بتـــــاريخ : 11/18/2008 6:17:45 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1096 0


    تفاصيل أخرى للعشق

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أنيسة عبود | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    قال لها: أنا بعيد جداً.‏

    مدن كثيرة تمتد بيننا، وموجٌ شاسعٌ بين أعيننا، مع ذلك أسمع صوتكِ، فتكونين معي. وحين أمشي على ضفّة البحيرة تكونين معي أيضاً.‏

    أشعر أنه يكفي أن أحرّك أصابعي لألمس أصابعكِ وأشم عطركِ.‏

    أو لأحضن قامتك الرهيفة.‏

    غصّت، ولم تقل شيئاً. كانت عاجزة عن الكلام أمام غول المسافة القابع بينهما. أبعدت السماعة قليلاً كي لايسمع نحيب شوقها، وتمزّق أنفاسها.‏

    "أتسمعينني؟ "‏

    "تنهدت. ألا تراني؟. إني أهزّ رأسي".‏

    كان الشوق مستبداً. طاغياً. لكنها تدرك تماماً، أن الحياة بلا شوق كالجسد بلا روح. الشوق يجعل الحياة رحبة، والأمنيات يانعة. يجعل لألواننا فضاء، ولعطورنا قيمة. ولوجودنا معنى.‏

    "أجل. ها أنا أراك عبر الأسلاك، وعبر المسافة وعبر الزمان، أراك بثوبك الكحلي الذي ينساب على جسدك الجميل.. اسمعي"‏

    ابتسمت. "لماذا تأمرني؟ "‏

    "آه. أبداً. الشوق هو الذي يأمر. غداً عيد الحب. أريد أن أحتفل به من أجلك. أريد أن أقدّم لك الورد، لكن كيف والمسافة تفتح شدقيها.. ذبلت من الغياب".‏

    كادت تبكي. ماأسرع أن تنهمر دموعها، وتكاد تقول له، أنا التي ذبلتُ من الغياب ومن الانتظار. ذبلت من الوقوف على الشرفة ومن اللهفة بانتظار رنين الهاتف. لكنها آثرت الصمت. لاتريد أن تعرّي وجعها ولا أن تسبب له الأرق "الحب تضحية".‏

    "الحبّ هو الذي بلا مقابل. لاثمن للحب أبداً.. إلا الحب.. "‏

    -ألو‏

    أتسمعينني؟! ألو. هل انقطع الخطّ؟‏

    وإذ ترد بصوت منكسر يرش أوامره بسرعة كي لايفضحه الحزن ويبتلع صوته "اذهبي إلى بائع الزهور، ألا يوجد بائع زهور في المدينة؟ اشتري وردة جورية حمراء ملفوفة على عطرها، ضعيها في كأس ماء، أمامك، على الطاولة، أو قرب فنجان قهوتك الصباحية. واكتبي إهداء سريّاً جداً خوف عيون الجدران والجيران وستائر المنزل -"منّي.. إليك" وأرجو أن تسمعي موسيقا النهر الخالد لعبد الوهاب. موافقة؟! "‏

    لم ترد. كانت الذكريات حارقة، والشوق طاغٍ. إنه يتفجر فوراً عبر كل همسة تنساب.. عبر كل حرف يسيل في خطوط الهاتف.. إذن الهواتف تفجّر الشوق. تجمد اللحظات. وربما شاركها الحبر المنسكب في الرسائل والقصائد والروايات. الحبر الذي نستخدمه يثبت الزمن أكثر ويمسك باللقاءات الهاربة. كم مرة كتبت له وإليه. ثبتت تفاصيل لقائه أو تفاصيل زعل أو تفاصيل شوق؟!‏

    "أنت السبب ياحبيبتي"‏

    "بل.. أنت..."‏

    "انتبهي. الخطوط مراقبة. قولي كلاماً محترماً،"‏

    "يعني كلام الشوق غير محترم؟! ثم ماذا يدفعنا للكلام لولا الشوق. ليراقبوا، هل يحاكمون الورد على عطره؟ اسمع. اسمعوا. أنا مشتاقة إلى..." تضحك، ها أنا لاأكمل العبارة حتى يبقى الاسم سراً. عند ذلك سيجنّدون الجيوش والورد للبحث عن الاسم.‏

    يضحكان. هاهما يخرجان من حزن الشوق إلى أسئلة أكثر رحابة.‏

    "برأيك من المسؤول عن الحب؟"‏

    "أظنه. القلب هو المسؤول"‏

    "أليس الصوت؟ هو المجرم لأن يثير الزوابع والبراكين. يهدم جبلاً ويرفع آخر. يعلق حدائق ويحرق غابات...؟"‏

    ربما.. هي لاتستطيع أن تتخيله دون صوته، مرة استبد بها الحنين فذهبت إلى قريته. راحت تبحث عنه. لم تجده. هي تدرك بأنها لم تجده، وتعرف بأنه وراء البحار يشرب القهوة الآن، أو يمشي في شوارع مكتظة بالورد. لكنّها كانت تبحث عن خطواته على الطرقات. عن وجهه على النوافذ. عن عينيه في عيون أهل القرية. شعرت أنها تسمع صوته. يناديها، كادت تتهاوى فاستندت إلى أول شجرة سنديان وراحت تتلمسها بأناملها.. "هذه الشجرة تلمسها حبيبي وربما صعد إلى أعاليها كي يشدّ البحر إليه".‏

    -آلو..‏

    لم تستطع الرد. أجهشت بالبكاء. لم تعد قادرة على الاستمرار أكثر.‏

    أهي الحياة هكذا تفنى بين وداع ووداع؟!!‏

    ... ... ...‏

    الوردة في الكأس‏

    الغرفة واسعة جداً.‏

    الهاتف لايرن. إنه صامت، أخرس، يتحداها.‏

    الوردة صامتة، تحدق بالجدران التي تفصلها عن الحدائق والشمس.‏

    هل يحزن الورد؟‏

    تساءلت المرأة التي تتكور في مقعدها الجلدي.‏

    الصباح واسع، البرد واسع، والجسد ضيق جداً. شعرت أن روحها تطفو فوق حريق يتعالى. شعرت أنه عليها أن تحرق نظريات كثيرة كي تصنع قهوتها في آخر الليل والمدينة نائمة.‏

    الهاتف لايرن. ياه. كم من الأرواح معلقة على أسلاكه؟ كم من الأيام تذوب عبر صوته؟‏

    جرس الباب يرنّ، تستيقظ من نفسها، ترفع سماعة الهاتف، يالها من خيبة!.‏

    إنه الباب ياسيدتي، تنهض، من الذي هناك؟!‏

    ... ... ...‏

    الجسد ضيقٌ‏

    الشوق واسع.‏

    أقصد الحب يجعل الروح شاسعة، والقصيدة أكبر من مدينة. أقصد الحروف تضيق على الوجد.‏

    "يا للترهات. ترهات امرأة تعيش لجسدها"‏

    "أبداً.. الجسد يعني أنت. الجسد معرفة. له لغة خاصة. إذا فقد لغته، يتحول المرء إلى حيوان. انظر حولك، كم من الحيوانات ترى؟ الذي قتل طفلة الجيران.‏

    الذي أغلق باب دكانه على امرأة عجوز؟‏

    الذي أطفأ عقله وإنسانيته في حيوانات الـ...."‏

    "أعيدي ماقلتِ؟! "‏

    "قلت: هي ترهات الشوق، الحلم، القتل. آه. أبعد يدك عني. إنك تخنقني"‏

    اليد ترتفع. اليد تمحو العقل أحياناً، اليد تنتزع القلب كنبتة برية أحياناً أخرى.‏

    الوردة في الكأس، تحدق في الوجوه الغريبة التي تملأ الغرفة "منّي.. إليك"‏

    "مجنونة. تكتب إهداءات لنفسها".‏

    تبكي الوردة. ألف عام وربما أكثر يحتاجون ليفهموا لغة الورد. نزع كبيرهم عمامته. فرشها على الأرض. ركع، وتمتم. خلع ثيابه. تعرى.. ظهرت قرونه المخيفة. العالم مجنون. العالم يقتل الورد. ماذا يبقى بعد ذلك؟‏

    هل تنوب الأشواك عن الورد؟ الحجارة عن الحدائق؟ أيكفي أن نكدس الرخام والإسفلت والكريستال والعمامات الملفوفة على الأفاعي لنكون سعداء؟‏

    ... ... ...‏

    اليد..!!‏

    يده.. وسادتي.‏

    يده تطوق خصري.‏

    يدي. تخربط شعره وقميصه وأزراره وجسده.‏

    اليد..‏

    تحمل السكين. تقطع الحلوى. تقطع الجسد. تصافح.‏

    "يدك.. أحبّها"‏

    يدانا... أصابع عشرة تتعانق في جيب واحد.‏

    ماذا تفعلان؟!‏

    "البرد ياسيدي"‏

    كانا معاً. سارا تحت المطر. تعانقت الأصابع العشرة. رآهما الحارس.‏

    أطلق صوته خلفهما. فرّا هاربين.‏

    اليد! ترفع الوردة تمزق البطاقة "منّي..إليك" تفرط وريقات الوردة ورقة. ورقة. تتناثر البتلات، تملأ الغرفة.‏

    "هيا.. انهضي. ادعسي بتلات الورد"‏

    "ياإلهي.. ماذا تقول؟"‏

    "أقول: دوسي بقدميك الجميلتين هذه الوردة اللعينة. أقول: ياامرأة. اخرجي من باب الورد. ادخلي باب النار. اخرجي من حدائق الشوق ادخلي باب الشهوة. هيا. ها نحن نفرش العمامات، هيا.."‏

    ... ... ...‏

    أقول: ذبلت من الوقوف على الأبواب‏

    أقول: مات الورد.‏

    تشهق "مابك؟"‏

    هاهي تراه الآن على الطرف الآخر من الكرة الأرضية. يحرك يديه عبر آلاف الكيلو مترات ويطوقها. "كيف حال الوردة؟"‏

    تلعثمت. أرادت أن تقول شيئاً، لم تقدر، تودّ أن تبكي الآن بين يديه. أن تلقي برأسها في حضنه. يكرر السؤال، تقول هامسة: هذا ليس زمن الورد، إنه زمن الصقيع.‏

    "كيف حال الوردة؟ هل اشتريت وردة وسمعت كلامي؟ "‏

    "... آه..."‏

    "الصوت بعيد. ارفعي صوتك"‏

    " آلو.."‏

    هي لاترد.‏

    "ماتت الوردة، أليس كذلك؟"‏

    انفجر غضباً. أعرف. البعد يجعل الورود تموت. كان من المفترض أن أدرك ذلك. وأن أدرك بأنك غير قادرة على الصبر وعلى تحمل الحبّ الكبير.‏

    كاد يغلق الخط، لكنها أسرعت تقول. هم قتلوها. رصاص. نظريات. عمامات. صحارى تمتد. مارقٌ هذا الورد. مارقٌ هذا الشوق. و. انقطع الخط، لم يكتمل الحوار آلو. آلو.‏

    ... ... ...‏

    تكورت من وطأة الخيبة.‏

    تكومت كمعطف في مكانها. تذكرت: مع كلمة "تكوّم" تتخيل جسدها باقة ورد يتكوم في حضنه.‏

    "لأنك تعيشين خوفاً متجذراً"‏

    "ربما لأني أشعر أنك الذي يحميني"‏

    نظرت حولها. ظهر لها الهاتف كجثة جامدة. لاحسّ ولا حركة. حرّكت سمّاعة تستجديها أن تصرخ. أن تبكي. الخط مقطوع، الجهاز ميت، ركلته بقدمها. غطت وجهها بأناملها العشرة وراحت تنحني إلى الأمام، تنحني، تتكور، حتى اصطدم رأسها بركبتيها. شعرت أنها بدأت تتلاشى، لكن يداً ربتت على ظهرها. لم تتحرك، لم ترفع عينيها، "بماذا تفكرين ياسيدتي؟ "‏

    كان الصوت يعوي، يحشرج، يجرح كزجاج مكسور. لم ترد. عاد الصوت يهدر "بالورد؟" قهقه الصوت "جميل الإهداء. منه. إليها"‏

    ظلّت مكومة على نفسها "ماذا تخبئين؟ " كادت تصدق. أجل ماذا تخبئ في حضنها؟ وروده؟! وجهه؟! صوته؟! وأشياء كثيرة يمكن أن تتناثر أمامهم إذا نهضت الآن؟!‏

    تكورت أكثر. اليد ربتت مرة أخرى ولكن بألم وفجور أكثر "بماذا تفكرين سيدتي الجميلة؟" قالت وهي ماتزال منحنية "هذه أفكاري. هي تخصني وحدي ياسيد".‏

    "لا الأفكار لاتخصّ الشخص وحده. ربما تفكرين بجعل المدينة حديقة. الأفكار ملك عام إلى أن يقولها صاحبها. قولي بماذا تفكرين؟"‏

    ظلّت هادئة. صامتة، أخذت تحدق بالوردة، والوردة تحدق في الوجوه. اليد تمتد إلى رأس المرأة. يمسك بباقة الشعر. يرفع الرأس إلى أعلى.‏

    "هنا انظري"‏

    القطار يصفر. نوافذه تركض على رؤوس الأشجار. هاهي تستعيد كل التفاصيل. الحياة تصنعها التفاصيل. الصداقة تصنعها التفاصيل. الحب يتجذر بالتفاصيل. تنهدت. كل يوم تسأله ماذا ترتدي؟ أي لون؟ ويسألها ماذا تفعل؟! ماذا ترتدي؟ من زارها. هل تناولت الطعام جيداً؟‏

    شدّ رأسها ثانية. حدقت في الجدار المواجه. رأت لوحة ترتفع أمامها. اللوحة لطفلة تحمل حذاءها وتركض على الورق اليابس لشجرة كافور.‏

    "اللوحة مؤثرة"‏

    يسأل الرجل الآخر.‏

    هي ترد: أجل:‏

    "وأنتِ.. ؟!"‏

    "أنا.. ؟!"‏

    "ما الذي يقصّفك، كأغصان هذه الشجرة؟‏

    كادت أن تقول له: الهاتف الصامت. الحوار الذي انقطع. أو ستختصر كل ذلك وتقول: الوردة. ولكن لماذا عليها أن تقول؟ أفكارها ملكها وحدها. يحدق الرجل بجرأة في جسدها المختبئ تحت قميص أسود حريري ويقول وهو ينقر على جبهتها بسبابته.‏

    "أخرجي الأفكار من هنا، من رأسك، هنا لا أفكار خاصة، ولا أفراح خاصة، ثم رفع مسدسه عالياً. أطلق عدة طلقات في الهواء.‏

    "قولي بماذا تفكرين؟ "‏

    "... ... ..."‏

    لكزها مرة أخرى.. "قولي"‏

    المرأة تظلّ صامتة.‏

    الرجل يرفع مسدّسه في وجه المرأة.‏

    هي، تتكور على أفكارها وجسدها وروحها. تشعر بأنها تخبئه في حضنها كسرّ. كعطر. تسمع روحها تشكو وهو يردد "حبيبتي". تغمض عينيها لتراه أكثر. تتكوم بين ذراعيه "وحدك القادر على احتوائي" يضمها بقوة، تريد أن تبكي. "لماذا هذه الدموع؟" تجهش "لأني لا أقدر أن أثبّت الزمن. أمسك به. أدخله غرفتي فلا يهرب، لماذا لم نلتق قبل الآن؟! "‏

    "أأنت تهذين؟ قولي شيئاً مفيداً؟" صوت الرصاص يدوّي.‏

    نظرت بتحدٍ وجمر غضب يتطاير من صوتها "به.. أنا أفكر به"‏

    "من؟ من به. ما اسمه؟ ألا يوجد له اسم؟"‏

    "لايهم الاسم. أنا أسميه بكل الأسماء التي أحبّها"‏

    "ماذا تقصدين؟"‏

    "أقصد؟! أقصد الهاتف. أقصد. انقطع الحوار وهو في الطرف الآخر من العالم"‏

    "أقصد.. فقدت صبري يا امرأة"‏

    حرّك مسدسه في الهواء. أخذت الطلقات ترش سماء الغرفة، طلقة طائشة تصيب الوردة. طلقة أخرى تصيب الفتاة الصغيرة في اللوحة. الفتاة تنزل على الأرض تحمل حذاءها المثقوب وهي تعرج وتنزف.‏

    "قلتُ: بماذا تفكرين؟"‏

    يركلها. تقول: أفكر بعودة الخط لأكمل الحوار، الحوار يحولنا إلى بشرٍ.. أريد أن أتابع حواري الخاص، أفكاري الخاصة "قلت لك: لاأفكار خاصة" شدّها بقوة باتجاه الجدار. الطلقات تنهمر غزيرة على الأفكار فتقتلها. أرض الغرفة تفيض بالأفكار الميتة والدم الذي يفيض، أرض الغرفة تصير بحيرة، الطفلة تعرجُ، بحيرة الدم ترتفع والأفكار تطفو كأسماك ميتة، بينما المرأة تعود إلى تكورها كمعطف سقط عن جسد، تحدق بالأفكار وتنتظر الهاتف أن يرنّ.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()