بتـــــاريخ : 11/17/2008 8:39:03 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 877 0


    أحزان دامعة لقرية وادعة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : عبد الرحمن سيدو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    تماماً..‏

     

    في ذلك المساء الذي عدت فيه، يتبعك "صالحو" وهو يصرخ:‏

     

    - ستدفع حتى إن بعت نساءك... هل تعرف معنى هذا.. ستدفع..‏

     

    كنت خاسراً كبيراً، طارت أموالك، طار من عينيك وهج الرجولة، وترامح فيهما شعاع ندم ذبيح، يومها قلت:‏

    - "صالحو" سأدفع.. والله سأدفع...

    نعم.. ودفعت بي إلى بيت الحاج "محمد" خادمة عندهم عشر سنوات، كانت جوانحي فيه تلتهب شوقاً إلى أمي.. أمي الطويلة مثل صفصافة والطيبة كالقمح، الحافية، المشققة القدمين، التي كانت تكد وتكد، تعلف الغنم، والبغال ليلاً، ومع رقصات الفجر الأولى، تجهز المحراث، تشده إلى البغلين، وتوقظك، تناولك زوادتك، تساعدك في لبس جزمتك ذات الساقين الطويلين، تحلب الأغنام، تخثر الحليب، ترسل الخراف مع أمهاتها إلى أعشاب الجبل، تعجن تخبز، تغسل، تأتيك بقلة الماء.‏

    آه ياأمي، كنت تهمسين:‏

    - قدري وسخ.. سخام.. ماذا أفعل مع هذا الطفل الكبير ياناس...؟!‏

    الأيام تتداخل، التعب يبتلع التعب، والحرقة تدخل في الحرقة، والعمر يجري كتيار ثقيل، وأنت صابرة ياأمي، صابرة.. صابرة ياأمي، صابرة..‏

    بان التأثر جلياً في وجه الست "رباب"، خفقت رموشها مرات عديدة، واصطبغت حدقتاها بشيء من الإحمرار، احمرار يبشر بدمعة تكاد تهطل، فقالت بصوت مرتجف:‏

    - استري مارأيت منا يا ابنتي "باسي" ونهضت "حياة"، نفضت مؤخرتها الكبيرة، ومضت باتجاه الشرفة وهي تقول:‏

    - يجب أن تنامي باكراً فالرحلة طويلة.. في الحقيقة...‏

    لا أدري ماذا أقول، قلبي ينتفض كطير، وترقص في عينيَّ دمعات حادة كالسكاكين، يضطرب تنفسي قليلاً، وتنطلق من أعماقي تنهيدة أسيانة، وبخطا متثاقلة، انسحبت إلى الفراش، لكن في مروجه البيض ليلتها، لم يغمض لي جفن، فوق حدقتي تعبر الذكريات...؟!‏

    هاهي القرية مزنرة بوشاح من الشقائق والزنبق البري.. أمي.. هاهي.. أمي.. أعانقها، ألثم طرف ثوبها، أقبل بطنها، أصعد فوق كتفيها، تبتسم، تطبطب على مؤخرتي، ضاحكة أين كنتِ ياشقية...؟!...‏

    أركض صارخة بالجيران.. ها.. لقد عدت، أطارد "حميد" لأستولي على العصفور الذي يخفيه بين يديه، أحمل دلو الماء، أنزله إلى البئر، أكنس باحة الدار، أصرخ في وجه القمر الذي يهرب ليتخفى خلف الجبال:‏

    - حبيبي تعال...‏

    لننسج معاً كذبتنا الصغيرة، لنفجر ضحكاتنا التي طال انتظارنا لها، مد يديك، مدهما، املأهما بالتين والعنب، وزعهما على السهول البعيدة...‏

    وفي الدبكة والصبايا أصيح:‏

    - هاتوا قلوبكم العامرة بأنسام الشمال وأسراره المقدسة، لنفتحها لهديل الحمام وننثرها على مائدة الصخور، وصعداً نرتقي أعالي القرية، لننصب رقصنا المسحور...‏

    ثم أدور على كل النساء الحوامل أردد:‏

    - مبارك حملكن يا أمهاتي.. إني أمنح اسمي لحمل بطونكن، نعم لا تستغربن مخدومتكم تمنح اسمها لبطونكن إذا قبلتن..‏

    وتعلو الضحكات، تطفح في المدى...‏

    - جميل اسمك.. جميل يا "باسي"...‏

    وأتمرغ على الأعشاب، افتح صدري للبيلسان، أروي جفاف أيامي بالنحل والزعتر، ومن دفق شراييني أرسل قبلة شوق، لحبيب وغد، كان يعترضني في رأس الشارع كل صباح، لاأعرف لماذا كنت أخاف منه، أرتجف من رؤياه، وأرتجف قهراً إذا لم أراه ينتظرني في صباح ما، تنسكب وتهطل علي الأسئلة:‏

    -" هل هو مريض، مسافر، متى يعود، يعود ويحلو الصباح... إيه "لطيف" سامحني لقد غبنتك.."‏

    يتبعني إخوتي، أحضنهم، وأجري، يحيطون بي، يضايقوني، أصيح بهم:‏

    - لتتحول جذوركم إلى بصل وثوم.. ابتعدوا عني...‏

    وأستيقظ على نقر الباب، أشعل المصباح، أرتب حوائجي في حقيبتي، وبحرص أخبئ في طيات الحوائج نقودي التي ادخرتها، أحمل المكحلة وفرشاة الأسنان مع بعض الصور، ألقيها فوق الحاجيات ثم أقفل الحقيبة، أقفلها على مرحلة مضت ومرحلة قادمة، أقبل أفراد الأسرة وأنحني لأقبل يد السيدة "رباب" أمي الثانية، تسحب يدها، تقبلني، يهبط جميع أفراد الأسرة، "الحاج محمد" معي أسفل البيت، تضع السيدة "رباب" مبلغاً من النقود في يدي، أصعد السيارة تحت وطأة وداع أفراد هذه العائلة الكريمة، أرتمي على مقعدها الخلفي، يدور المحرك، يضيء المصباحان الأماميان، تنطلق السيارة، عتمة مثقوبة بخطين مستقيمين، ينسحب الطريق إلى الوراء، تغيب الأشجار المبعثرة، تتزايد الحفر كلما تقدمنا، ثمة ضباب عذب ينبع، يصعد ويتبدد، وعند المنعطفات، يبذل "الحاج محمد" كل جهده، يدور المقود يدوس المكابح، تئن السيارة، ثم تعاود الانطلاق، تسبقنا عربات مكتظة بالجنود، تمر بين آونة وأخرى على بعض الحواجز ونقاط التفتيش، نقف، يطلبون أوراقاً، يناولهم الحاج مايريدون، يلقون بنظرة إلى داخل السيارة، ثم نمضي...‏

    كان ارتقاء الطريق، يزداد صعوبة كلما صعدنا نحو البلدة، تبطئ السيارة، يدور "الحاج محمد" إبرة المذياع كل فترة، لا يدعها تستقر أو تثبت على محطة، مزيج من اللغات والأغاني وبرامج الصباح تحاصرنا، يشتم الحاج، ويبادر إلى الحديث عن المنطقة التي نعبر، آليات أخرى تهبط جنوباً، قسم منها محروق ومعطوب، يرافقها جند طالت ذقونهم وتبدلت سحنهم، يبتسمون، تهدر حناجرهم بأغاني الشوق والفراق، يرتمي الضوء علينا مترفاً رخياً، مصحوباً بلذعات برد هاربة.. ثمت اخضرار على مد البصر، تكدره بقع سود، خلَّفها المتحاربون علىجنبات الطريق المستسلمة للعابرين.. إنها الحرب.‏

    أعرف، وقد اعتدت عليه، في كل يوم كانت السيارة البيضاء، تجلب جثثاً وجرحى، توزعها علىالمقابر والمستشفيات، غادر الشبان، تركوا لحبيباتهم ذكريات تؤج انتظاراً وأغنيات، تفيض حسرات في حاراتنا السابقة، فقدت أم (خضر) زوجها النزق (مهدي) في أيام الحرب الأولى، فانكفأت إلى داخل بيتها، يذبحها ألم صامت، وبعد سنة على وجه التقريب ذهب "سعدي".. واحسرتي عليه كان شاباً مرحاً، تنضح من كلماته سخرية فلاح أدمن العراك، أذكر أن أمه قبلته فقال:‏

    - ها.. انتظريني... فقط ثلاثة أشهر.. سأعود..‏

    غيَّبه الشارع ولم أره ثانية، هل هو أسير..؟، أم مزقاً تقاسمته الوحول والأتربة..؟ أم أنه في موقع ما، حي ويطلق النكات يوزع خفة روحه ومرحه على رفاقه..؟‏

    قالت أم "خضر":‏

    - رأيته في الضحى عارياً تأكله النيران، وهو يستغيث، اطفئيني ياأمي.. قلبي يشتعل، دمعة ماء يا أمي... دمعة ماء.. جوفي يحترق..‏

    وتدمع عيناها وتعلق:‏

    - يطلب الماء وهو يخوض في بحيرة يا أم "سعدي"... واعجبي..؟!‏

    عديدون هؤلاء الذين غابوا، غابوا وانمحت أطيافهم من أحداقنا وقلوبنا..، نبتوا، لعبوا، شبوا، وصاروا شباباً، وفي الأماسي وليالي الصيف رقصوا وسكروا، ثم اختفوا وكأنهم لم يكونوا..؟‏

    هل وجدوا يوماً..؟ أم أنهم الخناجر التي نبتت من صدورنا وماعادت إلى أغمادها، فتركت جروحاً تقيح وتصدي حتى آخر العمر..؟! أكيد أن "لطيف" سيذهب أيضاً، لن أراه... لن يراني... لكنني سأحدث صديقاتي عنه، وسيقول هو لأصدقائه، كانت فاتنة...آه كم كانت رائعة...ايه...ايه...ياحارتي.. إيه يا أم (خضر)...واهٍ "لطيف"...‏

    أمام الحاجز، أوقف الحاج السيارة، كانت البلدة في مرمى النظر، بيوت حجرية تتلملم على بعضها كحفنة فل أو حمامة مجفلة، محاصرة بالصخور النادبة المسودة، آليات معطوبة أو محروقة، حفر خنادق، مساتر ترابية، خوذات بلا رؤوس، بنادق كلعب أطفال مهملة، كل الأشياء تشي بمعركة شرسة دارت هنا...وسندت قلبي.. بكفي سندته..‏

    حديث طويل يدور بين الحاج "محمد" والجندي، أقبل ضابط شاب، أكمل المحادثة، وقف الجندي جانباً يلتهمني بنظراته، عيونه آكلة...مفترسة...أخفضت رأسي، درت بنظري، بعد لأي، استطاع الحاج "محمد" أن يعبر وهو يتعوذ ويحوقل، سارت السيارة ببطء في الطريق الصاعد إلى البلدة، تأخذني المخاوف والأفكار البغيضة.‏

    ماذا حل بالبلدة..؟ من مات..؟ من بقي حياً..؟ أخي أين هو؟! أمي..؟! أخوتي..؟!‏

    حتى وقفت السيارة، التفت الحاج إلي، كانت عيناه دامعتين، مسح الدمع المتجمع فوق شاربيه ولحيته المشذبة بقفا يده، شهق شهقة طويلة ثم انفلت من السيارة، رفع الغطاء الخلفي، أنزل المحفظة، فتح الباب، نزلت إلى الأرض، كانت الهواجس تبعثرني، وتتقاسمني، كنت مسرورة لأني عدت إلى أهلي، لكن هذا المشهد الذي أراه يمزقني..؟‏

    قال الحاج "محمد":‏

    - ستذهبين...وحدك...تشجعي ياابنتي...إنها الحرب...سأنتظرك هنا...ربما احتجت إلي...وابتعد بعينيه..‏

    قلت:‏

    - لكن لماذا ياحاج..؟ ألن تسلم على أبي وأمي..؟! ألن تأكل زبيبنا وزبدتنا..؟ ستقدم لك والدتي بيضاً بلدياً وخبزاً محضراً على الحطب، ألن تشكرهم ياسيدي...؟ ألم أكن مهذبة لديكم..؟‏

    رد الحاج:‏

    - فيك الخير ياابنتي.. سأنتظرك ساعتين...بعدها أكون قد تأكدت بأن الامور على مايرام، وسأعود.. وبالأجمال بيتنا بيتك، أنت لست غريبة، نحن أهلك، عودي متى أردت إلينا، هل فهمت.....سننتظرك، اوعديني... ودس رزمة نقود قائلاً:‏

    - اسرعي ياابنتي... اسرعي...‏

    وبخطى وجلة اقتربت منه، انحنيت على يده، بسرعة سحبها، استغفر الله، حملت حقيبتي وجريت بحيرة إلى.القرية بينما كان يسيل عبر مآقيَّ دمع حنون...، كانت قوة غريبة تجري في عروقي، تدفع خطواتي، تقصر المسافة، ألهث، أتعرق، تلفحني بعض النسائم، أقع، أنهض، أتابع الجري، أدخل البلدة، كانت البيوت كسابق عهدها، عرائش تتسلق واجهات البيوت، ألتقي جارنا أبو عزيز وهو يتمدد في باحة الدار، أصرخ:‏

    - عمي أبو عز...يـ...يـ.... يـ....ز...ز...‏

    كانت الشمس حارة، أدخل البيت، كان أبوعزيز يغط في نوم عميق.. زوجته غفيانة أو غافية على جنبها، بصعوبة وبالكاد أتعرف عليها، السنون...العمر...هو الزمن...إنها تغيرت كثيراً..أصيح:‏

    - عمتي..عمتي..‏

    قلت:‏

    - كوني مهذبة ولا تزعجي الناس..‏

    بينما راحت دواخلي تسترجع ذكراها...‏

    كنت تقعدينني بين رجليك وتمشطين شعري، تجدلينه جدائل، وتزينينه بالزهر والورد، تقبلينني، كنت وتقولين بعذوبة:‏

    - روحي قربان لك يا حلوة...‏

    سأعود لزيارتك أردفت..‏

    أصل بيتنا، أدخله بخطا وئيدة، الباحة ذاتها، شجرة التوت كما كانت، فقط زادت أخاديد جذعها، البئر، دلو الماء، التينة في الزاوية، شجرة المشمش اليانعة... أبي يتمدد فوق أرض الدار وعلى بطنه، أمي مرتمية هناك على بعد خطوات منه، يبدو أنهما شاخا كثيراً أصيح...‏

    - أبي.... أمي...‏

    وألقي بنفسي على أمي أقبلها، أتخيل أنها تمسح بيدها على رأسي، تقبلني بين عيني، هذه هي عادتها، قبلة من بين العينين، تنهض، تحاول أن ترفعني إليها مرهقة هي، مرهقة دائماً، مسكينة، تحتضنني، تشمني، تقبض على يدي وتقول:‏

    - أنت عرقانة.. صبي شيئاً من ماء البئر على جسدك.. لماذا جئت وحدك..؟ الخبز تحت مستر الفراش، هناك في المخمر الخشبي، هنا، أليس عندك حياء قبلي يد والدك.. هاهو..قم... قم... هل تصدق...؟ هذه الشابة ابنتك "باسي" التي خسرتها في القمار.. هاهي... ذهبت طفلة وعادت مكتملة الأنوثة... يللا... قم... انهض... كفاك نوماً، تقترب منه، تحاذيه...تهزه...تحركه...تصرخ فيه، أقول اتركيه ياأمي...هو أبي...لا تزعجيه... صحيح أنه خسرني في القمار، لكنه كان يحبني ويدللني ألا تتذكرين...؟! كان ينصب الفخاخ، يصطاد الزرازير والعصافير، يشويها ويطعمني بيديه، لقمة، لقمة... لا يأت من الدكان إلا ويجلب لي الفستق والسكر دعيه أمي.. دعيه... إنه يستريح...‏

    هذه الدنيا متعبة..‏

    وبين الحلم واليقظة... بينهما بالضبط...‏

     

    بدأت تتسرب إلى أنفي روائح كريهة، أمي مازالت ممددة أمامي، باردة ويابسة، وفي عينيها بقايا استغاثة لم تكتمل، أهزها أمي... أمي.. صفصافة روحي... الرائحة تزداد، أحس بأنها منتفخة... مابك ياأمي...؟ هل هي ميتة...؟ لكن لا نقطة دم... لا جراح... لاكسور، أمي، أبي، هل أنتما ميتان...؟ لماذا لا تردان...؟ أجيباني...؟ أقبل أياديكم... أخرج من البيت.. أدور على بعض البيوت الأخرى.. لا حركة، لانأمة، بل صمت مطبق.. وسكون ثقيل، أزعق، مامن مجيب، كانت البلدة مقبرة كبيرة.. وكان أهلها يغطون في نوم طويل... طويل... مسموم وطويل...‏

     

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()