أنا باب اشبيلي، تفوح من بين درفتيَّ رائحة الأندلس وأمجادها. اليوم، سأتخفى في إهاب إنسان، لأنقلكم إلى أيام المعتضد. سنسير معاً عبر الزمن، نستنهض التاريخ، ونحقق رغبة، ونروي فضولا.
منذ مدة وشهوة الكلام تتملكني. والحنين إلى الماضي يستهويني. إلى زمن كنت فيه، أغمض عينيَّ على قصة، وأفتحهما على قصة جديدة. حين زخرفوا جسدي بألوان من النقوش، وملأوا فراغاتها بقطع من العاج وفصوص من الحجارة الكريمة، أدركت أنه سيكون لي شأن ما، وصدق حدسي. فقد جاء بي رجال الخليفة المعتضد إلى أهم قاعة في قصر اشبيليا، وجعلوني شاهدا على عصره وعصر من تلاه من أبناء وأحفاد. في هذا القصر، لم تداخلني مشاعر الغربة. بل عشت فيه بألفة مع الأبواب الأخرى، ومع الناس المترددين على غرفه وقاعاته.
مهمتي في هذا القصر ابتدأت، مع بدء الحياة فيه. حيث كان كل شيء لامعاً ومبهراً. لدرجة تمنيت فيها، لو تنبتُ لي أصابعُ لأتلمّس بها الجدران الرخامية، وأفاريزها المخرمة المزينة بالكتابة العربية والآيات القرآنية. سقف قاعتي مذهب، وأرضها مرصوفة بالفسيفساء الملونة. ونوافذها وسيعة، تربط الداخل بالخارج. تُمتِّع الجالس بمنظر الآفاق البعيدة والقريبة، وبرؤية نافورات الماء، المحفوفة بأكاليل من الأشجار والزهور، وكأنها درر بين زبرجد مكنون. لا أظنكم بعد سماعكم هذا الوصف، تستغربون أنسنتي. فالعمارة هنا مجبولة بروح الإنسان وفكره.
في هذا القصر، يعيش (المعتضد) الطاغية الطموح. الذي بسط نفوذه على عدد من الممالك الأندلسية، بعد أن قتل ملوكها وولاتها. حتى تحولت ساحة قصره من حديقة للأشجار، إلى حديقة لأعواد تنتصب فوقها رؤوس الرؤساء وأجسادهم. ويحزّ في نفسي، أني هرمت، ولم يتسنّ لي أن أمارس حريتي في هذا القصر كما أحب وأريدّ. فالجنود والحرّاس، لا يغفلون لحظة عن مراقبة كل من يمرّ عبري دخولاً وخروجاً. وبدلاً من أن أكون حامياً صرت محمياً. ومع هذا، لا أنكر أني كنت سعيدا وفخورا، لأنّ وراء أسواري يجلس المعتضد، ملك اشبيليا.!
* * *
كنت أتابع أخبار القصر ومجريات الأحداث فيه، أولاً بأول. إمّا من مصادرها مباشرة، أو من زملائي الموزعين في أنحاء البناء.
وإن أنسى، لا أنسى ذلك اليوم الذي قامت فيه قيامة القصر ولم تقعد. لخروج ولي العهد اسماعيل مع مجموعة من البرابرة والعبيد، على أبيه الخليفة المعتضد. اللعبة كانت مهولة، وأكبر من قدرتي على فهمها واستيعابها. فأمسكت قلبي بيدي ليقيني، أنّ اللعبة ستنتهي ببعضهم إلى السجن أو القبر.
تألم المعتضد وتألمنا معه، لموقف ابنه اسماعيل. فحاول بمحبة الوالد أن يحاوره، علّه يثنيه عن موقفه.
- ما الذي دهاك يا بنيّ لتفعل ما فعلت؟
- لم أعد أطيق جشعك، وتقتيلك للملوك.
- لكنك كنت عوني وعضدي في هذا الأمر!.
- صحيح، وقد مللت سطوتك وبطشك.
- لماذا لم تصارحني برأيك، قبل أن تتمرد وتشق عصا الطاعة.
- لأنك لم تعودني على المصارحة والحوار. ولا تسمع غير صوتك.
- في بعض المواقف، يكون التفرد بالقرار ضروري. فأنا أبني لك ولبني عباد، ملكا يمتد على جميع أرض الأندلس. لتنعموا فيه من بعدي، أنتم وأولادكم.
-أريد العرش الآن. تنحَّ عنه، واتركه لي.
- دورك آت يا بني. أم نسيت أنك وليُّ عهدي؟.
- لم أنسَ، ولا أرغب في الانتظار.
إزاء موقف اسماعيل المتصلب، كان لا بدّ للمعتضد من محاولة ما، للتوصل إلى حلّ معقول بهذا الشأن، قبل أن يقوم بفعل يندم عليه. فأمر بحبس إسماعيل في القصر، علّه يرتدع ويثوب إلى رشده. لكنّ اسماعيل لم يرعو، وبقي على رغبته في عزل أبيه من الحكم.
وجاءت لحظة الحساب التي حاول المعتضد أن يهرب منها، وتمنيت أنا نفسي أن لا أراها. فقتل ابنه بيده، وقضى على الفتنة.
طعم المرار يملأ فمي لهذه التداعيات الأليمة التي أحزنتني حين وقوعها، كما أنها تحزنني الآن. وكم من مرة تساءلت، ترى هل السلطة وشهوة الحكم هما اللذان يغيران المشاعر الإنسانية، أم أنّ الإنسان هو الذي ُيغيّر ويتغيّر؟. وكم من مرة فكرت، لو أنّ المعتضد وابنه عادا إلى الحياة، ماذا يقول واحدهما للآخر؟ هل يعترف إسماعيل بطمعه، ويعتذر من أبيه؟. وهل يظهر المعتضد ندمه، لإقدامه على قتل ابنه؟
* * *
بلغني أنهّ بعد وفاة المعتضد، خاف الناس على العرش من ابنه (المعتمد)، كونه شاعراً محبّاً لمجالس اللهو والغناء، متلافا للمال وصديقا للشاعر الماجن ابن عمّار. لكنّ المعتمد، أثبت أنه لا يقلُّ عن أبيه شجاعة وبسالة، بامتلاكه غرب الأندلس، وإعلاء يده على من كان هنالك من ملوك الطوائف. وفي محاربته الفرنجة، وصدّه (ألفونسو) عن أبواب اشبيلية وقرطبة.
وهذه الأعباء لم تمنع المعتمد، من أن يكون إنسانا، مرهف الحس شغوفا بزوجته (اعتماد الرميكية)، ساعيا لإرضائها. وعلى سبيل الطرافة، سأنقل لكم ما بقي في ذاكرتي عن (يوم الطين)، الذي ابتدعه المعتمد من أجل زوجته اعتماد. التي اشتهت أن تمشي حافية في طريق موحل، مثلما تفعل نساء البادية اللواتي يبعن اللبن في أزقة اشبيلية. فأمر المعتمد باحضار العنبر والكافور وماء الورد لتخلط معا، حتى تصير طينا. ودعا (اعتماد) لتخوض فيه. إنه سحر الحب، ألستم معي في ذلك؟
يحزنني، أنّ الأيام لم تصفو للمعتمد كما كان يأمل. فقد طمع في ملكه (يوسف بن تاشفين)، صديقه وحليفه في حروبه ضد ألفونسو. فقتل ولديه، وأسره مع زوجته اعتماد في مدينة (أغمات). وبهذا، دالت دولة بني عبّاد. فسبحان الحي الباقي.!
بعد الذي رأيته من صنيع اسماعيل، وصنيع ابن تاشفين. صدقوني إذا قلت، إنّ الندم يعتصرني لتقمصي إهاب إنسان ولسانه. لكنْ يعزيني، أنّ قلبي لحسن حظي ما زال قلب باب