بتـــــاريخ : 11/12/2008 5:23:39 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1452 0


    حرق الليل

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : سحر سليمان | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

     

    " والليل إذا عسعس "‏

     

     

    " والصبح إذا تنفس"‏

     

     

    قرآن كريم‏

     

     

    حاجة هي، وسيعة سعة الدنيا .‏

     

     

    حاجتي إليك أو إليهم . ولربما لآدم وذريته أجمعين، قد تفي بطلبي وقد لا تفي، حاجة قد تكون عندك لحظات عابرة مثلما تعبر أشياء كثيرة بهدوء أخرس ودونما صخب، أما عندي فهي قرون من الأزمنة المعتقة كخمرة في دنان ينز من جراحها دم متخثر يتبرعم هذا الدم كأجراس حمراء صغيرة أو وشوم ذات أشكال متحولة، وفي الصباح تظهر على جلدي وجعاء، فأضيق بدمي، أود لو العقه قبل نهايتي.‏

     

     

    لحظة هي أزمنة من عناقيد العذوبة والملح تمر بي، أنا الطفلة دائماً، الشاحبة شحوباً صوفياً ..... فاصرخ بلوعة خائفة ...‏

     

     

    - ما هذا يا أمي؟‏

     

     

    - هذا حرق الليل.‏

     

     

    واتلمس مكان اسوارتي الفيروزية فأجد مكانها خالياً، فيقفز أمامي فنجان القهوة، ووجه أمي المعذب، هذه المرآة المكابره، التي أشم من رائحة يديها الزيت والثوم وصابون الغار، وأرى لون عينيها أمامي يرتسم مساحة من البن الدافئ والضوء الكئيب الذي يظل مشتعلاً كشموع النذور، ترفض أن تفارق نارها قبل أن تذوب حتى النهاية، وهي بالتأكيد محزنة .‏

     

     

    - ماذا بعد يا أمي ؟‏

     

     

    أنادي، وأحس أن صوتي غريب عني ؟ فأذهل وأنا أحس بحاجتي الشديدة إلى يد تقودني، إلى صدر أنهار عليه مثل شجرة هرمة لأذوب فيه، إلى غرفة دافئة في الشتاء لا تنز جدرانها، باردة في الصيف لايشاركني فيها سوى رائحة أمي وقهوة أمي، وضحكة أمي، ودموع أمي، التي تطهرني من كل مخاوفي، واسوارة أمي التي أحسها عتقي، وبوصلتي ودمي الذي يحترق في الليل مثل حرق الخجل في الخد وجمرة وردة اللوتس.‏

     

     

    - أية يد تصافحني؟‏

     

     

    - يد آدم .‏

     

     

    - أية شمس تشرق علي؟‏

     

     

    - شمس إبليس‏

     

     

    وكنت لحظتها، امرأة صغيرة مثل أوراق النعناع لا يكسوها سوى لون جلدها، تتفتح قبل الأوان لتواجه قيظ الظهيرة، وعطش الأرض، وكان صوت غامض مبلل بالماء والملح يناديني من بعيد والعالم يرتحل سرباً من اليمام، في سماء من الفيروز والذهب اسمه (الاسوارة ) التي فارقت معصمي لتنثر فيّ كل هذه العواصف والأنواء.‏

     

     

    - أنت نوّة ؟‏

     

     

    - قالت أمي تسألني، فأجبتها‏

     

     

    نعم .‏

     

     

    وتذكرت مواء القطط الجائعة في بيت جدي الكبير، وصراع الكنات والأبناء، ودليف السماء الذي يخترق جلد الحائط والوسائد التي تفوح منها رائحة الذكريات والمطر وأنا أضع عليها كتبي ودفاتري واتطلع إلى يوم مشمس ودافئ أخرج فيه إلى ساحة البيت التقط منه روحي الضائعة.‏

     

     

    ***‏

     

     

    أغلقت باب الدار بيدي اليسرى .التي غالبية حركتي بها، وكأنني اتجه إلى غرفة الإعدام مع قوة غامضة وأنا مغمضة العينين، ثم نزلت درج البيت وأنا لا أرى أي من الكائنات الجوالة في الشارع، كانت الدموع غبشاً يحجب كل شيء، وصوت زوجة أبي يطاردني كطلقات المسدس فيفقدني صوابي وإحساسي بالتوازن :‏

     

     

    - أنت أيتها المهملة العنيدة .‏

     

     

    ووجدت نفسي أدق باب منزل صديقتي وأنا أبحث عن أحد أقول له شيئاً، ابثه مصابي، وفاجأتني والدتها تقول إنها في المدرسة فاليوم بداية العام الجديد، فلملمت دموعي، وتابعت طريقي، ومثل صخرة تركت نفسي تسقط ودون صوت في بئر عميقة.‏

     

     

    - ادرسي يا ابنتي، كوني قلعة مسوّرة بحصن متين، فالدراسة حصنك الحامي.‏

     

     

    جاءني كلام أبي الذي أصرّ على متابعة دراستي إلى انتهاء الجامعة، تعويضاً له وهو الذي انقطع عن الدراسة باكراً، بينما كانت أمي تريدني أن أكون موظفة . أية موظفة تقف أول كل شهر أمام محاسبها لتقبض أجراً يقيها شر العوز والحاجة في هذا الزمان الخائن على حد زعمها .‏

     

     

    أما أنا فكنت أحلم أن أكون معلمة تعود لمنزلها وأثر الحوار لازال عالقاً في بصمات أصابعها وحقيبتها مليئة بأوراق تلاميذها كأنها حرز وطلاسم، كمعلمتي أم عبودة التي كانت تأخذني إلى حضنها حين تدخلني أمي غرفة الصف متأخرة كالعادة بعد معركة ضارية مع أبي الذي يأتي باكراً لايصالي إلى المدرسة، ودائماً تخرج منتصرة في حربها الصغيرة، ثم تأخذ معلمتي في ترتيب ثيابي وشعري وتمسح دموعي وتقودني إلى المقعد بلطف وتقول:‏

     

     

    - اجلسي يا شاطرة وانتبهي.‏

     

     

    كانت حرب أبي وأمي حرباً قديمة، بدأت بمنازعات عادية ثم تطورت بعد ميلادي فكونها ولدت أنثى زاد الأمر سوءً ليتوج في النهاية بالطلاق، هذا الوحش الخرافي الذي يمد أذرعه الطويلة ليهدم بيوتاً سعيدة دون رحمة أو شفقة. واليوم حين أسأل نفسي:‏

     

     

    - لماذا حدث كل ما حدث؟‏

     

     

    لا أجد جواباً شافياً ،فأسكت على مضض.‏

     

     

    ***‏

     

     

    تعبت أمي كثيراً كي تعيلني.‏

     

     

    وكانت ترفض الخطاب الذين يتقدمون بطلب يدها في البداية بإصرار عنيد وكانت تردد:‏

     

     

    - حظي وقد جربته والحظ إذا مال لا يتعدل وقتها لا يعاتب الرب.‏

     

     

    وتمضي في عملها، وكانت تستغرق فيه، كأنها تراه الطريق الوحيد للهرب من واقعها المؤلم، ومن عذابات روحها الحساسة التي كتب القدر عليها أن تعاني وتحترق قبل أوانها .‏

     

     

    - يالله وأنت العارف موحدا غيرك يعرف.‏

     

     

    هكذا كانت تنادي الله وكأنها ندلله، تحتمي به في لياليها السود وأيامها العاصفة كما يحتمي الصديق بالصديق، وتشدني إلى صدرها، فأسمع نبض قلبها الموجوع، يدق في أذني الصغيرة كطائر جريح، وبين لحظة ولحظة تساقط دمعها المالحة على خدي، فاتظاهر بالنوم حتى لا أفسد عليها طقسها الليلي فتسأل:‏

     

     

    - هل نمت؟‏

     

     

    وتتابع صمتها، وينتشر دفء غامر حولي، يغرقني في نشوة الخدر ويتصاعد صوتها بأغنية حزينة، تصور عذاباتها وخوفها ولوعتها بينما تتراقص أضواء القنديل وتفوح منه رائحة الكاز الخانق في المكان الموحش.‏

     

     

    - هل نمت ... ها ؟‏

     

     

    وتنحني عليّ لتطبع قبلة حارة على خدي الشاحب فيتورد بدفء الحب والحنان وارحل في غيبوبة طويلة .‏

     

     

    ***‏

     

     

    ومع الأيام ضعفت أمي فرضيت بالزواج . هرباً من جحيم البيت الكبير، بيت جدي، هذا البيت الوسيع العتيق، فزوجات أخوالي ما عدن يحتملن الوضع، فأنا وأمي نسكن اكبر غرفة فيه، بينما يتوزع الغرف الأخرى، أخوالي الثلاثة مع أبنائهم وقد بات البيت أشبه بثكنة عسكرية صغيرة، يعمره الصخب والصراعات والأطفال والنساء وليلة جاء أبي لاستلامي منها، بكت، كثيراً ولأول مرة أراها منكسرة وحزينة، وكنت اقبلها، وهي ترتب ثيابي، وفي كل مرة كنت اقبلها كان لخدودها طعم التفاح الناضج وأما اليوم فلقد خالطت الملوحة هذا الطعم، فأين ذهب التفاح ؟‏

     

     

    وتضمني أمي إلى صدرها وتجهش باكية، وهي تتلمس ضفيرتي ووجهي وأنا أبكي لملوحة خديها وكأنني سأهاجر إلى وطن بعيد.‏

     

     

    - البنت جاهزة ؟‏

     

     

    سأل بصوت خفيض، حاول أن تكون نبرته عادية، ولأول مرة أراه رقيقاً يبتسم بتهذيب وود وكانت ابتسامته تخيفني لما تحمله من معان غامضة وباردة .‏

     

     

    - البنت جاهزة .‏

     

     

    قالت أمي بصوت مخنوق وهي تخرج اسوارة الذهب المطعمة بالخرز الفيروزي من صندوق زفافها الموضوع في زاوية الغرفة تخمد فيه كجثة جانب أحلامها وخيباتها التي باتت خردة الزمان. وضعت الاسوارة في يدي وأوصتني بالحفاظ عليها فهي ذكرى من أمها فقد ألبستها أياها ليلة زفافها وها انذا أزف اليوم بعيداً عنها وتريد أن تكون لها ذكرى عندي تحميني من عيون الحاسدين. وحين خرجت إلى الشارع كان المطر يتساقط، فتدخل حباته جلدي، فأحس بالبرودة تنغرس في عظامي، كل عظامي، وبالضياع يحاصرني فأنا أمضي إلى مكان مجهول قد يكون بيت أبي، لكنني لا أشعر بالإلفة أو الحماية فيه.‏

     

     

    كان المطر يتساقط وكم اكره المطر، اكرهه أكثر مما كرهت زوجة أبي فيما بعد، فلقد كان هذا المطر سبباً لعذاباتنا أنا وأمي، فهو يبلل عشائي حين تحضره أمي من المطبخ البعيد عن غرفتنا ،وكانت قطراته تحرمني من النوم حين يتسلل إلى فراشي وهي تدلف من السقف الخشبي الهرم، فتنهض أمي لتضع تحت كل نقطة تسقط صحناً أو ماعوناً كبيراً وكانت غرفتنا مفروشة بحصير مجدول من أوراق الزل وببساط من الصوف المشغول يدوياً يزهو بألوانه الجميلة، وفي وسط الغرفة ليلاً يمد فراشي الذي تحيط به الوسائد الكبيرة، التي تضعها أمي على مدار جدران الغرفة المبنية من حجارة الفخار التي تمتص مياه الأمطار لتوزعها على شكل بقع من الرطوبة ذات ألوان كامدة ومخيفة على الجدران الجصية البيضاء.‏

     

     

    وهذه الوسائد كنت أضع عليها كتبي ودفاتري بعد أن تراجع معي أمي دروسي، كما كانت تضع عليها أمي قطرتي الاذنية ومرهم التحسس الجلدي الذي تدهن به وجهي وجسدي الذي أدمنه حرق الليل.‏

     

     

    وكنت أسأل :‏

     

     

    - لماذا لا يأتي حرق الليل هذا إلا في الليل يا أمي؟‏

     

     

    - لأنه كاللص، يأتي ليلاً ولانراه إلا في النهار، والجسد يحتاج إلى مثل هذه الحروق، فهو كالمدفأة فهل تعمل دون منافذ تخرج منها دخانها ؟ وحرق الليل هو دخان هذا الجسد.‏

     

     

    وهكذا كلما نمت جاءني الخوف والحزن والأشباح لتقبلني قبلات حارة، وفي الصباح أجد مكان هذه القبلات بقعاً حمراء كبيرة، ويتعاظم حزني على حال أمي حين أراها أمام " وابور الكاز" وهو يمد السنة النار الوحشية، فأرتد مذعورة، بينما لا تتحرك أمي هذه المرأة التي لا تخاف النار، ولا أحس بالراحة إلا حين تتضاءل ناره وتتحول إلى جرس دائري أزرق كالقندريس البري.‏

     

     

    وبعد أن يسخن الماء، تغسل جسدي بالماء والصابون في عتبة الغرفة ثم تلبسني ثيابي وتدثرني في فراشي وتنهمك في تنظيف الغرفة التي ننام فيها، ثم تنظف الحوش الكبير بالماء والصابون تحت المطر أحياناً وأنا أسمع صوت حركتها أراقبها من النافذة التي كنت استعملها أرجوحة يحسدني عليها الجميع، وقع كل ذلك حتى لا تسمع كلمة من إحدى نسوة أخوالي .‏

     

     

    ***‏

     

     

    نمت ليلتها في بيت أبي.‏

     

     

    ونمت وحيدة، وكان أبي قد اشترى لي ثوباً، وخاتماً ذهبياً ولعباً طالما حلمت بها، وكان عزائي في اسوارتي، فلم تعد هناك أصابع أمي لتمسد ضفيرتي وتسرح شعري قبل النوم.‏

     

     

    وفي الصباح حين استيقظت كانت .. خصلة كبيرة من شعري سقطت على الوسادة، لما أوصلني أبي إلى باب المدرسة تلفت وأنا أبحث عن أمي فلم أجدها، فدخلت وشعرت أني أضيع وسط الزحام ولم أفق إلا على صوت معلمتي أم عبودة في الصف.‏

     

     

    ***‏

     

     

    أخرجني من بئر أحزاني صوت جارة صديقتي تقول:‏

     

     

    - تفضلي، انتظريها عندي.‏

     

     

    - لا . شكراً‏

     

     

    وكانت ذاكرتي جاهزة لتمرر آلاف الصور والكلمات والمواقف العابرة والراسخة هكذا دون صوت، ملامح ذاكرة لها أرشيف زئبقي ترفض أن أمسك بها . وأنا ضائعة واسوارتي ضاعت هي الأخرى، وصوت زوجة أبي يتردد:‏

     

     

    - لن تدخلي هذا البيت إلا والاسوارة معك .‏

     

     

    - الاسوارة اسوارتي وقد ضاعت .‏

     

     

    أيتها المهملة العنيدة، لن تدخلي هذا البيت بدونها .‏

     

     

    وكنت أعرف أن ضياع الاسوارة يسرها أكثر مما يزعجها، لكنها وجدتها فرصة لطردي من البيت، لإذلالي وإهانتي، أنا التي طالما كنت صامتة خرساء لا أرد على استفزازاتها بغير نظرة احتقار.‏

     

     

    ولأول مرة منذ دخلت البيت أجد الدمع ينفجر من عينيّ أنا التي كانت متحجرة العيون، وآنست نفسي بالدمع، وعاودني طبعي القديم، عاودتني روح أمي المتمردة وهي تردد أغانيها الكردية التي تقول بأنها امرأة حزينة مكسورة تندب حظها وبختها ووحدتها، وتنادي الّلهو برقة وألم. ومثل زوبعة صغيرة دخلت غرفتي، أغلقت بابها، هلّ المساء، زارني حزني القديم وصديقي الدائم، وفي الصباح حين أفقت كان جلدي موشوماً مرّة أخرى بحرق الليل.‏

    ألم أقل لك إنها حاجة ..... إليك أو إليهم ولربما لذرية آدم، إنها حاجة لإنسان أثرثر معه، ونحن نشرب القهوة فتطفر الدموع من عينيَّ الحجرتين مرّة ثانية ويرحل عن جسدي حرق الليل إلى الأبد .

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()