بتـــــاريخ : 11/17/2008 8:24:44 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1138 0


    يومٌ سعيد

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : نور الدين الهاشمي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    اتخذ أسعد أخيراً قراراً حاسماً لارجعة فيه حيث صمم أن يعيش في حياته -قبل فوات الأوان- يوماً سعيداً بكل دقائقه -مهما حدث- ولن يسمح لأيّ شيء أن يعكر سعادته واختار بذكاء يوم الجمعة فهو عطلة، والعطلة تعني الحريّة والحريّة تعني السعادة، هكذا قرأ مرةً لأحد الحكماء وهو يؤمن تماماً بهذه الحكم، ولديه مفكرة مليئة وقد جمعها من أقوال الناس والصحف والكتب ويرددها دائماً كأنه صاحبها حتى ظنّ نفسه حكيماً بعد أن تناسى مَنْ قالها. أسعد مسترخ الآن تماماً قبيل الفجر تعوم روحه فوق سحابة يطلّ منها على شاطئ رملي تتماهى فيه الزرقة مع اخضرار الغابات. فجأة ارتفع خلفه شخير زوجته.. التفت إليها بعيون راضية رغم أن وزنها قد ازداد ثلاثة أضعاف عن اليوم الذي تورّط فيه وقال لها: (ياغزالتي)‏

    لن يزعجه الشخير أبداً لن يزعجه أيُّ شيء لقد انتهى الأمر واتخذ قراره بالسعادة وسوف يدعم قراره بالابتسام أيضاً طوال الوقت. أرخى حبال روحه فساحتْ فوق بحيرة مسحورة تدغدغها أطياف الفجر.‏

    (الله أكبر.. الله أكبر) دوّت فجأة من مكبرات الصوت ترجّ فضاء المدينة من أقصاها إلى أقصاها، لقد بدأ النهار إذن تعلن عن قدومه أصوات المؤذنين التي تتسابق الآن في حثّ الناس على الصلاة.. تراجعت الأصوات بعد أن ابتلعت الجدران والآذان والفضاءات النداء... خيّم الهدوء ورفّ الفجر يهدهد روحه.. لكن المعركة عادت من جديد وصرخ مؤذن(جامع الفتح) مهدّداً منذراً (الدنيا ساعة فاجعلها طاعة)‏

    سامحك الله يا مؤذن الجامع.. الدنيا ساعة.. ثلاثة وأربعون عاماً رحلت من عمره دون أن يملك منها ساعة واحدة.. الدنيا ساعة.. حين يهوي بجسده المستباح على الفراش تسأله روحه النازفة كلّ ليلة.. أفعلْتَ اليوم ماتتمناه؟ فيرد بخجل وانكسار.. غداً إن شاء الله، وامتدّت هذه الغد ثلاثة وأربعين عاماً تقلّبه فيها على مسامير الجمر أيدٍ جبارة تزدري كلّ رحمة أو رجاء(الدنيا ساعة... فاجعلها طاعة)...‏

    ألا تعلم أيها المؤذن المسكين أنه قد صار أطوع خلق الله؟.. فالبارحة مثلاً جلب لمديره كأس ماء مع أنه موظف وليس مستخدماً وقد انتظر وهو يبتسم حتى شرب المدير نصف الكأس تماماً وقال للمدير:‏

    (هنيئاً ياسيدي) ولكنّ المدير ردّ عليه بجشأتين وانشغل بعدها بتقليم أظافره. انسحب أخيراً صوت المؤذن لابأس لن يزعجه هذا الأمر ولن يجعله يتراجع أبداً عن قراره.. غسل قلبه بنبع الرضا ونام من جديد...‏

    (إحم آخت تفو... إحم آخت تفو) أعوذ بالله ماهذا الصباح أين يبصق هذا المارّ اللعين..؟‏

    (إحم.. آخت تفو) ألا يعجبه البصاق إلا قرب نافذتي؟‍.. هه.. هو ذاهب إلى صلاة الصبح.‏

    النظافة من الإيمان يا أخ.. وأنت ماذا تفعل قرب زوجتك أيها المنافق... يا للوقاحة... تململ أسعد لكزته زوجته ونهرته‏

    - مابك كالبقّة المسعورة؟‏

    - ألا تسمعين موسيقا البصاق؟‏

    -كبّر عقلك ونم‏

    اللعنة على هذه المدينة التي تفتتح يومها بالبصاق. تذكّر قراره بالسعادة فأغمض عينيه وأعاد الابتسامة رغماً عنها إلى فمه المرتعش، تسللّت الشمس من شقوق النافذة فنهض أسعد خفيفاً من السرير يقفز بحركات رياضية واحد.. اثنان.. ثلاثة.. الرياضة صحة للجسد والروح.. قرقعت مئذنة جامع الفتح وارتفع صوت المؤذن ناعياً(يا إخوان..) تجمّد أسعد يرتقب بهلع اسم من استفتح به عزرائيل هذا الصباح (.. أخوكم الحاج زاهد أبو العز توفي إلى رحمة الله.. مع المسامحة.. الفاتحة) لن يقرأ الفاتحة للمرحوم ولن يسامحه.. ليس تكبّراً ولكنه لايعرفه، لقد جاء الناس إلى هذا الحيّ من أماكن شتى ولا يجمعهم سوى الازدحام على الأفران وكوى دفع فواتير الماء والهاتف والكهرباء والمسيرات والمشاجرات.‏

    الناس هنا كالحصى قساة متفرقون والحاج زاهد حصاة من هذه الحصيات التقطها عزرائيل ورماها في بئر بلا قرار. خرج أسعد إلى الشرفة يبتسم بحنان للضياء والشجر والعصافير والهواء.. الحياة تسري وبدأ الناس يدبّون هنا وهناك، جارته الحسناء ذات البنطال الخمري تتجه نحو سيارتها حاملة أكياساً وحقائب، غرّدت ابنتها ذات الأربعة عشر ربيعاً وقد أطلّت من الشرفة‏

    - ماما‍‍! أيّ مايوه آخذ؟‏

    - البرتقالي‏

    إنهم ذاهبون إلى البحر إذن. ارتشف القهوة وهو يرنو إلى مؤخرة الجارة ذات البنطال الخمري واتسعت ابتسامته وهو يلاحق الصبيّة التي تتقافز حول السيارة. بعد ساعات سينتشي موج البحر بمعانقة هذين الجسدين الطافحين بعبير الحياة. رفرفت روحه وحلم أنه بحار يقود سفينة ملأى بالحسان في بحار بنفسجية يرفّ فوقها الضباب الحالم وغناء الحوريات فجأة اصطدمت السفينة بصخرة غادرة حين صاح المؤذن ناعياً من جديد(يا إخوان أخوكم الحاج عبد الغني...) هرب أسعد من الشرفة متخلّياً عن نصف فنجانه وقاذفاً بنفسه داخل البيت. مازال عزرائيل إذن يسرح ويمرح طليقاً في الحي. استلقى على الديوان يلملم عصافير روحه ويردّ الابتسامة إلى وجهه. خرجت الزوجة بطلعتها المتبرّمة وأطلّ الأولاد بوجوههم الممطوطة الناعسة، همهموا بتحية الصباح فردّ عليهم أسعد بابتسامة مشرقة كرغيف ساخن. نظروا إليه بحذر واستغراب، ضحك من سذاجتهم ورثى لحالهم فهم لايعرفون حتماً قراره السريّ بالسعادة هذا اليوم. جرّأتهم ابتسامته فتحلّقوا حوله شاهرين طلباتهم. قال الصبيان:‏

    - نحن ذاهبون إلى الملعب‏

    - وفّق الله فريقكم وشُلت أرجل أعدائكم وأصاب العمى حارس مرماهم!‏

    قالت البنات‏

    - سنزور صديقاتنا‏

    - بل زوروا أصدقاءكم إن شئتم!‏

    ضحكت البنات بخجل وعقد الصبيان حواجبهم غضباً للشرف المهدد، استغلّت الزوجة انبساط الزوج وصاحت بصوتها الشاكي‏

    - سأدعو أهلي بعد غد إلى الغداء‏

    - وما المانع؟ .. أهلاً وسهلاً.. ملأ الله شواياتك بأطيب الكبب واللحوم‏

    - والنقود؟‏

    - خذي من محفظتي ماتشائين‏

    - وهل يوجد فيها نقود؟‏

    - لا أدري‏

    قهقهة الأولاد. غضبت الزوجة ولجأت إلى المطبخ مفرغة غضبها على الصحون والقدور وماء الصنبور.‏

    تمدّد أسعد على الديوان يدعم سعادته بقراءة نوادر جحا وحماره. فتح(قشاش البطون) التلفاز فأسرع أسعد بإغلاقه فهو لا يريد رؤية أو سماع شيء يهدد سعادته. احتجّ الصغير. خبط الأرض برجليه ورأسه بالجدران صرخ وعوى مزق مجلتين وكسر صحناً ولم يرضخ أسعد إلا بعد أن دعمت الأم ابنها فانسحب إلى غرفة النوم مع كتاب النوادر يأتيه متسللاً صوت المطرب المخنّث ودقات طبل تلطم روحه دون هوادة تشاغل أسعد عنها بالقراءة وضحك كثيراً لنكات ونوادر يعرفها منذ صغره، تعالت أصوات المآذن من جديد - إنها تدعو المؤمنين الآن لصلاة الظهر. وبعد نصف ساعة زحف نصف أهل المدينة إلى الملاعب ونصفهم الآخر إلى المساجد يرتدون كأجدادهم العباءات والجلابيب والسراويل الناصعة البياض ويضغطون رؤوسهم بالقبعات كما تسلح القسم الأعظم بالمسابح والمساويك.‏

    اتخذ أسعد مكانه في المسجد بين سمسار ووزير مسرّح واستمع وهو مبتسم طبعاً إلى الخطيب ذي النبرة الشجيّة وهو يطلب الرحمة لهذه الأمة التي عصَت فسلّط الله عليها الفقر واليهود والجراد والزلازل ومن لا يخاف الله أبداً فخرج المصلّون بأرواح كسيرة وقلوب نادمة إخوةً يتأبطون أذرع بعضهم عائدين ببطء إلى بيوتهم حيث استقبلتهم روائح الطعام ودخان الشواء فقد آن موعد إملاء البطون بما لذ وطاب بعد أن أتخمت العقول بالمواعظ وإنذارات السماء. جلس يتناول الطعام بصمت تأتيه موجات الأصوات الهادرة من ساحة الملعب لابد أن أولاده يصرخون الآن ويهتفون ويشتمون شأنهم شأن بقية القطيع وسوف تنشغل أفواه أهل مدينته أسبوعاً كاملاً بالحديث عن الفرص الضائعة والحظ وتحيّز الحكام. وقبيل أن ينهي أسعد طعامه صرخت الزوجة دون إنذار مسبق‏

    - خذني مشواراً إلى العاصي. ثم أردفت بلهجتها الشاكية‏

    - منذ خطبتنا لم تمشورني على ضفاف العاصي‏

    صمت.أسعد فالأمر فيه خطورة حقيقية على قرار السعادة الذي اتخذه‏

    - مابك لا ترد؟‏

    قلّب المسألة على وجوهها.. لن يتسرع في اتخاذ القرار. الابتسامة ما زالت صامدة على فمه‏

    - اترك هذه الابتسامة الحمقاء وأجبني.. هل ستأخذني أم.لا؟.‏

    - سآخذك في سيارة أجرة‏

    - كلا.. بل سيراً على الأقدام‏

    تأبطت ذراعه واخترقا معاً البساتين حيث كان يلهو مع أترابه يخوضون سواقي الماء المتدفقة على جانبي الطريق ويلتقطون التوت البري والضفادع والزيزان والسراطين ولكن لم يبق في السواقي سوى خيط ماء تغزوه أسراب البرغش والحرادين.. وصل النهر كان يتقيأ سائلاً أسود ينزف بصعوبة بين جثث الحيوانات النافقة وأعواد القصب الوحشي والأسل الملوث بالنفط.. وجحافل البرغش والبعوض تجوب متسيدة سطح مياه المجرور. حاصره القصب ولدغت شغاف قلبه أسراب البعوض وبهت لون الابتسامة على فمه‏

    - انظر هناك!‏

    صرخت زوجته كعادتها في الأمور التافهة والخطيرة ولكن يبدو أن الأمر خطير فعلاً فقد تجمع حشد قرب ضفة النهر تنحني رؤوسهم واجمة نحو شيء ما.. حشر رأسه بين الرؤوس فلمح طفلة غريقة ممددة على العشب اليابس ينزّ الماء الآسن من ثوبها وشعرها.‏

    - كيف غرقت؟‏

    - كانت تجري خلف الكرة فاختلط عليها العشب اليابس والماء‏

    شقّت أمّ الطفلة الجمع مولولة نادبةً، نهرها زوجها فسكتت. ألقوا الطفلة الغريقة في صندوق شاحنة صغيرة..‏

    غطوها بسجادة صلاة وانطلق بها أهلها واجمين.. انفرط عقد الحشد وتابع المتنزهون تجوالهم قرب النهر الباكي بدموع سوداء..‏

    غارت ابتسامة أسعد تماماً وأجهش قلبه يبكي مع النهر الحزين.‏

    استلقى تلك الليلة في سريره حزيناً مهزوماً كما يحدث معه كل مساء.. تقلّب يفكر كما كان يفكر كلّ ليلة منذ عشرات السنين ارتفع صوت الناعي يدوّي في فضاء المدينة.. يا إخوان.. أخوكم.. أخوكم.. أخوكم.. ومضى يعدد أسماء الموتى..‏

    أسعد مستلق في فراشه يرهف سمعه وينتظر باستسلام غريب أن يلفظ الصوت الناعي اسمه حتى ينام

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()