بتـــــاريخ : 11/17/2008 8:50:18 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1146 0


    نفاد الرمل

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : وهيب سراي الدين | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    (1)‏

    ... وترتفع أشرعة السفر، على أجنحة الشوق. والعين تغزل مغاني ورياضاً" هناك"، بعيداً، في جنان الخلد. والقامة تتطاول في الفضاء، تسمق وتسمق، حتى تبصر ما ينداح خلف الشفق

    " هناك"، حيث تترامى برك اللاذورد، والشمس تنشر عليها من دفئها نثاراً أشقر، كالعسجد‍!‏ وترتفع أشرعة السفر، على أجنحة الشوق. والعين تغزل مغاني ورياضاً" هناك"، بعيداً، في جنان الخلد. والقامة تتطاول في الفضاء، تسمق وتسمق، حتى تبصر ما ينداح خلف الشفق.‏

    اسرعي.. اسرعي، ياعابرة الفضاء. واشخري بمحركاتك الأربعة. ليتها كانت ألف محرّك. لماذا لايصل المسافر، في لمحة عين؟ في ومضة نظر؟‏

    وانجرف نجيب الفهد، بهذه العاطفة المشبوبة، التي لايدري كيف شبت في جوانحه، على الفور، فلم يجد بدّاً من أن ينصاع، ويتأبّط حقيبته، متّجهاً إلى مطار (كاراكاس)، أين أنت، ياقريتي الحبيبة؟ بلاد (فينيزويلا ) كلها. لاتعادل في "مريجة"؟ ذرة واحدة من التراب!‏

    عجيب!! أهذه هي ذي "مريجة"‏

    تساءل نجيب الفهد، مع ذاته. حين وطأت قدماه أرض قريته.‏

    نشبت بوجهه بنايات اسمنتية، احتلت (السهل الشرقي).‏

    ارتفعت في العلاء عدة طوابق. بنيت على أحدث طراز. رآها مصقولة. يتلامع فيها البلّور والمرمر والرخام. ويعلو سطوحها القوميد والآجر. حينما سافرتُ تركتها كومة من البيوت الحجرية، متلبّسة سفوح "تلها" الرملي، من كل جانب. أجدادنا قالوا: التلول للبناء، والسهول للزرع. لماذا هذه المخالفة، ياالي قريتي ومن أين أتيتم بالأموال، حتى بنيتم هذه "الناطحات"؟ أعتقد أن (فينيزويلا)، لم تنتقل إلى هنا.‏

    وكان الأمر الأشد غرابة، الذي حيّر نجيب الفهد، هو أنه حين اراد أن يتجوّل في أزقة- عفواً- في شوارع قريته الحديثة.‏

    لم يجد من السكان من يمشي عل رجليه، ليكلّمه. ليستطلع ما الخبر؟ وبعد لأيٍ. نظر إلى الأعلى. هَهْ... هاهم أولاد هناك.‏

    وجد الناس فوق سطوح عماراتهم ولكن بهيئات مختلفة، عمّاتركهم في السابق. وجدهم قد نبتت لهم، في جنوبهم، أجنحة عريضة وفي خلف ظهورهم ذيول طويلة.‏

    وعلى مرأى، من عينيه. انطلق نفر منهم يحلّق في الهواء. يحرّك ذيله، يصفق بجناحيه. محوّماً فوقه قليلاً. ثم يشمخ عالياً ليغيم في السماء.‏

    ماذا اشاهد؟ هل أنا في منام، أم في يقظة؟ تساءل نجيب الفهد في نفسه، أكثر من ألف مرة؛ وهو ينعم النظر ويدقّق، هلى أكذّب عينيّ؟ لماذا تحوّل الناس، في قريتي إلى طيور؟ لماذا صرتم هكذا، يأهل "مريجة"؟ تركتكم أناساً تدرجون على الأرض. والآن أراكم تطيرون!.... رويداً. رويداً. أنا بشوق إليكم. أريد أن أكلمكم. أريد أن أتحدّث إليكم...‏

    لم يرد أحد منهم. وقف في قارعة شارع. وأخذ ينظر إلى حركات هؤلاء الناس- الطيور. نذكّر حين كان طفلاً. يتفرّج على شخوص (صندوق الدنيا). ثم راجع ذاته. ماتراه عيناه، هل هو خدعة نظر؟ أم أن قريته أصبحت عُشّاً كبيراً؟ وقد تحوّل البشر فيها إلى طيور. وأعاد التاريخ نفسه مرة ثانية؟ أجل. يقولون إن الطيور من أرومة الإنسان الأول. وقد تطوّر أجداده، من اسماك، إلى طيور، ثم إلى قرود. ثم إلى بشر.....‏

    فاهنأ، يا(مستر داروين)، بأهالي قريتي، الذين حقّقوا" مقولتك". وردّوا عنك لعنات معارضيك.‏

    واستمرّ نجيب الفهد. يتداعى في داخله بل وقف مشدوهاً.‏

    حين لايشاهد الناس، إلا محلّقين. يرفوفون بأجنحتمهم. هذا يدفّ بجناحيه، كأنه يصفق بهما. وذاك يحوّم، وهو يضرب الهواء برجليه. كأنه يسبح. حتماً، ليزيد من علوّه أكثر في الجو.‏

    أشار بيده. هاهو ذا زيدان الفاعور- ناطور القرية الأعرج بالذات- الذي كان يحمي مزروعات سهولها، وهو يظلع عللى عكازه. عرفه نجييب الفهد تماماً برجله المخلوعة. يقف قبالته، على سطح بنايته العالية. ويتهيأ للطيران. ثم عرف فرحان الدباس، بجثّته الكبيرة. حارس القرية، أيام زمان. يحلّق فوق رأسه. كأنه طائرة‏

    (هيلوكبتر). وأيضاً، عرف جاره في المسكن، سابقاً، شاهين الحمود. يفرّ من أمامه. كأنه طائر (أبو سعد). لوّح له بيده، ياشاهين. أنا جارك نجيب الفهد... هيْيْهْ... ردّ عليّ، يارجل... هل نسيتني؟ كنا نزرع السهول معاً. ونرعى البقر معاً. و.. .... و....‏

    ولكن شاهين الحمود خفقَ بجناحيه وطار، ليحطّ على سطح بناية عالية. لحظتئذ، لم يعد بوسع نجيب الفهد، إلا أن يصنع، من جسمه، لولباً، ليدور حول نفسه. ويصيح كالمجنون: ياهوو..ه ه!‏

    ياجماعة! أنا نجيب الفهد ابن قريتكم، ألا تعرفونني؟ لقد تركت بلاد المهاجر. وأتيت إليكم، لأعيش بينكم. ردّوا عليّ.‏

    بيد أنهم ظلوّا كالعفاريت. منهمكين بين قافز عن سطحه ليطير.‏

    وبين عائد من رحلة طيرانه. وقد علق برجليه، وجنوبه، حاجاته:‏

    قوارير" شرب". معلّبات" أكل". قناني عطور. آلات تصوير. آلات عرض، (فيديوهات)....‏

    الكل غارق في حياته الراغدة. ناطور القرية، يملك بناية ويطير.‏

    والذي كان حارساً أيضاً. والذي كان راعياً كذلك. والذي كان فلاحاً.‏

    ..... كيف أصابتهم هذه الحياة الهانئهة، من البُلَهْنية والطيران؟ فكّر في أن يفرح لهم بها. فلمَ الحسد؟ سلخوا دهوراً في مقارعة الشقاء والعذاب، فيحقّ لهم أن يسعدوا ويرتاحوا. ولكن لماذا هذا الطيران؟ لماذا هذا الطيران، يأهل قريتيي؟ ثم، هل هناك من سعادة تأتي مجاناً؟ الحياة نظام صارم لكل شيء فيها ثمن فما ثمن طيرانكم هذا ياترى. وبينما هو كذلك. رأى دعيبساً، الذي كان فلاحاً مجدّاً. رآه يتبختر مثل ديك حبش، بل مثل طاووس. يجرّ ذيله وراءه. ثم يضرب بجناحيه ويطير. راح يعلو ويهبط. يصنع (سيركاً) في الهواء. وإن هي إلا لحظات، حتى غفّ عليه، وانتشله برجليه، كالباشق!‏

    اتركني يادعيبس. أنا لا أريد أن أطير. دعني على الأرض.‏

    غير أن هذا الـ " دعيبس". لم يصغ إليه. بل أدخله من نافذة في الطابق السادس من بنايته. أواه....! ما هذه النعم؟‏

    حيطان مرمر. أحواض (بورسلان). برك مياه ساخنة. صنابير فضة. نوافير ذهب! هل رحلت الجنّة من مكانها، وأتت إلى هنا؟‏

    ولكن لايدري نجيب الفهد. كيف عاد واعتكر مزاجه. شعر بضيق، وأصبح كالمسجون. فهبط درج العمارة مسرعاً وهرب.‏

    سار على رجليه، في شوارع مريجة الحديثة المستقيمة المنتظمة، حتى وصل إلى حيث كانت قريته الحجرية القديمة متسلّقة على سفوح تلها. كما تتسلق دوالي العنب على رجمها.‏

    (3)‏

    تفحّص نجيب الفهد بقايا قريته القديمة، التي تركها، قبل أن يسافر، بيوتاً أرضية مبنيّة بالحجر البازلتي الأزرق. بيد أنه له يعثر على بيت واحد منها. أين اختفت دورها وأحواشها؟ طبعاً هي لم تتحوّل إلى أسمنت، لتلد تلك الطوابق العالية المنتصبة، في السهل الشرقي. وأمّا التل. فوجده، قد زال معظمه. وقف يفتكر كيف اختفى، أيضاً، تل مريجة، وأين اندثرت تعاريج سفوحه المنحدرة بمصطبّاتٍ خضراء متدرجة. كأنها معلقات بابل! ناهيك بالسهل الجنوبي ذي الوجه الأقشف. الذي تملؤه الأشواك والنباتات الحوشية.‏

    صمت." هل حللت في دنيا غير دنيا"؟ وشعر كأنه سرى في سديم مطبق. بل كأن غشيه غبش فظيع. وأخذت عيناه وأذناه ترصد الوقائع، في داخله:‏

    -" كنتُ سهلاً خصيباً ممرعاً. تغمرني أكداس القمح والشعير والحمّص. وسائر أنواع الحبوب والدريس.....".‏

    -" كنتُ تلاً عامراً بأهلي. شامخاً ببيوتي....".‏

    جاران أزليّان. متعانقان. متقابلان"_ تّلاً وسهلاً.‏

    رملاً وتراباً- راحا يتناجيان. ويتطارحان همومهما!‏

    ثم:‏

    -" ياصديقي السهل. أنا أحمل برملي ثقل البيوت".‏

    -" وأنا، ياأخي التل، أتحمّل بترابي جروح السكك والحراثة".‏

    -" إذن، أنت بترابك للزرع".‏

    -" وأنت برملك للبناء".‏

    وأيضاً، تخترق أذني نجيب الفهد تيارات أخرى. همسات شكوى. وأنين. وحنين. وحتىّ بكاء.‏

    -" ياجاري التل. تعال انظر إليّ. خضرتي ولّت. البور سفعني بلونه الكالح... أين أهلي؟ أين أنتم أيها الفلاحون الأشدّاء، بمحاريثكم تزيلون عني الهشير، والقرام؟ لماذا هذا الجفاء؟ منذ سنين لم أركم.... هِئ.... هِئْ....‏

    وبعد أن كفكف السهل دموعه. التفت حوله، لم يجد التل الذي كان يتكلّم معه. لقد اختفى فجأة، ولم يترك منه إلاصورة في خياله.‏

    -" أنت، أيها التل. ياجاري الطيب. أين اختفيت؟ ماذا اصابك؟ أنا أكلني الشوك. وأمّا أنت، فمن أكلك أيها المسكين؟ هل ابتلعك جان؟ أعتقد أن وحوش الأساطير، وغيلان الحكايات كلها، لاتقوى عليك".‏

    -" أنا نضبتُ- أجاب التل- ياجاري السهل. لا أدري ماذا فعلت حتى نهشتني هذه الآليات الجهنمية؟ أنا لا أريد أن أتحوّل إلى ذهب، أو ماس. بل أريد أن أبقى هنا، في مكاني. متماسكاً بذرّاتي الرملية. معتصماً بها كالطود الشامخ...".‏

    (4)‏

    وتناوشت مخيّلة نجيب الفهد صور وأصوات، لآليات شيطانية، تغرس أسنانها الشنيعة في ذلك الرمل المهلي الرخف، من نوع " الطفّ". تجرف، وتجرف. والشاحنات الضخمة تنقل وتنقل. يقال "الذي لاينبع يخلص". هاهي ذي الآليات الماردة، تتلمّظ بالبقايا الأخيرة، من رمل هذا التل الهالك، كان هنا "تل"! كانت هنا كومة عظيمة معرّمة كصبّة قمح...‏

    وتعود تطنّ في الذنين المنصتتين:‏

    -" وداعاً، ياجاري السهل".‏

    -"إيْيْهْ....! سقى الله- ردّ السهل- تلك النسين الخوالي.‏

    ياجاري الراحل، التي كنت فيها، بجانبك بساطاً أخضر. شرشفاً من سندس، تبرقشه الأزهار، والورود. وتتمايل في حناياه أمواج السنابل. تظلّ تميل وتصلي للشمس. حتى تهبها لونها الذهبي الأشقر. وحين كنت، أنت، كوكبة من الأنس.‏

    ترصّع أصداغك البيوت. وتنطلق من ذروتك مواويل الفلاحين في سرواتهم المبكرة إليّ. وَيْ...!‏

    سأظلّ اذكرك. وأذكر مجاورتك لي، ما دمت منبسطاً على سطح هذه الأرض".‏

    -" ياجاري السهل= أجابه التل- لقد أصبحت أثراً بعد عين. سيقولون: كان يجثم هنا تلّ مريجة‍‏

    (5)‏

    ولايدري نجيب الفهد، الذي نصب قامته، دون حراك، أمام حفرة مريعة. كيف أخذه حزن عظيم على هذين الجارين الحميمين.‏

    -" حتماً حدث هذا كله، بفعل ذاك الطيران اللعين، الذي انجرف به أهالي قريتي. التل وهذه. والسهل دردار وقتاد. و...".‏

    وغاب في سراديب نفسه. في غياهبها. رأى أهالي قريته أنفسهم، الذين كانوا يطيرون. قد راحوا يرتمون في السهل على أشواكه اليابسة. وقد عادت إليهم جلودهم الأصلية الخالية، من الأجنحة. وألبستهم العادية العاطلة من الكشاكش والتزاويق، سنّارات الشوك تنفذ إلى داخل الأجساد. والدماء تنزف والدموع تذرف.‏

    -" ماذا جرى. يا أهل قريتي الكرام".‏

    -" الشركة رحلت. لقد نفذ الرمل"‍!‏

     

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()