وفي اليوم الثالث، لاحظ السكان أن الحفريات الجارية في الشارع، قد بدأت تختلف في عرضها وعمقها عن الحفريات التي شاهدوها في الشوارع المجاورة، إذ انقضّت (بتشديد الضاد)( إحدى الجرافات المعظمة على إسفلت الشارع، وخلعته من جذوره، وأزاحت معه أساساته إلى أن تحول مكانه إلى تربة زراعية حمراء، تمتد بمحاذاته من الجانبين رقائق الزفتة وأكوام الحصمة الفولية التي كانت قد رصت قبل تزفيت الشارع الراحل.
وسألت أحد الجيران عما يجري، فقال لي بثقة وتفاؤل، ان هذا يجري من أجل ربط الشارع بشبكة المجاري. ولم أرغب في التطفل على مهنة لا أعرف فيها، وقلت لنفسي:" أهل مكة أدرى بشعابها"، وأضفت:" المقاولون أدرى بمجاريهم".
لكن التراب المجروف قد بدأ يتزايد على الجانبين، وبدأت أشعر أن السبل بيني وبين سيارتي قد أوشكت أن تتقطع، ولاحظت إلى جانب هذا، أن الحفرية الممتدة إلى ما هو أكثر من عرض الشارع، قد انزلقت إلى أسفل ، وصار عمقها قريباً من المتر.
وتوالت الأيام، وتوالى ارتفاع أكوام الأتربة، وازدياد عمق الحفرية، ويبدو أن الصخور الضخمة التي صادفتها الجرافات، قد أعاقت المقاول عن الوصول إلى قرن الثور الذي تقف عليه الكرة الأرضية. وهمس لي أحد الجيران صباح أمس، أنه استطاع أن يعرف من مصادر مطلعة، أن الحفرية سوف يستمر العمل الدؤوب فيها إلى أن تبلغ سبعة أمتار، ويعزو ذلك إلى ارتفاع في مستوى الشارع، مما دعا المقاول إلى القضاء عليه قضاء مبرما، إلى ان يهبط إلى مستوى الأنابيب الممدودة في الشوارع الأخرى!
واستطيع أن الخص الوضع الراهن على النحو التالي:
البيت الذي أسكن فيه الذي كان مطلا على الشارع ، فصار "الشارع" مطلاً عليه.
الجرافة التي كانت تتراكض أمام البيت برشاقة ، لم نعد نرى سوى صاريها وقمتها العليا ومدخنتها وسطح المظلة الواقية لسائقها.
اغلقنا جميع النوافذ الزجاجية والاباجورات، ومع ذلك، فأنني لا أعرف كيف تدخل الأتربة إلى البلكونة الخلفية للمنزل.
الأطفال الذين كانوا يركضون وراء الدحنون والعصافير والفراشات الملونة، باتوا في حالة هلع متصلة، لأن خروجهم من البوابة الخارجية قد يعني سقوطهم في مهاوي الهلاك.
السيارات التي كانت تصطف عند الأبواب، وتحت رقابتنا ، نحن أصحابها ، صارت ترقد في شوارع أخرى، وهذا اقتضى ان نذهب إليها قفزا فوق الأكوام المفخمة، وأن نتركها في مراقدها ونؤوب إلى منازلنا، ومخاوف الأنزلاق في الأخدود العظيم مشرعة فوق رقابنا.
وقال لي سائق الجرافة الكبرى بعد ظهر أمس، ان هناك احتمالاً كبيراً جداً للاقتراب أكثر نحو سور المنزل ، لأن المقاول يريد أن يتفادى حرب الصخور ! وأضاف: وفي هذه الحالة، فقد يتعرض السور للانهيار! ولم يفته أن يذكر أيضاً، ان عمل الحفارات والجرافات المتواصل، سوف يهز اساسات المنزل، مما قد يعرضه في اسعد الحالات للتصدع، ومما قد يعرضه في أسوأ الحالات للسقوط فوق رؤوسنا.
ولم أفكر حتى الآن في كتابة وصيتي، لأنني لم ألمس خطراً مباشراً حتى ساعة أعداد هذه الخواطر، ولأنني على يقين من أن الوصية ستكون آخر ما يهتم به رجال الإنقاذ الأشاوس، فالأولويات تفرض عليهم أن ينتشلوا جثتي، قبل التفكير بأي شيء خلاف ذلك. ورغم هذا الأمل العريض في البقاء على قيد الحياة، إلا أن أنغاماً حزينة أعرفها، ما تزال تلح علي في الأيام الأخيرة، إلى أن تبينت فيها " لحن الرجوع الأخير".
أقول للزملاء والقراء والأقرباء والأصدقاء جميعاً، إذا انقطعت أخباري، وظهرت أية أخبار محل هذه الزاوية، فسأكون قد رحلت إلى دار البقاء، وصعدت روحي إلى بارئها، على أنغام لحن الرجوع الأخير، لذا، فإنني أرجو من أخواني في الدفاع المدني أن يهبوا لرفع الأنقاض عني!
9 أيار 1996
-2-
هاقد مر أكثر من شهر، والمقاول المسؤول عن إنشاء أخدود عظيم أمام منزلي لم يكتف بالآليات التي ذكرتها من قبل، فأردف إليها حفارة جديدة ما تزال بورقتها ، كي تكون عونا وسندا للآليات الأخرى في تمزيق وجه الأرض، وتغيير معالمها، وتحدي الصخور.
ها قد مر كل هذا الوقت، والحفريات التي قيل أنها ستنتهي في غضون عشرة أيام، ما تزال في بداياتها، رغم الانهيارات الجسيمة التي حدثت، والهبوط الذريع الذي غار بالورشة بأكملها حوالي ثلاثة أمتار ونصف المتر تحت سطح اليابسة، وهي ليست أكثر من نصف الهبوط المقرر، إذ ما تزال ثلاثة أمتار ونصف المتر أخرى من الاستكشافات الجيولوجية الفريدة!
وفي كل كرة أتأمل الانخساف الفظيع الذي حدث للشارع المار أمام بيتي، أزداد يقينا بضخامة الكرة الأرضية، واتذكر كم هي متواضعة حفريات المقابر، وأدرك أكثر من أي وقت مضى أن الإنسان من التراب وإلى التراب يعود. فثمة علاقة عضوية بين الإنسان والتراب ، فهو من تراب مجبول ، سرعان ما يداهمه الموت، فيجف كالزهرة المقصوفة، وتخرج منه نداوة الحياة، وتفيض روحه، ويتحول إلى تراب يندغم بتراب الأرض، ويتداخل في نسيجه.
وربما كانت هذه التأملات سببا مباشراً في تعلقي بموسيقى " لحن الرجوع الأخير"، الذي لا أفتأ أدندن به من وقت إلى وقت . وكلما حاولت التخلص منه واستبعاده عن خاطري، أجد نفسي بغتة متلبسا بحادثة دندنة جديدة، تثير الأسى في النفس ، وتقطع نياط القلب! ولا اشك، أن ثمة علاقة خفية، تربط هذا الإلحاح الموسيقي بأواصر وطيدة ووشائج عتيدة بالحفارة العملاقة التي أضافها المقاول للأسطول المتخندق في لصق بيتي!
ففي وقت القيلولة والاسترخاء على أنغام الحفارات والجرافات والأتربة السابحة في كل الأنحاء، سمعت صوت جسم ما يسقط على أرض المنزل، فسعيت راكضاً نحوه، ووجدت بلاط السيراميك الذي يغطي جدران المطبخ ، قد سقطت منه بلاطة، وان بلاطات أخرى موشكة على اللحاق بزميلتهن المهشمة!
لم أكترث للحفلة التي ينبغي أن أقيمها في سبيل شراء بلاط جديد ووضعه مكان البلاط المدمر ، وإنما أكترثت كثيراً للمغزى الذي حمله سقوط البلاطة في طياته!
فهذا يعني أن الارتجاج المتصل على مدى اثنتي عشرة ساعة يومياً، قد بدأت تظهر نتائجه! فالكوارث الكبرى تبدأ عادة بسقوط بلاطة من سيراميك المطبخ، وتنتهي بانهيار سقف المنزل على رؤوس المواطنين القاطنين فيه!
وللإنصاف ، فان مقاول الأخدود العظيم، كما يبدو، رجل مجد ونشط، ويربط آناء الليل بأطراف النهار، في سبيل الوصول إلى قاع الدنيا، حيث المقرر أن ترقد أنابيب المجاري بسلام ، وأخص بالذكر إضافة الحفارة الأخيرة التي تأكل الصخر بليونة وسلاسة، كما لو كانت تأكل رغيف هامبرغر
صحيح أنها تحفر الصخر وتنقر رأسي في آن واحد، وصحيح أنها حفارة جبارة قادرة على التنزه في جوف الصوان، لكنها لا تتوانى أن تهز بذبذباتها أركان البيت، بدليل خروج البلاطة المذكورة من مكانها المناسب إلى مكان غير مناسب فوق أرض المطبخ..
وتعود الدندنة بلحن الرجوع الأخير إلى ما قبل سقوط البلاطة، غير أن هذه الحادثة المفزعة، زادت من ملاحقة اللحن لخواطري ، مع أنني لا أذكر يوماً أنني دندنت بأغنية أو لحن موسيقي، وافنيت أكثر حياتي وأنا مذهول من أولئك الذين لا يحلو لهم أن يغنوا إلا في الحمام !
ألم أقل قبل قليل، ان ثمة علاقة خفية بين دندناتي الحزينة وتلك الحفارة العملاقة؟
9 حزيران 1996
- 3 -
طلب آخر العنقود مني أن يذهب ليلعب مع أترابه ، فسألته:
- أين ستلعبون؟
فقال:
- في الشارع.
فنظرت إليه بريبة وقلت له:
- لكننا نسكن في بيت ليس أمامه شارع!
قال وهو يبتسم:
- اعرف ذلك؟
قلت:
- وهل تعرف أن الشارع تحول إلى أخدود عمقه ثمانية أمتار؟
قال بثقة:
- أعرف ذلك.
فضقت باعتداده بنفسه وقلت:
- ما دمت تعرف كل هذا، فكيف ستلعب في الشارع؟
قال وقد امتدت ابتسامته، وظهر غمازه الإيمن:
-سألعب مع أصحابي في الشارع الآخر.
قلت:
- لكنك تعلم أنني لا أحب أن تخرج من البيت.
وأضفت موضحاً:
- أخشى أن تخرج من بوابة البيت الخارجية، وتنزلق في الهوة السحيقة.
تلاشت ابتاسامته وقال:
- وهل تظن أنني صغير؟
قلت:
- أنا لا أظن أنك صغير. أنا متأكد من ذلك.
وأسفرت المداولة القصيرة عن تقهقري أمام رغبته في الخروج ، فأذنت له، ومضى
وآخر العنقود في الحادية عشرة من عمره ، له رموش طويلة تحيط بعينين سوداوين شبيهتين بعيني باشق، وذو بشرة سمراء رقيقة جعلتني أطلق عليه لقب "العندليب الأسمر".
- 4 -
بعد حوالي ساعتين ، دخل طفل إلى البيت، تملأ الأتربة رأسه ووجهه وملابسه، فداهمته بالاستفسار عما يريد ، قائلا له:
- ماذا تريد يا شاطر؟
فقال بصوت مألوف:
- ألم تعرفني يا أبي؟
قلت:
- لقد سمحت لك هذه المرة ان تلعب خارج البيت ، لكنها ستكون المرة الأخيرة.
وأضفت معربا عن سخطي عليه:
- وسأدعوك من اليوم "العندليب الأغبر".
10 تموز 1996
-5-
ها أنا أدخل في شهر جديد من الأتربة والغبار والرمل والحصمة وأدخنة الآليات الصغيرة والكبيرة؛ وادخل في شهر جديد من مختلف درجات الصوت وأنغام السلم الموسيقي الذي يفتقر لأدنى حد من التنسيق والتداخل الودود، مما جعله تلوثاً ضوضائياً قل نظيره.
وكلما مر أسبوع على بداية الردم الممتد بثقة أمام بيتي، تتغير التضاريس وتتشكل، فما هو كثيب اليوم يصبح بعد أيام موطئ أقدام، وما هو أرض تنبث عليها الأعشاب البرية المسالمة ، يتحول بقدرة جرافة إلى سلسلة جبال، وما هو كتلة صخرية صلبة متماسكة، ينقلب في أيام معدودات إلى ممر مستقيم منخفض عن سطح الأرض ثمانية أمتار!
ولو لم أواكب الحفريات الجارية أمام المنزل منذ بدايتها ، لما صدقت أن بإمكان بني البشر ان يفتكوا بالجغرافيا إلى هذا الحد، ولما صدقت أنني داخل إلى بيتي أو ان ما أراه هو بيتي الذي أسكن فيه منذ عهد بعيد. ان الفرق بين رؤية بيتي قبل الحفريات وبين رؤيته اليوم ، لا يختلف أبدا عن الفرق بين رؤية خروف وادع يرعى في الحقول ، وبين رؤية صينية كفتة تستعد ربة البيت لدفعها إلى الفرن!
وتصادف ان سافرت في أواخر الشهر الماضي إلى خارج البلاد، لمدة أسبوع تقريباً عدت بعده لأجد الفريد ديليسبس قد أنشأ لي تحويلة خاصة بي ، كي اقترب بسيارتي من الدائرة المحيطة بالمنزل، وكي أتمكن من الدخول إليه بشروط سلامة عامة أوفر وأفضل من أي وقت مضى، منذ الشروع بشق قناة السويس!
في القناة أو الأخدود الممتد أمام البوابة الخارجية مباشرة، وبعرض المساحة التي كان الشارع الإسفلتي يحتلها ، يوجد نفر من العمال يمدون مواسير للمجاري، لا تزيد في حجمها كثيراً عن مواسير الخياطة، ويضعون فوقها شبكة من القضبان الحديدية، ثم يصبون فوقها الأسمنت.
وعندما أجازف بالوقوف على حافة الأخدود العظيم ، لألقي نظرة على مستقبلي ، لا أبالغ إذا قلت، إنني أرى الرجل الذي يدخن سيجارة في القاع السحيق، بحجم عقله الإصبع، نظراً لعمق حفرة الانهدام المرعبة!
وتشير الدلائل والقرائن المتوفرة لدي، بأن صيف العذاب والتراب والموت الزؤام سوف يستمر بعد أن بلغ الذروة، وتشير هذه الدلائل والقرائن، إلى أنني لن استقبل ضيفاً في المدى المنظور، نظراً لعدم رغبتي في تحمل مسؤولية المخاطر التي قد يتعرض لها، ونظراً لعدم رغبتي في تحويله من شخص نظيف محترم ذي حذاء لامع، إلى شخص آخر مغطوط بالتراب الناعم الشبيه ببودرة الأطفال حديثي الولادة! وتشير الدلائل والقرائن المتوفرة لدي أيضاً، إلى أن حالة الهلع التي أعيشها ليلاً ونهاراً، سوف تبقى ما دام هناك منخفض بعيد القرار، وما دام هناك أطفال في الحي، لا يقر لهم قرار!
11 تموز 1996
-6-
في الطريق إلى بيتي، كنت استمع لموسيقى هادئة، تتخللها عبارات قصيرة منتقاة من الكتب بعناية، وكنت بحاجة لتناول طعام الغداء، والاسترخاء قليلاً من عناء يوم شاق مزدحم بالعمل. وعندما اقتربت من البيت أشار لي أحد العاملين في الحفرية العظمى الممتدة بثقة، ان أتوقف، فامتثلت لاشارته، ودنا مني قائلاً:
- غيرنا لك التحويلة!
وكان يقصد التحويلة الترابية التي توصلني إلى بيتي من جهته الخلفية. ونظرت إلى الموقع، فوجدته مختل التضاريس، وتعلوه أكوام من الصخور وأكوام من الأتربة وبراميل مملوءة بالماء وحشد من الآليات كالحفارات والجرافات ومدحلة ضخمة ومدحلة ضئيلة جداً وغير ذلك من مشتقات كتربلر وكوماتسو ودايو ومالفَّ لفّ هذه الشركات الكبرى!
رأى العامل في وجهي علامات الإحباط والبؤس ، فشرع في إخفاء ابتسامة ، لا أقول إنها متشفية، حرام ، إنما أقول إنها ابتسامة مستنبطة من واقع الحال المرير، ولو كنت مكانه، ورأيته جالسا وراء مقود سيارة بشعر ممشط ، وأبلغته أنا بتغيير الطريق المؤدي إلى منزله، وقرأت في وجهه كل هذا الشقاء الذي حل بي، لانفجرت في ضحك متصل إلى أمد طويل!
قلت لأخي العامل:
- وماذا أفعل كي أصل إلى بيتي؟
فراح يشرح لي باستفاضة كيف عليّ أن أعود إلى الوراء، وان اتجه نحو الشارع الموازي (الموازي وليس المحاذي) لبيتي، وان انعطف يساراً إليه، ثم انعطف يساراً مرة ثانية، ثم انعطف يسارا مرة ثالثة، وهناك - كما قال أخي العامل- سوف أعرف من غير مرشد أو دليل كيف سأمشي على قدمي، بغية الوصول إلى البيت!
وثمنت جهود أخي العامل، والفريق الذي يهيل التراب في الأخدود بقصد طمر الأنبوبة اللطيفة، واعادة الشارع إلى ما كان عليه، ومضيت حسب الوصفة المذكورة، وفي النهاية وجدت نفسي أقود سيارتي في شارع ترابي مرشوش بالماء، ينخفض عن مستوى البيت بحوالي ثلاثة أمتار! أنها تجربة فريدة وطريفة لا تتاح للمرء إلا في الخيال. فالناس اعتادوا على قيادة سيارتهم في نفق أو تحت جسر أو فوق جسر، لكنهم لم يعتادوا السير تحت الأرض ، وهم محاطون بطبقات جيولوجية قل نظيرها ، كما لم يعتادوا على السير تحت الأرض ولا غطاء فوقهم غير خيمة السماء!
-7-
إلى كل الأصدقاء والأقرباء والقراء ، وإلى كل الذين في قلوبهم رحمة وعطف وحنان ، وإلى كل الذين يمكن ان يقلقوا لمصير العبد الفقير إلى الله أقول: اطمئنوا وطمئنونا، فأنا ما أزال على قيد الحياة، ولم يصب أحد حولي بأذى ، ولم ينزلق طفل إلى قاع الأخدود.
وأضيف: هل شعرتم يوماً بشوق ولهفة لرؤية براميل الزفتة أمام منازلكم؟ وأضيف أيضاً:
ألا تتفقون معي بأن الحياة أصبحت أقوى من الموت؟