الذي يعملان فيه، يقع في بقعةٍ حيويةٍ من المدينة الكبيرةِ التي تبسط أيديها لتتشعّب وتمتدّ في كل الاتجاهات.‏

    أرسل نظرةً إلى الأبنية القريبة من حوله.. طالعته الشرفات الرحبة، والنوافذ الزجاجية النظيفة، وألوان الواجهات الجذّابة، اعتمل في خاطره سؤالٌ محيّر: "من أين يأتي أصحاب هذه الأبنية بالأموال؟!".. وينبسط العالم أمام ناظريه" من جديد.. يستعيد بعض لحظات البؤس التي مرّ بها بعد الزواج حين كان الرغيف يستعصي عليه، لولا حنانُ أمه التي كانت تحرمُ نفسها لتوفره له ولعروسه.. يمعن النظر فيما حوله. تنفتح أمام ناظريه من جديد أبواب البيوت ونوافذها المطلية بألوانٍ محبّبةٍ للنفس، تنزاح الستائر عن صورٍ ولوحاتٍ جداريةٍ رائعة، يرى بباصرته الكراسيَ الفخمة والأسرّة الثمينة، عامرةً بالحبّ والسعادة.‏

    -كُلْ يا خالد. ما بك؟‏

    وضع لقمةً ثانية في فمه. حرّك قدمه، أحسّ بالتعب، مرّ بأصابعه فوقها. انتابته رعشةٌ عابرةٌ، عادَ يسرح بنظراته إلى المنازل الجميلة الوادعة، والسيارات الفارهة التي تربض على الأبواب، كالخيول المطهمة التي أنهكها السباق.‏

    -"هل يمكن أن يمتلك سيارةً من عرق جبينه، ومن كدّ زوجته؟"‏

    أضحكته الفكرة "كيف تفكر في امتلاك سيارةٍ، وأنت لا تملك شيئاً، رأسُ مالك عرقُ جبينك.. ماذا لو مرضت.. هل تتصور ما يمكن أن يحدث؟!".‏

    ازداد شعوره بالبؤس، ما أعمق الهوّة التي تفصله عن هؤلاء الناس، الذين يمتلكون بيوتاً فخمةً وسياراتٍ فارهةً، عادَ إلى واقعه. إنه يبدأ من الصفر، والطريق وعرةٌ، وهذه الأمانيّ والأحلامٌ هل ستفيد في شيءٍ.. والمسافة شاسعة بين الحلم والواقع، والرحلةُ طويلةٌ وشاقةٌ، ثم أين ستنتهي هذه الأحلام، ولعنةُ البؤس متغلغلةٌ في عظامه، وهي تطارده منذ أصبح سيداً في مملكة الزوجية المجرّدة من كل شيءٍ باستثناء رغبةٍ عارمة في العيش، ومغالبةِ الحياة؟!‏

    -ما بك اليوم يا خالد. أين تسرح؟!‏

    وضع لقمة ثالثةً في فمه. قطعةُ الخبز جافةٌ يابسةٌ، جرحت شفتيه . مضغها جيداً. حاول ابتلاعها. وجدها تقف في حلقة مثل كتلةٍ من الشوك، مدّ يده إلى الماء. دفع باللقمة قسراً إلى جوفه. انزلقت بصعوبة.‏

    عددٌ من العمّال حوله يؤدون أعمالهم برتابةٍ معتادة. العرقُ يغسل الجباه، والزنود. قبضات الأيدي تمسك بأدوات البناء كما تمسك أيدي الرسامين المهرة بفراشي الألوان. كل يدٍ تصنع جزءاً من اللوحة الجماعية. العرقُ يمتزج بالغبار، ورغبةٌ صادقةٌ تدور في كل نفسٍ، تحاول أن تبني نفسها، كما بنى الآخرون البيوت، وامتلكوا الأشياء الجميلة العذبة. نزَلَ ببصره إلى الشارع القريب. انتبه إلى الحياةِ الصاخبة الموّارة..‏

    -انظري يا سلمى:‏

    -ماذا هناك؟‏

    -سيارةٌ تسير الهوينى، يقودها شاب وسيمٌ تميل عليه فتاةٌ شقراء.‏

    يتابعان الصورة. تتوقف السيارة جانب بائع أزهارٍ. يترجّل الشاب والفتاة. يشتري الشاب وردةً يعلّقها على صدر فتاته. يعودان إلى السيارة..‏

    نظرتْ إليه. كان وجهه يطفح بالبشر هذه المرة. شعرت بشيءٍ من الرضى.‏

    قال متلهفاً من جديد:‏

    -انظري سلمى.‏

    -ماذا هناك أيضاً؟‏

    تلك الحسناء التي تقود كلباً على الرصيف.‏

    -...‏

    -في العالم كثيرٌ من السعداء‏

    -سعداء؟!‏

    وقعتْ كلمتُها على مسمعيه مثل نقطة من الماء البارد على جبينه المتعرّق. نظر إليها مليّاً. طالعه وجهها الحنطي المزين بلفحة الشمس. بأجمل الصور. رأى في عينيها السوداوين ألقاً وسحراً. شعرَ أنه يكتشفه أولَ مرة.‏

    -ونحنُ سعداء يا خالد.. ألا يكفي أننا نكسب من تعب أيدينا ونعيش؟‏

    -صدقْتِ. نحن نعيش.‏

    -ونأكل خبزاً وجبناً.. أليس الجبن غالي الثمن هذه الأيام، ولا يستطيع شراءه سوى الأغنياء؟!‏

    -صحيح يا سلمى. الأغنياء يأكلون الأطعمة الغالية الثمن، الجبن والعسلَ واللوزَ والموزَ ويلبسون الحريرَ، ويتحلّون بالذهب، والأحجار الكريمة، ويغتسلون بالحليب والعطر، وينامون على أسرّةٍ من ريش النعام والزنبق، ولا يشربون الأشربة إلاّ إذا كانت في زجاجات مرسوماً عليها الحصان الأبيض، أو مصوّراً عليها السيد جون ويكر وأفرادُ أسرته المحترمون، ويدخّنون السجائر الطويلة ذات الذيل المذهّب..‏

    رمقته سلمى بعينين مندهشتين، وقد أصابتهما الحَيرة لما سمعته.. قالت مستغربة:‏

    -خالد. ما بك اليوم؟ هيّا كُل الآن، فقد طالت فترة استراحتنا.. ثم ما لنا ولهؤلاء الناس الأغنياء؟ ومتى كنت تنظر إلى من هم من غير طينتك؟؟ نحن في وضعٍ أفضل من غيرنا.. انظر ماذا يأكل العمال الآخرون؟!‏

    اصطنع ضحكةً باردة.. تناول الإبريق. بلّلَ شفتيه بالماء، ثم نهضَ، وهو يتمتم بصوتٍ خافتٍ:‏

    -نحن نأكل جبناً مع الخبز، ولكن لولا عنزةُ أمي لما أكلنا إلا خبزاً وماءً..‏

    تساءلت وهي تهمّ باللحاق به قائلةً:‏

    -ماذا تقول يا خالد؟!‏

    ..‏

    حين نهضا، ناداه المشرف:‏

    -صاحب البناية، يطلُبُ إليك أن تنزل مع اثنين من العمال لتفريغ السيارة من صناديق البورسلان.‏

    كانت تلك فرصة محبّبة إليه يرتاح فيها من نقل الأحجار الثقيلة على كتفيه وصعود السلالم.‏

    اتجه إلى السيارة.‏

    نادى المشرفُ سلمى. أخبرها برغبة صاحب البناية في تجهيز الشاي داخل غرفة الحارس. تلكأتْ سلمى. لم تكن ترتاح إلى نظرات صاحب البناء، ففي المرات السابقة التي جهزت له فيها الشاي، وجدت في نظراته وتصرفاته وغداً لئيماً.. ولكن ماذا تفعل. لا يمكنها أن ترفض، حفاظاً على لقمة العيش، كما يصعب عليها أن تقبل، لأن مسألة الشرف لا يمكن التفاوض عليها. أقلقتها الأفكار. تقدّمت خطوةً ثم توقفت..‏

    حثّها المشرف على المضي. دخلتْ.. رسمتْ على ملامحها تقطيبةً مكفهرّة، وجدته متربّعاً على كرسي في صدر الغرفة، طالعتها ابتسامتُه الشمعيةُ. لم تتكلم، بحثتْ نظراتها عن الإبريق.. جاءها صوتُه مخيفاً على الرغم من خفوته:‏

    -اجلسي يا سلمى.. افتحي هذه اللفافة وأخرجي طعام الإفطار.‏

    قبل قليل كان خالد يهذي بألفاظٍ مبهمةٍ عن الأطعمة والموسرين، وها هي الآن تتجسّد أمام ناظريها جليةً واضحةً.. انصاعت للأمر. ملأت أنفها رائحةُ الدجاج المشوي. تلوّثت أصابعُها بالدسم تذكّرْت كيف كانت -في المنزل- تلعق أصابعها عندما تتلوث بالطعام، لكنها الآن لا تدري كيف تتصرف.. استدارت تهمّ بالخروج. ناداها:‏

    -انتظري يا سلمى، أجْرُكِ لن ينقصَ شيئاً. تعاليْ وشاركيني الطعامَ..‏

    لعنته في سرها، قابلت دعوته بالامتعاض، رأت في نظراته ذئباً مفترساً ينظر إلى حملٍ.‏

    -حسناً . إذا كنتِ تخجلين من مشاركتي الطعام، فخذي هذا الفخذ.. أنت تتعبين ويجب أن تتغذي.‏

    نهض. أمسك بيدها، قدّم لها جزءاً من الدجاجة. كانت ترتجف. وقعت قطعةُ اللحم عند باب الغرفة. تركته وخرجتْ..‏

    -ما بك يا سلمى؟! ماذا هناك؟!!‏

    أنقذها صوت خالد، كان صوته أشبه بيد سبّاحٍ ماهرٍ تنتشلها من الغرق في بحرِ المرارة والألم.. شعرت بالقوة.‏

    -السيد دعاني لمشاركته الطعام، وعندما رفضت أمسك يدي ليعطيني قطعة اللحم المرمية تلك..‏

    ردّد نظره بين الرجل وقطعة اللحم. غامت الرؤى في عينيه، امتلأ وجهه بالغضب، تمتم في غير وضوح "الأغنياء هم الأغنياء" ثم التقط قطعة اللحم واندفع نحو الرجل، وبأقصى ما يمكنه من القوة ضرب وجهه بها، ثم بصق، وقال قبل أن يستدير ويصطحب زوجته:‏

    -كُلِ اللحمَ.. املأ كرشك، الكلابُ وحدها تحبَّ لحمَ الجيف!.

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()