بتـــــاريخ : 11/18/2008 6:30:32 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 885 0


    المغــــّـــني

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أنيسة عبود | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة المغــــّـــني أنيسة عبود

    "لااستطيع أن أصدق ذلك".‏

    1)‏

     

    الجميزة الوحيدة عند الزاوية تهدلت أغصانها، لامست الرصيف. كان الهواء يعبث بأغصانها ويطلق صوتاً شجياً كأنه أنّات عوده الحزين، مدرسة البنات المجاورة -للجميزة- خرجت كلها. اصطفت البنات ثم جلسن على الرصيف. راحت الجميزة تنتحب، فانتحب الجميع. لا أقدر kأن أصدق.‏

    الفتاة ذات الشعر الأسود والقامة الهيفاء، الذابلة النظرة، راحت تلم الدموع في كفيها. بين الأصابع الرقيقة نبتت زنابق بيضاء وأزهار النرجس. همست "هذه رسائله لي".‏

    المغني اعترف بأنه يحبّها. المغني لم يودعها ولم يترك على نافذتها أغنية. كان من المفترض أن يكون هنا الآن، لكنه مضى. الأقاويل بالجملة.‏

    المعلم جابر أرسله خارج المدينة لأنه فزع من عوده.‏

    المعلم جعفر أرسل حراسه كي يربطوه إلى صخرة في الشاطئ حتى لاتعشقه بنات المدينة.‏

    لكن حورية بحرية خرجت من الماء. فكت قيوده وأطلقته إلى الزرقة.‏

    حين تمر في حارته -أمام بيته- ترى شجرة زنزلخت تهرق أوراقها باستمرار على المارين. الأشجار تبكي ياإبراهيم.‏

    الأشجار لها روح، إنها كائن حي، تذبل، تموت، إذن تقدر أن تبكي.‏

    لكن المغني لم يعد.‏

    (2)‏

    ياجدتي: لو أنك تشترين لي عوداً. أغنّي لك في الليالي الباردة. أدندن في الليل الطويل فيقصر. ياجدتي: أحلم أن أملأ الحقول بالغناء. هه. اسمعي. أورفيوس يدندن. يناديني. يملأ أصابعي. ياجدتي: يا...‏

    غطت العجوز وجهها ورأسها جيداً باللحاف القطني البالي. لاتريد أن تسمعه كي لاتنجرح روحها فهي غير قادرة على تحقيق الحلم. حبا على يديه. شدّ الغطاء عن وجهها، ابتسمت، حضنته ونامت.‏

    ........‏

    أشتري خشب الأشجار. أشتري مناديل الحرير. أشتري الزجاج. أشتري. و..‏

    كان البائع الجوال ينادي في الحارات. يدور على القرى. يردد نداءه فيفزع الشجر ويتكور.‏

    "أتشتري هذه الشجرة؟ "‏

    "شجرة توت.. ؟!! أجل"‏

    راح البائع يلمس ساق الشجرة. تأوهت الأغصان. بكت العجوز.‏

    "أتبيعينني؟"‏

    "مضطرة.. سامحيني"‏

    اندهش البائع إذ رأى الأوراق تسقط والشجرة تتعرى خلال دقائق. مرت نسمة هواء، كنست الورق، ظهرت كومة سنين قديمة. تدلت من الأغصان عقود البامياء المجففة. وسخابات اليقطين اليابس. حكايات العجائز. سيقان الأطفال تصعد لتقطف ثمار التوت، مناديل الحرير التي تغذت ديدانها على الورق، غامت السنوات والحقول والجهات في عيني المرأة العجوز.‏

    مع ذلك: همست بصوت متقطع: "إقطع".‏

    الشجرة تميل. تميل. ماأصعب أن تصير القمم نائمة على التراب. هوت الشجرة. سقطت. دخلت العجوز مسرعة إلى المنزل. لاتريد أن ترى شجرة التوت ميتة كخروف مذبوح. عدت النقود. ربطت زاوية منديلها على غلّتها. ثم غادرت المنزل إلى عند أصدقاء لها في قرية أخرى.‏

    ... ... ...‏

    ياجدتي: اسمعي. كنت أسير في الحقول. سمعت أورفيوس يغني ورائي. التفتّ. ظلّ يعزفّ. رأيتَ رتلاً من الحوريات. كل واحدة مثل سمكة. تتلوى. ترقص. الشجر يرقص. ياجدتي: صرت أغني لكنّي أحتاج إلى عود. أريد أن أعزف للدنيا.‏

    طوق جدته بذراعيه. أصابعه حبق.. صوته كشذى الياسمين. غنّى "شفتك ياجفلة".‏

    رقصت الزواريب. نهضت حجارة النهر. تضايق الشيخ نعمان. ماهذا ياعجوز؟ حرام. حرام.‏

    "لماذا ياشيخ؟ هل يؤذي أحداً؟ هل يسرق أحداً؟ هل.."‏

    الشيخ يكيل الشتائم للمغني الصغير، يحرمه دخول بيته، يحرمه اللعب مع أطفال الحارة. لكن الطفل ينمو مع الغناء والعصافير.‏

    ... ... ...‏

    أريد أن أبيع هذا المنديل يازلفا.‏

    طوت العجوز منديل الحرير. وضعته في قطعة قماشية. وأعطته إلى زلفا.‏

    تبيعين منديل رأسك ياجدتي؟!!‏

    لم ترد العجوز. ولم تحاول النظر إلى عينيه. قرفص الولد أمام جدته وراح يقبل يديها.‏

    "إذهب غداً واشتر عوداً يابني"‏

    "ولكن..."‏

    "همس. ماقلته لك تسمعه. ألست مكان أبيك وأمك. و.."‏

    غصّ الطفل. تذكر أنها والده وأمه.. و.. هي مكان الأب الذي استشهد ومكان الأم التي تزوجت. هي العالم كله.‏

    "فركت" العجوز شعر رأسه بيديها. ابتسمت له كي تنتشله من حزنه -هيا- غنّ لي.. انطلق الولد يغني. لكنه صمت فجأة إذ راح يحلم: غداً ياجدتي أذهب إلى العاصمة. آخذك معي. أشتري لك عدة مناديل. وربما سآخذك إلى أوروبا، حيث ستركبين الطائرة.. و... ياه.. ياجدتي.‏

    غمغمت العجوز -إذا عشت.. أتأكل؟ "‏

    هي تعد العشاء. وهو يغني ويحلم.‏

    .......‏

    المغنّي مرَّ من هنا حاملاً عوده.‏

    المغنّي غنّى في ساحة المدينة.‏

    صار اسمه على كل لسان. عندما عاد من حفلة مسائية وجد الشيخ في طريقه. شتمه الشيخ ودعا عليه وشتم الجدة. لم يخبر الجدة. لكنه لم يتناول الزوفا الملينة للحبال الصوتية قبل النوم. فقط قال لجدته. أريد ياجدتي أن تأخذيني إلى المعلم "فهد"، له أيدٍ كثيرة، وله أصوات تدق كالطبول. إنه يقدر أن يساعدني. الفن يحتاج إلى من يرعاه. والفنان يحتاج إلى من يقتنع بموهبته ويشدّه إلى الأعلى.. لقد مللت. مللت. أريد أن أخرج إلى دائرة أكبر.‏

    "حاضر يابني.. "‏

    المغني لايعرف ماهي الوسيلة التي اتبعتها العجوز للوصول إلى المعلم فهد. ما الذي باعته؟ ما الذي قدمته للذي وصلها بالمعلم؟! لا أحد يعرف. المعروف أن المغني راح يفاخر. سهرت عند المعلم فهد. ذهبت إلى عند المعلم فهد. و...‏

    ... ... ...‏

    كان ذلك منتصف الليل. قُرع الباب بشدة على العجوز. كانون بارد. وشتاء القرى موحل.. "نائم؟!"‏

    "أجل.. ماذا هناك"‏

    "المعلم فهد يريدك. لم يستطع أن ينام لأنه حزين بسبب خسارته في البوكر في بيروت. هو ينتظرك"‏

    "حاضر..." لبس المغني. حمل عوده ودعاء جدته ومضى.‏

    عاد منهكاً.. يتلوى من السهر..‏

    بعد عدة أيام. كان الرعد يشق الصمت. ويهرق البرق على القرى.‏

    مع ذلك جاؤوا وسحبوا المغني من فراشه (المعلم يريدك. عنده ضيوف ويريدك أن تسلّيهم وتعزف لهم)‏

    إذا قلق المعلم، يجب أن يذهب المغني. إذا زعل المعلم...‏

    بعد فترة زعل ابن المعلم الصغير من أستاذه، فكان على المغني أن يخفف زعله. وعندما انزعجت ابنة المعلم من عشيقها نادوا المغني، وعندما أزهرت شجرة اللوز حضر المغني ليصف جمالها وودعتها.‏

    و...‏

    زعل المعلم. فرح المعلم. لم ينم المعلم. المعلم صار يفرّخ معلمين ومعلمات. والمغني وحده تاركاً جدته العجوز.‏

    مرة هرب، لكنهم وجدوه فأمر ابن المعلم الصغير بربطه إلى الشجرة الكبيرة المتاخمة للمدخل. ومرة غادر المدينة. أرسلوا إليه رجالاً مسلحين. قالوا له: استأذن قبل أ ن تسافر. في مرات قادمة لاتفعل ذلك.‏

    في آخر نوبة قلق للمعلم فهد. حاول المغني أن يخفف عنه فلم يقدر. لذلك ضربه وأمره أن يبقى عدة أيام لايغادر.‏

    "حاضر يامعلم. "‏

    الروح تحترق. العالم بدأ يضيق. صار يلمس أوتار العود بعصبية‏

    "يامعلم. أرجوك. أريد.. أن.."‏

    "لم تنته المدة بعد.."‏

    وعندما انتهت المدة. عاد المغني. قرع الباب على جدته العجوز لم تفتح له. ناداها عزف لها. لم تفتح. ركل الباب بقوة. كسره. دخل.‏

    رآها جثة متعفنة. مزق قميصه وضرب عوده بالأرض. قرفص يبكي.‏

    "لماذا فعلتَ ذلك يا بني؟".‏

    "ماعدت أريد أن أغني ياجدتي".‏

    وضع الورد على قبرها، أشعل البخور وما إن جلس يتلو القرآن حتى انتصب له رجال المعلم فهد.‏

    "نعم"‏

    "المعلم يريدك. لم يقدر أن ينام".‏

    "....."‏

    "فلنا لك. المعلم يريدك."‏

    "حاضر. اسبقوني. سألحق بكم."‏

    لكن لم يلحق بهم. فتش المعلم فهد القرية. فتش المقبرة. لكن المغنّي اختفى، على الرغم من أن من يمر أمام بيت العجوز يسمع دندنة عوده ويسمع نشيج امرأة عجوز. النشيج لاينقطع. والمدينة ماتزال حزينة تنتظر عودته.‏

    لكن المغنّي لم يعد حتى الآن.

    كلمات مفتاحية  :
    قصة المغــــّـــني أنيسة عبود

    تعليقات الزوار ()