بتـــــاريخ : 11/18/2008 6:27:04 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1038 0


    مجرد عبور إلى

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أنيسة عبود | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    أنا التي أسمعه أينما كنت "‏

    حبيبي الذي أشرب صوته -كل صباح- مع القهوة، لم يتصل هذا اليوم. بردت القهوة. تكومت على نفسها، نعست وأمالت برأسها ثم أخذت تفرط دموعها على الطاولة.‏

    فتحت النافذة، رأيت الشمس تخرج من قميصها وتمضي. ورأيت الصباح يتمشى في الشارع. دعوته لكي يشرب القهوة. رفض. ضاق المنزل.‏

    اكتأبت زهرة الجلّنار على النافذة. أرخيتُ الستائر. استرخى الظلام., أنا صرتُ قبرّة تنقر القهر.‏

    (2)‏

    هو. مشغولٌ جداً، يرتب أزمنة وجهات. يجمع أبجديات بين يديه وساحات. يرتب عقولاً ووصايا. أشياء، وأشياء، الهواء القادم سيخربط كل شيء صدقني.‏

    يقولون: يأتي الهواء محملاً بذرات صغيرة من مادة النسيان. تلتصق بالثياب فتذوب الثياب. تلتصق بالمدى فيصير أصغر من بيتي. تلتصق بالقلب فيفنى الشوق- ألستُ قلبك؟!- إنه الهوى الغربي-‏

    أنا أخاف الهوى الغربي. أخاف أن يلفحني فيحوّلني إلى شجيرة "كفّ مريم" أكفّها مليئة بأشواك القسوة. أمشي في الشارع. أقطع الشجيرات الصغيرة. أدوس أصابع الأطفال ولا أزعل. أملأ جيوبي بدموع المظلومين والثكالى ولا أزعل. تهزني أمي كشجيرة "سماق" "مابك. ما بك؟"‏

    - لا أعرف ما الذي بي يا أمي، لكني مثل كل هؤلاء. أمدّ يدي باتجاه مدينة متاخمة للشوح والقيقب، مدينة من القصور الفارهة.‏

    يمرّ البرد عليها فلا يرتجف ورق الشجر. ويمرّ الفقر في شوارعها فيطلقون عليه النار. يكسرون أضلاعه. يزحف. يجرجر نفسه إلى القرى المحيطة. يصل قريتي. يركض وراءه الأطفال. ينهض. يمسك بأحذيتهم. يدخل البيوت. يعيش آمناً. وكل مساء يتعشى خبزاً وزيتوناً ويشرب شاي الحلم. لو أنه يموت وندفنه في مقبرة القرية- سيخرج مرة أخرى".هل "مرَّ الهوى الغربي يا أمي؟!"‏

    طفل "مكرمش" الأصابع يمسح زجاج سيارتي المهترئة. ينغرس في الصقيع. "هل أنت في المدرسة؟"‏

    تنفتح الإشارة. تقع ممسحته تحت الدواليب، أنظر إلى الطفل عبر المرآة، لكنه يضيع في زحمة السيارات، أبتعد. تتحجر الآه في فمي. ككل الناس. أصير صخرة.‏

    (3)‏

    حبيبي... أخاف الهوى الغربي. الهوى الشرقي يشقق الأصابع. خالي العجوز يجزّ خشب السنديان ويشعل القرامي. الهوى الشرقي. أغلقْ في وجهه الباب. الهوى الغربي يفّرخ حقولاً بلاستيكية مصهورة.. يفرخ أطفالاً يلعبون بالأقمار المحروقة. ونساءً من رصاص ورجالاً من فزاعات. حبيبي. كيف أحتمي من الهوى الغربي؟‏

    أوزع الزعتر البريّ على المفارق وأصعد الجبل الذي تقف على كتفه أشجار السنديان وتقعد على حوافه نوافذ حبيبي وقمصانه المعلقة بأغصان الزعرور، ثم أشعل البخور وأوّزع الخبز اليابس ربما تنزل الآلهة من الأعالي.. تمشي بين الناس. تراني. ترى. تسمع. تتألم. أنصير نشبه الآلهة؟!‏

    عصفور الدوري ينتقل من غصن إلى غصن. ينقر ندى المسافات. يغطّ على كتف امرأة عجوز. يسخرمنها. تذرف المراة دموعها وتشتم الزمن. و.‏

    (4)‏

    حبيبي مشغول. يوزع صوته على الجهات كي يلمّ أطراف الريح. ألو- كيف؟ مين. ألو.‏

    "ألم تعرف صوتي؟"‏

    "لم أعتد على الصوت الرسمي"‏

    لا أقدر على الكلام. صوته يصير قطع ثلج تنهمر. لو نشعل نار اللهفة. انتهى الحطب. نستعير. وحده هذا الحطب لا يعار.‏

    ألو... ما زلت أنتظر أن يتصل حبيبي قبل أن تنزل الشمس إلى قاع البحر وتأكلها الحيتان. عند ذلك يتوزع ضوءها إلى قمصان أرجوانية. يتنازع عليها الملوك والقادة، وتقوم الحروب. وإذ تضيق الأرض بالقتلى والجوعى والهوى الغربي الفتّاك و العصافير الميتة في الجيوب، والأشجار الباكية، عند ذلك يصعد المناضلون، الـ.. المحاربون، إلى القمر وعلى سطحه المجال واسع للقتال.‏

    "انهض يا جميل بثينة. قم. لقد قتلوا القمر الذي أهديته لحبيبتك"‏

    ظل جميل يشخر. أي عاشق هذا؟! تناثر القمر. ترمد. انحنت النفوس تحت الوطأة. الـ..‏

    آه. قلبي يصير قبّرة فزعانة. أصابعي ورق زيزفون باهت. وجهي برتقالة. أمي تطحن الأيام. وحبيبي لم يتصل بعد.‏

    (5)‏

    أنا أحبّ. إذن أنا موجودة.‏

    بيت حبيبي في الأعالي. يمدّ يديه يمسك بالغيوم. تنزل بهدوء. تنسكب في كأسه دون قسرٍ. أنزل وحدي" يشرب كأس الزعل الذي أورق مرة وصار شجيرة عليق على تخوم الهوى. لا أحد يجرؤ على اقتلاع الشوك حين يكبر.‏

    "لا تحاول... إني مزروعة على هذا الكرسي اللعين".‏

    "تعالي... أفتح لك سبع مدائن تليق بك. بجسدك البحري. بـ "لاتحاول لن أفك يدي عن الكرسي"‏

    يحاول اقتلاعي. يجهد نفسي في رفع المرأة والكرسي. يجهد رغباته. يخرج الشوق من زوايا روحه يملأ القاعة المزدانة بالأبواب السرية والرغبات السريّة. هو يندلق على الأرض كوحل. وهي تزهر وتبكي. "يلعن أبوك.."‏

    هذا ليس حباً، هناك يبيعون الخبز والبصل الجسد. هناك من يشتري. ما أكثر الذين يشترون.‏

    حبيبي لم يتصل بعد. قهوتي بردت. غرفتي‏

    امتلأت بالشوك.‏

    كيف نقتلعه؟!‏

    أنا أقول لك كيف؟ بالشوق، بالحب... "حقاً...؟! كل الأعالي تنزل بالشوق تهبط إلى الساحة.‏

    (6)‏

    حبيبي الذي يدور في الساحة كل يوم، ينبت وراءه كلام كثير. البارحة انتظرته تحت الشجرة الواقفة في آخر الرتل قرب مصباح لا يتعب. ناداني الشرطي:‏

    "ماذا تفعلين هنا؟"‏

    "أنتظر حبيبي"‏

    "من حبيبك؟"‏

    الذي يصطاد الغيوم العالية ويفصل منها قمصاناً لي. الذي يقطف الجبال عن نافذة بيته الذي. "كفى. كفى"‏

    "هل أتابع؟"‏

    "لا. لقد عرفناه. يمرّ كل يوم. قولي له أن يحصد الكلام الذي تطاول وملأ الساحة. صار يعيق مرور "الهوى الغربي"‏

    امتلأت أصابعي بالضحك. تنبه الشرطي. خبأت ضحكتي. "إذاً تعب حبيبي..؟!‏

    قلت لك مرات: إذا قلت آخ تشهق الأشجار. وإذا تأملت بكت نوافذ بيتي. على فكرة عرفت شرفة بيتك المعلقة على حلم بعيد، بعيد، باب الشرفة ينفتح على مخيلتي. ابتسم شعرت بصوته العذب يتقصف على جسدي"‏

    تحبينه؟!!‏

    سأل الشرطي الصارم:‏

    "لا أعرف. لكّني أحبّ صوته. ورائحته. ويديه..."‏

    "إذن لا تعرفين . افتحي الحقيبة".‏

    كنت أجرجر حقيبتي الثقيلة وأركض لألحق بالحافلة. فقد مللت الانتظار وقررت العودة.‏

    لا يوجد في حقيبتي سوى الثياب.‏

    "الثياب!! قلنا افتحي الحقيبة. ربما أنت حرامية... قد تسرقين بحراً. قمراً. ساحة". أو"‏

    "أنا؟!! أنا أسرق عطر حبيبي.و...‏

    حرامية إذن"‏

    "أقصد. هناك حرامية كثيرون"‏

    "افتحي الحقيبة"‏

    أقصد يسرقون أعمار الناس. يعني الذي يسرق جهدك ألا يسرق عمرك؟ الذي يسرق فرحك. ألا يسرق ضحكة أطفالك؟! الذي يسرق عشر سنوات من عمر صديقي ورماها وراء القضبان، سرق كل الكلام و... بنى عشرة جدران...جداراً وراء جدار. وبين كل جدار وآخر شعلة أمنيات. شعلة دموع لامرأة تحترق. شعلة حزن لطفل ينادي -سرقوني- حرامية... لكن الجدران تكتم الصوت. مثل النقود مثل المكاتب الفاخرة- المغلقة على كرسي وامرأة يتشقق قميصها. وتتقطع سلاسلها وتصير كرسياً.‏

    افتحي الحقيبة.‏

    "أكاد أتأخر"‏

    "ما هذا؟"‏

    هو صفّر ونادى لشرطي آخر. وأنا أندهشت.‏

    "حبيبي لم يمرّ في الساحة اليوم. ربما... أبكي. يذوب شالي الصغير"‏

    أنا أقسمت أني وضعت قمصاني وثيابي الداخلية وعطري وبعض الأوراق، مع دواء للصداع ومنديل أصفر، فقط، لاغير، وكل هذا الذي في الحقيبة لم أصفه.‏

    نفض الشرطي الحقيبة على الطاولة. تبعثر الكلام والهمس. نفخ الشرطي. ماذا أرى؟ "لماذا لم ترَ غيري؟"‏

    حبيبي يطوقني بذراعيه. يمرر أنامله على جسدي. أذوب. أصير قطعة سكر في يديه. يصير نقطة ماء. وجعلنا من الماء كل شيء حي؟!‏

    ... ...‏

    (7)‏

    عندما تنظر إلى الشمال ألا تراني؟!‏

    بيتٌ. هضاب. نوافذ لا نهاية لأحلامها. أنظر إلى الشمال. سيواجهك جبل كاسيوس بعل يقف على القمة. أغلق ممنوعالنافذة أرجوك كي لا يدخل "الهوى الغربي" فتهبط شرفتك. يتشرذم البحر. بيتك يمتلئ بأشلاء الزمن الميت. غطِ وجهك.‏

    غطيت عيني. مع ذلك أراك.‏

    عندما تنظر إلى الشمال. سترى الإله بعل يصلي كي تظل الأبجدية خضراء، وكي يظل الشعراء يقطفون منها القصائد ليبنوا بها الحلم والعشق. ماذا إذا لم تتركني أحلم؟ أدخل مكتبك. أبعثر أوراقك وقمصانك. و. أذوب. أترك بعل في صلاته لنا صلاتنا الأخرى. تعال نصعد بهدوء. بهدوء. نطلق كمشة عصافير.‏

    أتعرف؟ الرب ينزل إلى مملكة العشاق. وإلى أسرّة الأطفال. وإلى... معقول؟!‏

    "أمي قالت ذلك"‏

    الرب مشغول بغيرنا.. الرب ينزل إلى القصور وإلى ... فقط لا غير.‏

    "لا..الرب يرى كل شيء. يراني وأنا أدور في الساحة.. أبحث عنك.‏

    ألوح لك وأنت واقف في زاوية عالية من شرفتك. تراقبني وتضحك... تضحك مبتهجاً لأن لهفتي صارت "حوراً عالياً" تضحك وتمدّ يدك. تقطف رأس الأشجار الباذخة.‏

    كان لا بد من الصراخ بحيث تنتبه إليَّ المصابيح وترخي ضوءها حزناً.‏

    "لماذا فعلت ذلك؟"‏

    لماذا؟ ألا تعرف أن النبات الذي نقطف رأسه لا يكبر ولا يشمخ عالياً بعد ذلك؟ يعني يتقزم. كذلك نحن. كذلك المشاعر.‏

    لا تقزم مشاعري.. آمرك. وإلا... تمتلىء الساحة بالفراشات الميتة "علّوش" رفيقي في المدرسة. ضربه الأستاذ على رأسه. قطف أحلامه الخضراء الغضة. لم يرفع علوش رأسه بعد ذلك.‏

    لا تفتح النافذة للهوى الغربي. يقطف براعم روحي الطرية. يتقزم قلبي يضيق لا يتسع لك بعد ذلك. وبعد ذلك...‏

    (8)‏

    مدّ يديك.‏

    انزع عن جسدي ثوب الحزن. كلما اشتريت ثوباً للفرح، ابتهجت ونزلت الساحة. "أمرق أمام نافذتك، يطاردني الشرطي. تطاردني الأسئلة. لمن تضعين أقراط الفرح؟ أصمت أو أكذب. أجبروني على الكذب. أبكي. أقول هذه دموع الفرح. أكذب. أحمد مدير دائرتي الذي حولني إلى كرسي خشبي. أشكره.‏

    لكن الحريق يندلع. أشم رائحة احتراق مبادئي وقيمي. اللهب يتصاعد من روحي. أترمد، أصير هباء، تحركني الريح كيفما تشاء، أكذب، ها أنا فرحة. أخلع ثوبي البهيج كي أنام. أسترق النظر إلى جسدي. أرى يديك تطوقانه، أصير وردة، أخضّر. ينطفئ اللهب. أشمّ رائحة البحر. أشعر أني قطعة سكّر وأنك الماء. وأنا. أذوب. و.‏

    في الصباح أبحث عن ثوبي الذي علقته على الكرسي الأخضر. "أين ثوبي يا أماه"؟ "أخذه الهوى الغربي"‏

    تعطيني ثوب الحزن الممزق، أكره هذا الثوب، تبدله، تعطيني آخر، انقطعت أزرار أحلامه.‏

    "أكرهه."‏

    تعطيني ثالثاً باهت الصوت والكلام. "لماذا عليّ وحدي أن أقبل؟ لماذا؟!!"‏

    أبكي وأنا ألبس روحي قميصاً مممزقاً.‏

    كنت أنوي ألا أفتح خزانتي العتيقة بعد أن ألبستني يداك ثوب الماء، و.. ذبت... وبعد الخوف، التردد، الانغلاق، التوحد، أجل أحبّه. أكسر الخزانة تغضب أمي. أمشي في الشارع، يمرّ الحمام فلا يعرفني، يركض النهر، يمسك بي زعتره البرّي " من أنت؟".‏

    أنا التي كنت في الساحة.‏

    "ماذا تفعلين....؟!‏

    "أعدد المصابيح والأشجار وأترقب قدوم حبيبي حتى تضحك النوافذ وتلقي بالورد على جسدي.‏

    أنا التي بعد زعل وجلّنار، بلوزة زرقاء، وقميص الموف و: أفتح الباب، يباغتني، أرتبك، ماذا أفعل وأنا بالقميص المشجر؟ ماذا أفعل لا أعرف؟! أأهرب؟ أم أرتمي بين يديه؟ أم "إذا هبت أمراً فقع فيه"؟‏

    تلاشيت بين ذراعيه، مرّ الهواء ولم يقدر أن يمرّ. تجاوزنا. نزل الدرج وتركنا في حديقة الارتباك لم نقل شيئاً. بعد صمت طويل قلت: "أرجوك: دعني أحبك دائماً"‏

    تدحرج رأسي على صدره. تكورت مثل طابة صغيرة- لم يسألني كيف، وأنا لم أتابع. شعرت أن ثوبي غيمة تطير.‏

    شعرت أنه...‏

    (8)‏

    لا تأمنن الزمن؟!‏

    لا الأيدي الممدودة، لا الكلام الذي ينمو على درجات السلم، لا الأبواب المغلقة.‏

    "الهوى" طيّر ثوب صديقتي.‏

    أي امرأة هذه؟!‏

    مشيت يشار إليّ. يمد البحر رأسه. يتفرج على امرأة ما عادت تعرف كيف تفرح، ولا كيف تبكي. "كأني قطعة خشب تطفو. يحركها الموج. كأني. إلى أين؟!" الهوى الغربي يغير كل شيء. الأحلام. والقيم. والمبادئ. ما عدت أطيق ارتداء الأقنعة. احذري مني يا وفيقة. "لماذا؟" إني أتغير. كل صباح أفيق، أجد شيئاً قد تغير. قد أصير امرأة أخرى. "صحيح؟ لا أصدق" اسمعي. كنت أحب النسكافة. لا أطيقها الآن. كنت أحب الرجل الأسمر. لا أطيقه الآن.‏

    كنت أبكي مع كل يد تنكسر، وأطير مع كل عصفور يطير. ها أنا أريد أن أطلق الرصاص على الورد والعصافير والصداقة. و... "لماذا نتغير"؟‏

    لأن -العلم المستقر هو الجهل المستقر"‏

    "كذابة"‏

    جبيبي قال: أنا كذابة. ضحكت.‏

    "أرجوك لا تتغير. عند ذلك سأنتزع قلبي وأضع قطعة صخر بديلاً له"....‏

    (10)‏

    أوقفوني في باب الحيرة وقالوا: لماذا تغيرتِ؟‏

    أشعلوا النار. مشيت عليها. ما قلتُ آخ. رموني في البحر، غرقتُ. بعد أيام خرجت من جهة أخرى. سرتُ حافية. تلاشيت في حضن أمي في البداية، لم تعرفني. لقد ضعف بصرها، وضعفت يداها، كنت أريدها أن تحميني لكنها كانت مثل شجرة قديمة يابسة. لها جذع مليء بحفر الزمان. ألقيت رأسي في حضنها. لم أشعر أن رأسي تفتح وصار وردة. سحبت رأسي. رميت جسدي على ركبتها الواهنتين. لم أصبح شجرة سنديان شامخة، لذلك نهضتُ، تركتُ أمي تبكي. نادتني، لم أرد. قال الجيران: صارت ابنتك عاقة.‏

    قالت وفيقة: لقد تغيرتِ. أنا قلت له: أرجوك لا تدعني أتغير. قالت البيوت التي تحاذي طريقي: مللنا الصمت والوقوف. نريد أن... مثلاً نمشي، نغيّر أماكننا. سمعها الشرطي. لوّح لها بعصاه، وقفت البيوت رتلاً واحداً منضبطاً. قالت خيالاتي التي لا تُحدّ: الشرطي لا يراني.‏

    قال الشوق: الشرطي لا يستطيع الإحساس بشغبي وصراخي.‏

    قال حبيبي الذي يشبه البحر: أنا أحبك.‏

    قلت: والجدران؟!‏

    - أية جدران؟! قلت: جدار أول بناه الشرطي. جدار ثانٍ بناه الزمن. جدار ثالث بنته القبيلة. جدار خامس أنت ترفعه بهدوء. ثم: جدار المسافة جدار لأنك مشغول. سيهرب العمر في غفلة منك وأنت مشغول.‏

    لا تأمنن الزمن.‏

    كم أخاف أن يرتفع الجدار الذي بيننا ويصير أعلى من بيتك. عند ذلك سترنو إلى الشمال عبر نافذتك لن تراني.‏

    رأيت دمعته. جمدت دموعي لكن قلبي كان ينتحب، ألقى برأسه على صدري. همستُ "أخاف الجدران" تحسستُ شعره، وجهه، مع ذلك رأيتُ صحراء تمتد. هو في طرف. وأنا في طرف. وأنا في آخر. نمشي كل باتجاه الآخر ولكن لا نصل.‏

    (11)‏

    حبيبي مشغول، أنا أتحول إلى شجرة، من يأكل من ثماري يتحول إلى قطعة خشب. فزع الأطفال صرت وحدي أقف في الساحة. أعلق نظري على الشرفات العالية.‏

    "ياه....كم أنت حبيبي"‏

    كانت هذه آخر الرسائل. آخر الورق الأخضر.‏

    لا تأمنن الزمن. الذي كنت تذوب في يديه. قد يحولك إلى قطعة غرانيت شفافة صالحة للنحت فقط.‏

    (12)‏

    هذا‏

    أنتِ.‏

    هذا.... طوقها بذراعيه، شفتاه تطوفان على الجسد. لكن الجسد ظلّ شجرة.‏

    يابسة. بوغت، هزّها، تساقطت دموع كبيرة. ناداها وبكى. ذكّرها بتفاصيل العطر والقمصان والأدراج والصباحات الباردة. هو يقرع الباب، تفتح هي. تطوقه. تغمره في صدرها تذوب تحت معطفه. همهم بحزن "ماذا أفعل؟" حمل الشجرة اليابسة، أخذها إلى صديقة النحات. طلب إليه أن يصنع من الشجرة تمثالاً لحبيبته: بطولها، بجسدها الجميل، بملمسها، ولكن: رائحتها!!‏

    صمت.‏

    "كنت أتحول إلى شجرة يابسة ببطء، لم تشعر بي. كنت مشغولاً"‏

    أخرج قصاصة ورق من جيبه... دائماً تدسّ له القصاصات.‏

    حين تكومت في حضنه سألته: أيموت الحبّ؟‏

    "كل شيء يموت إذا لم نعتن به ونغذّيه"‏

    حبيبي مشغول. والحبّ يحتاج إلى غذاء كي يظلّ أخضر كالحبق.‏

    هو... وضع التمثال في المنزل. خرج إلى البحر وعاد. جلس يتأمله. رأي دموعاً كالورق الأصفر تتكوم عند ساقي التمثال. أراد أن يحضن التمثال. لم يستطع الحركة. لقد بدأ يتحول إلى شجرة يابسة. صرخ. طلب صديقه النحات. نظر إليه بأسى: ما الجدوى؟ أخرج النحات أدوات الحفر والقطع وراح يصنع تمثالاً آخر. وضعه إلى جانب تمثال المرأة كي يظلاّ متلازمين.‏

    "قلت لك. الحياة اثنان دائماً"‏

    فكر النحات أن يعرضهما في الساحة. هي تعلق بصرها على شرفته وهو يعلق نظره على السحب المتجهة إلى الشمال

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()