بتـــــاريخ : 11/17/2008 8:40:08 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1068 0


    رحلة طويلة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : عبد الرحمن سيدو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    يشتد الصراخ، يرتعش خده، يتقدم، يلصق أذنه بالباب...‏

    (أم حلوم) التي ولَّدت كل نساء القرية تصيح...‏

    -"الصبر يا بنتي الصبر"، عضي على طرف اللحاف، اضغطي قليلاً، تشجعي هكذا... استمري.. ينفصل عن الباب، يتراجع، يزفر بنزق:‏

    -هذا ليس صراخاً يا (تهاني) بل شخب إنسان.. يذبح...

    ثمة رذاذ فضي يهبط بارتخاء مجدولاً بريح ثلجية، يفرك يديه، يرتفع الصراخ ويمتد طويلاً... هذه المرة، أنين موجع يلفحه ويترسب في تنور قلبه الخاوي، أنين يفقده اتزانه، يتقدم نحو الباب، المطر يشتد، المرأة تتلوى، تنثني، تتقوس، تحاول النهوض، مستندة على يديها، تنفتل، وجهها مكدود، شعرها مكوم، تساعدها (أم حلوم) تجلسها، تصيح به:‏

    -مزيداً... مزيداً من الحطب يا بني النار خمدت...‏

    يدخل الزريبة، يحتضن حزمة من العيدان ويدفعها إليها من فرجة الباب قائلاً:‏

    كيف صارت الدنيا يا (أم حلوم)...؟‏

    -الصبر يا بني... الصبر...‏

    لساعات طويلة وهو صابر، يعبره النهار والليل، الربيع والخريف، الشمس والظل، الأبيض والأسود، وهو تائه موزع بين صراخ كان خافتاً في البداية ثم اشتد وأضحى ذا وقع ممزق، حتى بح الصوت، وخيم الصمت؛ إلا تمتمات واهنة، ترميها (أم حلوم) وهي تقوم لتحضر شيئاً ما بين الفينة والأخرى، الجبال ترسل دلاء مكتظة بالبلل والمطر... الجبال.. آ... إنها تبدو أكثر قرباً منه... إنها تحاصره... هكذا شعر وهو يحدق في عري صخورها الرمادية، تصيح بعض الديكة ويقفز الكلب (ميرو) من رماد التنور، يتمطى ويأخذ بالنباح، يلغط بعض الناس، يصيح آملاً:‏

    - "مدد يا سيدنا عبد القادر مدد"‏

    بهدوء يتحرك الباب الخشبي الثقيل، ينفتح ويبرز رأس (أم حلوم) وجهها جاف مجهد ومن عينيها الغائرتين تنحدر بعض الدموع وتتيه في التجاعيد التي شكلتها الأيام يقول:‏

    "خير يا أم حلوم"..؟‏

    -البنت لازم تروح الحكيم.. أنا أكره الذهاب إليهم.. لكن الأمر بيد الله..."‏

    يفتح باب الزريبة، يحل الحبل الذي يربط الحصان، يضع السراج فوق ظهره، يسحبه خارجاً، يصهل الحصان بحنق وقت يدهمه البلل، يُخرجان المرأة مدثرة بلحاف سميك، يجلسانها، تصعد (أم حلوم) خلفها وتشبك يديها تحت صدرها.. وهي فوق الحصان نظرت إليه بحنو بعينين منتفختين...‏

    فتحرك شيء ما دافئ ومتحرش واخترقه.. وراح يشعل كل خلية في جسده البارد... مطارق ثقيلة تدق مؤخرة رأسه، تندلق الذكريات.. كيف كان اللقاء بها حلواً مثل "طاسة دبس"، كيف كانت تأتيه ليلاً ليلتقيا، كيف أنّها دقت بقدمها الأرض وبصقت في وجوه كل خطابها فعادوا كسيري الخاطر.. تذكر... كيف أنه تزوجها بلا مهر... وشعر من ثم أنه تحول بعدها إلى بغل... بغل حقيقي له ذيل ورجلان صلبتان ورأس كالصوان بغل لا يتعب من الفلاحة والحصاد، الحر والبرد، والليل والنهار، في الظل والشمس، الصيف والشتاء... كيف أنه أهملها في فترة الحمل وجعلها تعمل فوق طاقتها.... فلم تتأفف بل استمرت تحمل أنصاف الأكياس فوق ظهرها حتى البارحة...؟ حريق هائل راح يلهب رأسه الآن وتحت الصدر تماماً في المنطقة الغامضة الطرية حيث يدق القلب، تقوست أنياب حادة وانغرزت في رئتيه فزعق:‏

    - (يا يـ... و....و......ا)‏

    الدرب موحل، والمطر يغسل الأرض والأشجار، بينما العرق الغزير ينساح من كل جسده.... و (تهاني) لا تزال مقوسة أمام (أم حلوم)....‏

    البرق يومض، يشد الحصان أذنيه وينصبهما تقول (أم حلوم):‏

    -فرجك يا رب...‏

    والدرب يطول...يطول.... يلتف أكثر ويتعرج، يهبط بحيرة ويضيع في الوديان... وجاهداً كان يحاول الوصول إلى البلدة حيث /الحكيم/ لكن البلدة كانت تبتعد وتبتعد أكثر....‏

    تقح (أم حلوم) وهي تتفقد (تهاني) وتقول:‏

    -لنسرع أكثر يا بني...‏

    وهو يخترق المطر والوحل سمعها تتمتم:‏

    "أريحوني يا ناس، ظهري انكسر" يا أم حلوم، الشفرات تمزق بطني.... أتوسل إليكما.. خلصوني، الموت أهون من هكذا حياة.‏

    واستمرت توسلاتها تنوس حتى تحولت إلى غمغمة غير مفهومة.... فراح يسأل بنفاد صبر:‏

    -كيف الحال يا /أم حلوم/....‏

    -الصبر يا بني الصبر.‏

    -الصبر... الصبر...، "تهاني" مكدودة، بلا حركة أنفاسها محمومة وبطيئة...، هي تنازع يا "أم حلوم" تنازع، ويهز قبضته الكبيرة.‏

    بهدوء أجابت أم حلوم.‏

    -أعدنا إلى البيت...‏

    عندما حدق في عيني أم حلوم لم يقرأ فيهما إلا رعباً ممتزجاً بألم أخرس فصرخ:‏

    "أم حلوم ماذا... ماذا قلت... اا.. ما...ذا"‏

    أردفت أم حلوم‏

    -أعدنا إلى البيت الأعمار بيد الله...‏

    زاغت في رأسه الدنيا، أكوام هائلة من القش اليابس تندفع إلى حلقه، يتيه ويضرب في حقول ملح واسعة، ينسرب إلى زريبة كبيرة، تصدمه جثث بغال وحمير وثيران وتيوس متفسخة، يبصر والده الميت منذ زمن قصي... ها هو.... إنه يعتلي جمجمة كبيرة.... جمجمة بلا عيون، بياضها الفارغ مرعب، في يده سيجارة، يدخن يبتسم، يشير عليه أن يقعد، يرتمي قرب قدميه بتهالك..... دود... دود كريه لا شكل له ولا شبيه يصعد على جسمه... يقضم قلبه والأب يضحك يقول:‏

    -أنت بغل... بغل نزق يا بني.. الصبر مطلوب...‏

    يهرب من الزريبة تلاحقه ضحكات أبوه... أنت بغل نزق يا بني... الأشجار تتحول في عينيه إلى تماثيل مفتوحة الأشداق، والأرض ذباباً وسرطانات وأفاع، بينما الضباب يشكل تيوساً تبقر بطنه بقرونها الحادة، والمطر يستحيل إلى رفوف من الزرازير والنحاس الأسود، الطريق يتمدد زرداً فولاذياً يقيد قدميه ويلقيه في زنزانات مظلمة، الأرض ترتفع، السماء، تهبط، وهو بينهما باشق مخترق ومهزوم.‏

    صاحت دواخله أنه لن يترك تهاني ستنجب له طفلاً مدهشاً... سيلتقط أصابعه الغضة ويتجه إلى الحقول المنداة، سيطارد الحملان، ويوقدان دورة الدم في شرايين القمح، وبمركب الفجر سيوغلان في النهر. ويصطادان السمك الفضي ويسبحان بين البردي ويطيّران البط ويطلقانه من سوار القصب وينشدان للصبح ثمل القيثارات،...‏

    نعم لن يترك /تهاني/....‏

    وصلوا القرية وكلما تقدموا تجمهر وراءهم الأطفال والنساء، الكهول والشباب حتى بلغوا البيت...‏

    راحت العجائز تولولن، أما الرجال فأخذوا ينكشون الأرض الموحلة بأعواد الحطب المدببة وهم يقولون:‏

    -" لا حول ولا قوة إلا بالله"...؟‍‍!‏

    تناهى إلى سمعه صوت طلقات نارية..... بدأ بالرقص.... الدبيكة كثيرون... يتوسط حلقة الدبكة، يحاذي /تهاني/ تهز كتفيها بانتفاض كإوزة تستحم وقد طارت من بين شفتيها بسمة حانية، تحدق فيه، تميل عليه بشعرها الطويل، تغطيه، العطر ينسكب من بين خصلات شعرها، عطر مسكر هو، بانتشاء يتلوى و يتثنى مواجهتها، قرع الطبل يعلو ويعلو مجزءاً أنغام (الزرنا) الرخية، تتداخل أصابعهما، سوية ينحدران إلى الأرض، وكل ذرة في جسميهما تنتفض، يقفزان عالياً، تنفك الأصابع، يتباعدان، تميل، يظهر قسم من ساقها الممتلئ المدور من تحت فستانها الطويل المقصب، يغمره الأبيض الموشح بالزغب والندى... سماء من الحمامات تخيم على نخيل قلبه، يرفع يده عالياً، يقفز من جديد، تتفجر من جسمه تيارات ساخنة، يهبط بركبة منثنية على الأرض، /تهاني/ تهتز، نهداها يبرزان أكثر، تعلو الزغاريد، يطلق المختار من بارودته خمس طلقات، الدبكة تشع، الحلقة تتسع وتدور بانتشاء، تتداخل أصابعهما ثانية، يمشيان كالبط وكل بضعة خطوات يرتفعان ويتسامقان ، تشدو الأيادي بالتصفيق، وإذا تلتصق جبهتاهما... تتفجر بارودة المختار بالطلقات...‏

    قال "حسنو": انظروا.... كيف ينتفض... إنه ديك مذبوح...؟!‏

    تقدم، اخترق الجموع، وقف حذاء التابوت وصاح:‏

    -/تهاني/ لنكمل الرقص فالرحلة طويلة... طويلة...‏

    يشتد الصراخ، يرتعش خده إثر لطمة قوية، فيصحو‏

    كانت /تهاني/ مغمورة بالتراب‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()