بتـــــاريخ : 11/17/2008 8:16:23 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1383 0


    تقرير إلى الخال عمّا جرى معي في القصر من أحوال

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : نور الدين الهاشمي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    هل تسمعني يا خالي؟!.. أقسم إنني قد عملت بنصائحك تماماً ولكن لا أدري لماذا جرى ماقد جرى.. أوقفت الدراجة -أقصد دراجتك- على مسافة خمسين متراًكما نصحت) نزلت بهدوءكما نصحت) رسمت على وجهي ابتسامة أبرأ من ابتسامة الرضيع اليتيمكما نصحت) دفعت الدراجة نحو الفيلا المحروسة دون أن أتلكأ أو أتلفتكما نصحت) لكنّ الحراس ارتابوا بأمري وأطلقوا صرخة جعلتني أتجمّد مصعوقاً بأنياب الخوف.. علكوني بنظراتهم المشمئزة المرتابة.. تذكرت نصيحتكبادرهم بالسلام) بادرتهم.. السلام عليكم.. لم يردّوا... صباح الخير.. لم يردّوا.. مساء الخير.. الله يعطيكم العافية، قلّبوني بقرف.. صرخ أخيراً أضخمهم جثة وهو يمضغ بولَه شاربه الأيسر‏

    - من أنت؟‏

    لملمت فئران قلبي وأجبت بسرعة البرق‏

    - أنا الأستاذ الجديد مروان‏

    - وأين الأستاذ العجوز؟‏

    - خالي... لقد أصيب بجلطة وأرسلني..‏

    - اخرس‏

    خرست... آه... كيف نسيت نصيحتك ياخالي...أجب على قدر السؤال فقط) ولكن هل أنا ثرثار إذا حدثتهم عن جلطتك التي هي سبب مقنع في غيابك.. حقاً ما الذي يهمهم من هذه الجلطة السخيفة... صرخ أقصرهم قامة وأطولهم بندقية‏

    - لمن ستعطي الدرس؟‏

    طار اسم التلميذ من ذهني كعصفور مشاغب وقلت بغباء‏

    - لا أدري‏

    كانوا إنساً صاروا جنّاً إذ انتفضت القامات وأُشرعت البنادق وانهالت الشتائم... واخترقت أذني آخر شتيمة...‏

    - لمن الدرس يامسطول... تذكّر‏

    كدت انسحب من المعركة بسرعة لكني صمدت حين تذكرت قولك ياخاليإذا رضي عنك أهل هذا القصر فأنت من السعداء في الدنيا والآخرة).. أنقذني من ارتباكي حارس ملتح وله سبحة لا بأس بطولها...‏

    - تذكّر... هل الدرس لقحطان أم لكفاح أم لشادي أم لفادي أم لشيرين أم لسوسو؟‏

    - أعتقد أنّ تلميذي -حماه الله- قد نجح إلى الصف...‏

    قاطعوني صارخين بحزم‏

    - الجميع قد نجحوا‏

    - أقصد إلى الصف الثامن‏

    - هه... إنه فادي بيك.. سلّمه الله..‏

    - نعم.. نعم فادي...‏

    اتصل ذو الجثة الضخمة والشارب الممضوغ بمنْ في الأعلى... فسمح من في الأعلى بالدخول إلى ملكوتهم فطقطقت الأقفال وانفتحت البوابات، تحامقت وأخطأت للمرة الثانية حين أردت الدخول مع الدراجة إذ انتزعوها مني رغم مقاومتي الضعيفة ثم دفعوني إلى الداخل... لماذا لم تقل لي يا خالي ماذا أفعل بالدراجة؟‏

    أأبقيها معي أم أدخلها..؟! قلت لي كن حريصاً عليها حرصك على روحك، وذكرت لي أن الدراجة قد ساهمتْ معكَ ثلاثين عاماً في تعليم أبناء هذه المدينة الجاحدة، ورويت لي باعتزاز للمرة الألف كيف أضعتها واسترددتها أكثر من مرة، فقد ضاعت ستة أشهر ثم عثرت عليها مع شرطي متقاعد، كما ضاعت ثانية فنشرت قصائد هجاء في مسؤولي المدينة فردّوها إليك جديدة سالمة، وطال غيابها للمرة الثالثة كثيراً فرفعت العرائض وأرسلت البرقيات فأدخلوك مستودع المسروقات وقمت بتجميعها من جديد وخرجت من هناك بهذه الدراجة العجيبة... أحلامك بسيطة يا خالي حققت القليل وأضعت الكثير، البيت الصغير قد امتلكته بعد أن انحدر بك العمر نحو الهاوية والزوجة التي كنت تحلم بدفئها وحنانها آثرت ألا تجوعَ معك -كما تقول- فصارت من أحلام الماضي... وأنا أردتَ أن تنزل حملي عن ظهرك بعد أن مات أبي فجعلتني معلماً... وها أنا عالق في شباك الجمر..‏

    صعدت الدرج الرخامي.... كان حليبي اللون ناعماً تفوح منه رائحةٌ عطره. لم أزعج بحذائي المرقّع درجة واحدة.. قابلني باب من خشب أسود لم أدهش قلت ليسترى يا خالي في هذا القصر عجائب الدنيا السبع) استقبلتني بفتور خادمة ضئيلة يكّفن وجهها الشاحب غطاء أصفر... قادتني إلى صالة واسعة تفقأ العين وتكسر الروح، كلّ شيء هنا يستفزّ الحزن... الأرائك.. الستائر... الثريات المتدلية... اللوحات... المحنّطات... طيور... ثعالب... ذئاب... نسور... أنا وحيد غريب يا خالي... أريد الهرب ولكن...‏

    وأرقطُ زُهولٌ وعرفاءُ جيألُ(1)

    ولي دونكم أهلون سيدٌ عملّسٌ‏

    ولكنهم يا خالي قد أحضروا العملّس والأرقط والزُّهول وهاهي محنّطة جامدة تثير الشفقة والرثاء... عادت الخادمة النحيلة ودعتني للذهاب إلى غرفة فادي، كان كل شيء فيها موجوداً ماعدا فادي. قالت الخادمة ذات الوجه المكفن.‏

    - انتظر هنا‏

    - انتظرت ساعة.. ساعتين... ثلاث... لم يحضر فادي... بل حضرت الخادمة وفنجان القهوة وقالت معتذرة‏

    - سيحضر فادي... لاتقلق... اتصلوا به... مشغول قليلاً... عيد ميلاد صديقه...‏

    حين حضر فادي.... بادرته بالسلام... لم يردّ... بل رمقني بنظرة عدائية وصرخ في وجهي بوقاحة وقرف.‏

    - أفسدت عليّ الحفلة يا... أستاذ!‏

    - أنا آسف!!‏

    جلس أمامي أخيراً... دلقت بسرعة مافي حقيبتي من كتب ودفاتر وأقلام على الطاولة.‏

    - سنبدأ الدرس... مارأيك يا فادي؟‏

    - ابدأ أنت‏

    - أين كتبك؟‏

    - لا أعرف‏

    - بسيطة.. سأعيرك كتابي‏

    - أين قلمك؟‏

    - لا أعرف‏

    - بسيطة... سأعيرك قلمي‏

    - هيا... اقرأ هذه القصيدة‏

    - اقرأها أنت‏

    - بسيطة... سأقرؤها... انتبه يا فادي جيداً..‏

    لم ينتبه فادي بل التفت إلى المرآة يستعرض وجهه الجميل... ويمدّ لسانه.. نقرت على الطاولة منبّهاً.. نظر إليّ متحدياً... تحديته وقرأت.... قال الشاعر يتطّلع إلى الوحدة العربية بشوق وشغف:‏

    شقّي حجابك قل شقّ الرمس لي‏

    شمسَ العروبةِ عيل صبر المجتلي‏

    بيب.. بيب.. بيب.. بيب.. ركض فادي مسرعاً ولوّح بيده من النافذة‏

    - ماذا جرى؟‏

    - أخي كفاح قادم من أمريكا...‏

    - حمداً لله على سلامته... اقرأ..‏

    - اقرأ أنت‏

    - حسن.... سأقرأ...‏

    قال الشاعر القروي يتطلع إلى الوحدة العربية....‏

    شمس العروبة..‏

    بيب.. بيب.. بيب.. قفز فادي إلى النافذة ثانية ولوّح بيده صارخاًباي.. باي.. باي)...‏

    - ماذا حدث يا فادي...‏

    - أختي مسافرة إلى فرنسا‏

    - رافقتها السلامة إن شاء الله.. اقرأ‏

    - اقرأ أنت‏

    - حسن.. سأقرأ.. انتبه‏

    شمسَ العروبة عيل صبر المجتلي....‏

    وضع فادي أصابعه في أذنيه... رفعت عقيرتي منشداً فهرعت الخادمة ذات الوجه الشاحب المكفّن فزعة‏

    - اخفض صوتك يا أستاذ‏

    - لماذا؟‏

    - سيدتي تتكلّم مع أخيها في لندن‏

    ابتسم فادي شامتاً.. رددت عليه متحدياً ولكن بقراءة هامسة‏

    حبّ الأخ العربي بالمتحوّل‏

    مَنْ هام في حبّ الغريبِ فلست عن‏

    ثم تابعت قراءة القصيدة القومية حتى آخر بيت وصرخت في وجه فادي‏

    - أعد قراءة القصيدة حالاً‏

    - لا أستطيع‏

    - لماذا؟‏

    - هكذا ..‏

    - أنت تتحداني إذن) آه.. لم أقل طبعاً هذه الجملة بل حجزتها في جوزة حلقي فكاد ينفجرإذا رضي عنك أهل هذا القصر فأنت من السعداء في الدنيا والآخرة) آه يا خالي كيف استطعت أن تحتمل هذا الشقاء عشرات السنين. نصف نهارك أمام السبورة تفيض على الطلاب كلمات باهتة حسيرة وتسفّ رئتاك غبار الطبشور والهواء الفاسد ونصفه الآخر تمضيه على دراجتك تدقّ الأبواب لائباً عما يغنيك عن السؤال.. حملتَ مئات الطلاب على جناحيك الكليلين فطاروا وهويت الآن وحدك تسدّ الهواء عن قلبك خثرة لئيمة...‏

    فجأة ضجّ القصر بخطب تبيّن لي فيما بعد أنه جلل فغادرني فادي طبعاً دون أن يستأذن وسمعتُ أصوات أقدام تركض وصرخات وأوامر ثم عاد فادي لاهثاً‏

    - ارحل بسرعة.. حدث أمر خطير.‏

    - حرب... زلزال.. ثورة!!‏

    - كلا.. كلا.. كلا.. لقد خُطف كلبنا وولف‏

    - وولف؟!!‏

    - ألا تعرفه؟! إنه أشهر كلب في المدينة‏

    وانطلق فادي يبحث مع الباحثين دون أن يسمع مني للأسف دعاء العودة لوولف بالسلامة.. وهدرت السيارات والدراجات النارية والأحذية السميكة تبحث عن وولف.. وحين أطبق الصمت على القصر لملمت روحي وغادرت متسلّلاً ثم توقفت أمام البوابة أبحث عن الدراجة هنا وهناك.. لم أجدها سألت الحارس فلم يردّ كعادته بل رمقني باستخفاف وأشار ببندقيته كي أغادر تجرأتُ ولم أتزحزح قيد شعره فأنا صاحب حق وصاحب الحق يجب أن يكون شجاعاً... وحين أشار إليّ مرة ثانية كي أغادر... التفتّ حولي وتشجعت حين رأيته يحرس وحيداً صرخت بعناد‏

    لن أغادر هذا المكان دون دراجة خالي‏

    ولا أدري يا خالي كيف انشقت الأرض والسماء والجدران عن عشرة رجال توهمت أنهم قد غادروا في الحملة الكلبية، دغدغوا جسدي بلا رحمة ثم قذفوني بعيداً. فجرجرت جسدي وعدت إليك يا خالي كما ترى دون دراجة.. أتسمعني يا خالي؟.. أتسمعني..؟‏

    هززت خالي كان ميتاً... ولكني واثق أنه قد خرج يبحث عن دراجته.‏

    (1) البيت للشاعر الجاهلي الشنفرى وهو من الشعراء الصعاليك وفيه يفضّل وحوش الصحراء على قومه.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()