أرجو أن أوجه، عبر هذه الصفحة، هذه الرسالة إلى زوجتي. فلربما استطاعت أن تقرأها مع مئات القرّاء، فتكون لها مرآة ترى فيها نفسها على حقيقتها، فتكف عما تمضي فيه، وأنتهي من عذاب سنوات طويلات عشتها معها.
لقد حاولتُ مرات ومرّات أن أناقش معها أمورنا المشتركة، وأحاورها بهدوء ورويّة وتعقّل. وكنتُ في كلّ مرّة آمل أن نصل إلى حلّ مرضٍ. ولكنّي كنتُ، في كل مرة، أخرج عن طوري، ويسمع الجيران كلهم تفصيلات نقاشنا. وننتهي إلى أن يلتزم كلّ واحدٍ منا زاوية من المنزل، لا يكلم أحدنا الآخر ثلاث ليالٍ سوياً. وأعترف أني ربما كنتُ، المسؤول الأول عما يجري؛ فقد بُحتُ لها في مطلع زواجنا ببعض العلاقات البريئة، أو شبه البريئة، التي ربطتني بهذه أوتلك، لأعطيها درساً في الصراحة والثقة، ونبدأ معاً صفحة جديدة. فأصبحت هذه الاعترافات دليلاً فاضحاً على سوء سلوكي، ولازمة تتكررّ في كلّ «نقاش» بيننا لإدانتي.
وتشاء الأقدار ألا نرزق بطفل، يملأ على زوجتي حياتها، ووقتها، ويشغلها عني، فملأت قلبي قهراً، ورأسي ضجيجاً، وأعصابي توتّراً.
أعلم أنها بسلوكها ستقتلني إن لم تكن قد فعلتها بعد. هي تغار من النسيم، تغار من خيالي أن يكون أنثى فيتبعني. وأعلم أنّها لا تحبني ذلك الحب، الذي يعمي ويصمّ. ولكنها تفعل ذلك، كما صرحت مراراً، إشفاقاً على كرامتها. ولا تريد أحداً في العالم ـ ولا تعني أحداً سواي ـ أن «يستهبلها» وهذا يعني في قاموسها: يخدعها!.
إنها تراقب ثيابي وأشيائي: تفتّشها، تقلبها، تشمّها، لعلّ شبهة نسائية تطلّ منها. ولا يمضي أسبوع دون أن تراجع، في دفتري الصغير، الأسماء والعناوين وأرقام الهواتف. والويل إن عثرتْ على رقم أمرأة بينها. إذ تتحوّل إلى مفرزة تحقيق كاملة، تطرح ما يخطر على البال، وما لا يخطر، من الأسئلة، وهي تحدّق في وجهي لترى صدق أقوالي. وإذا انتهى الأمر بسلام صرخت فجأة، وكأنها فطنت إلى أمر غاب عنها: وما أدراني أن فوزي هو فوزية، وعلي هو علياء، وخالد هو خلود؟!
فلا يكون منّي إلا أن أقول في استسلام:
ـ حاولي.. تكلّمي معهم إن لم تصدّقي.
ولا يكون منها إلا أن تبتعد عني وتقول مهددّة:
ـ سأعثر عليها.. مفكّرتك السرّية.. لا بد.
تصور..! إذا التقينا، في الطريق، صديقة قديمة، تعرّفت إليها من خلال ظروف عملي، وسلّمتُ عليها، وقدّمتها إلى زوجتي، ووقفنا دقيقة أو دقيقتين، فإنها تمطرني، بعد ذهابها، بوابل من الأسئلة: من هي؟ متى عرفتها؟ أين وكم مرة خرجت معها؟ هل بينك وبينها «إنّ»؟ و«إنّ» في قاموسها: علاقة. وتبقى حردة أسبوعاً كاملاً.
ذات مرّة تركتني واقفاً مع إحداهن، وانسحبت عنا دون أن أنتبه وحين بحثتُ عنها لم أجدها. واكتشفت، بعد عودتي إلى البيت، أنها ركبت « تاكسي» وسبقتني.
فاجأتني مرّة وأنا أرى نشرة الأخبار في التلفزيون:
- تريد الأخبار أم هذه المذيعة الوقحة؟ أنت معجب بها. قل لي: من عرّفك عليها، وأين تراها فرس النهر هذه؟ أنتم الرجال بلا عقول. يكفي أن تبتسم واحدة في وجوهكم لتتبعوها. لو غسلت فرس النهر وجهها لتساقطت الأصباغ والدهون. يجب أن تروها حين تستيقظ من نومها، لتروا وجهها الحقيقي.. هذه، كيف أصبحت مذيعة بربك؟ ألم تسمع كيف تلوك الحروف لوكاً كالجمل؟ بس أريد أن أعرف ما الذي يعجبك فيها؟
فاجأتني، مرّة أخرى، أقرأ رواية لمؤلفة محلية شابة، وعلى الغلاف صورتها. صارت تقلّب الأوراق بحثاً عن كلمة إهداء فيها. ولمّا لم تجد قذفتني:
ـ تدفع نقودك لهذه السفاسف؟ وماذا ستكتب هذه الجرباء سوى عن عشاقها، وربما تكون أنت واحداً منهم؟ هل هي عبقرية زمانها؟ يقال إن أحد الشعراء يكتب لها. وهذه الصورة التي تحدّقُ فيها قديمة ، مضى عليها أكثر من عشر سنوات!
واختفى الكتاب إلى الأبد.
تأملت مرّة، إحدى لوحاتي الأخيرة، وحين سألتها عن رأيها فيها لم تجب. وفي صباح اليوم التالي وجدتها عابسة،مقطّبة. وضعت أمامي فنجان القهوة وانسحبت إلى غرفتها. وحين عدتُ من عملي بعد الظهر، وسألتها عما في الأمر أجابت باكية:
ـ أليستْ صاحبة اللوحة صديقتك التي رأيناها في المطعم العام الماضي؟
قلتُ لها: ولكن هذه اللوحة عن أيام زنوبيا ملكة تدمر!
أجابت بحقد: وما الفرق؟ إنها تسكن تلافيف دماغك!
وحدثتها، ذات يوم، عن صديق يعمل في الطب النفسي عالج امرأة منحرفة قادمة من إحدى الدول العربية. وبعد يومين أو ثلاثة فاجأتني بقولها:
ـ لماذا تحدثني عن تلك المرأة الشاذة؟ أتقارنني بها؟
وصمتت قليلاً ثم تابعت:
ـ بربك! ألم تحضر لزيارتك في المعرض الذي أقمته الأسبوع الماضي، وعالجتها أنت لا صديقك كما زعمت؟!
واستسلمت لحردها.
وأيقظتني من نومي، ذات ليلة، وصرخت في وجهي:
ـ من هي التي تحلم بها. اعترف.. سمعتك وأنت تقول لها: تعالي!
وفاجأتني صباح يوم باكر، وهي تهزّني بيديها:
ـ لا تنكر.. لقد رأيتكما في المنام، أنت وهي. قل لي من تكون؟
وهمست في أذني، وهي تستقبلني، بعد عودتي من جولة قصيرة في أوروبة، وكنّا في طريق العودة من المطار:
ـ ما رأيك أن تجري فحصاً للآيدز؟!
هذا غيض من فيض. والمشكلة أنني أفاجأ في كلّ مرة، على الرغم من كل الاحتياطات التي تجنبني الثورة. وأجد نفسي، في كل مرة، وقد أعماني غضب جارف، لا يقف عند حدّ. وأيقنتُ أنني هالك لا محالة، فاتخذت سلسلة من الإجراءات:
أصبحتُ أتجاهل من أراه، في الطريق أو في الأماكن العامة، من النساء اللواتي أعرفهن.
أصبحت أتغيّب عن المحاضرات أو المعارض أو الأمسيات التي تقدمها كاتبات أو فنّانات.
غيبّتُ عن مكتبتي كلّ المؤلفات التي تحمل أسماء نساء.
أصبحت لا أرى من النشرات الأخبار إلا لمذيعين. ومن باب الاحتياط أختارهم مذيعين بشوارب!
أصبحت أتحاشى رؤية المسلسلات التي تمثلها بطلة جميلة جداً أو حتى جميلة.
اختفت من لوحاتي النساء، واقتصرت على الرجال.
اختفى من كلامي كل الأسماء التي فيها تاء التأنيث، فلم أعد أقول: «أريد تفاحة») أو «برتقالة»، بل أقول: أريد «تفاحاً» و«برتقالاً».
أصبحت أصرّح أنني أحب الليل والقمر والبحر، ويغيب من تصريحاتي أنني أحب الشمس والشجرة والزهرة!
وأخيراً صمتُّ عن كل شيء: لم أعد أقصّ حكايات أو فكاهات أو أخباراً . حلّ بي صمت يائس. واعتقدت أن الأمر انتهى عند هذا الحد.
لكني فوجئت بها من جديد، تهز رأسها، وهي تنحني نحوي وتقول:
ـ فلتهنأ تلك التي أخذت عقلك، وجعلتك تسكت من أيام لتفكر فيها!
عندها خطر لي أن أكتب إليها هذه الرسالة المفتوحة؛ فقد أقررت بالعجز، وأصبحت أرجو الخلاص بأي ثمن.
وقد يسألني أحد لماذا لا أطلقها، وأنهي كل هذه المشكلات، وأتفرغ لنفسي، ولفنّي فأقول: لقد نسيتُ، منذ البداية ،أن أذكر أني أحبها.. أحبها حباً ملك عليّ كل طريق، وأراها لأمر ما، أجمل نساء الأرض، ولا أستطيع أن أتصور الحياة دونها. وهذه هي مشكلتي الحقيقية. فاسمح لي، عزيزي المحرر، أن أخصّ زوجتي بهذا السطر: « زوجتي الحبيبة.. اعلمي أن كل نساء الأرض لا يستطعن تحويل قلب رجل محبّ عمن يحبّ.. وارحمي عزيز قوم، أحبّ، فتزوج، فذل!».