بتـــــاريخ : 11/17/2008 7:49:02 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1234 0


    قصة انتحار معلن

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : نور الدين الهاشمي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    فجأة قرر شاكر أن يعتكف في غرفته ويحتمي بالصمت كمتهم عنيد، دخلت عليه زوجته.. أولاده.. جيرانه.. أصدقاؤه.. نصحوه بالخروج.. صرخوا في وجهه.. شدّوه من ثيابه.. لكنْ دون جدوى. كان يحدق فيهم دون أن يراهم يصغي إليهم دون أن يسمع شيئاً. سحابةٌ غبراء بلون الصدأ القديم تغشى روحه وتحيل ما في رأسه إلى شظايا. إنه يذكر فقط الأيام السبعة الأخيرة التي أمضاها قبل الاعتكاف. في صباح اليوم الأول منها جلس كأيِّ إنسان جائع إلى مائدة الإفطار، لكنه ما كاد يمدّ يده إلى الرغيف حتى ارتفعت أصوات زوجته وأولاده تطالبه بلا هوادة أن يفي بواجباته كأب مسؤول عن رعيته، لا يدري إن كان قد تابع طعامه أم لا، يذكر أنه حمل جسده إلى الدائرة كما حمله منذ ربع قرن. استقبله آذن المدير كعادته بارتياب ونظر إلى ساعته ثم تابع حمل فنجان القهوة برشاقة إلى المدير ليعدل به مزاجه الصباحيَّ أولاً وليهمس بإذنه التقريرَ الأول عن الدوام وسير العمل، تحصّن شاكر بالصمت ثم دخل غرفته وعلَّق جاكيته فارتفعت تعليقات أحد الزملاء يؤرّخ بسخرية للجاكيت المعلق فانفجر الضحك وتبعه السعال.. مسح زميل دمعت عيناه نظارته السميكة التي تشبه قعر الكأس الرخيص وهو يردد:(الله يعطينا خير ها الضحك). تدافع المراجعون أمام طاولة شاكر حدّق فيهم لاذوا بالصمت.. طال شروده.. توسّلوا إليه نهروه.. تحصّن بالصمت. في الواحدة تماماً دخل آذن المدير عابساً(كعادته) وأمر شاكراً أن يقابل المدير على الفور وحين استفهم شاكر عن السبب أجاب الآذن وابتسامة ظفر على محياه:‏

    - وقعت أخيراً هذه المرّة....‏

    قرع شاكر باب المدير بلطف لا يوصف مع أنّ قلبه كان يرفس صدره بعنف ولم يدخل الغرفةَ إلا بعد أن سمع الصوت الآمر(ادخل) فانساب كخيال هزيل على جدار مليء بالبول والشتائم ووقف بخشوع مسمّراً عينيه بالأرض. صفع المدير الغاضبُ حتى النخاع الطاولة وزأر:‏

    - أنت خطير يا شاكر‏

    - أنا!‏

    - اخرس.. مؤامرتك على مديرك مكشوفةْ‏

    - ماذا فعلت؟‏

    - ألا تعلم؟‏

    - أبداً.. أقسم لك‏

    - جميعُ المجرمينَ يقولون هذا.. انظر يا متآمر!‏

    هنا رفع شاكر رأسه قليلاً وقال:‏

    - ما هذا؟‏

    - الكتاب الذي أرسلناه إلى الوزارة‏

    - مابه؟!‏

    - لقد نسيت عن قصد عبارات التعظيم والتفخيم الواجبة‏

    - لكنه مرّ على سيادتكم‏

    - هنا جوهر المؤامرة.. لقد دسسته لي بين الأوراق حتماً.. قل لي مَنْ هم رفاقك في المؤامرة...؟!!‏

    - رفاقي..!‏

    في الواحدة والربع تماماً حضر إلى الدائرة اثنان يكرهان الخلق جميعاً. أرغماه (وهو غير راغب طبعاً) على الركوب في سيارة ونقلاه بحبّ مبالغ فيه إلى قبو إسمنتي عار. القبو فيه رجال يتمنّون(دون سبب مقنع) هلاك الناس جميعاً(ماعدا سيدهم) ضربوه ضرباً مرحباً، شتموه دون أن يردّ شتائم يحمرّ لها وجه الطفل المؤدب. فاجؤوه باتهامات كثيرة صدّقها كلّها في النهاية. وبعد ستة أيام حملوه في السيارة مغمضَ العينين ثم قذفوا به في الشارع وغادروا وحينَ فتح عينيه صفعهما ضوء النهار ولوحةٌ معلقةٌ على أحد الجدران تخبره ساخرةً أنه في شارع الحرية.‏

    ولما انقضى الأجل المحتوم خرج شاكر من غرفته تقوده فكرةٌ ماكرة، ألقى السلام بودّ على أفراد أسرته، نظروا إليه بارتياب، حلق ذقنه، جلس إلى مائدة الطعام، أكل وهو يبتسم للجميع، ارتدى ثياب العيد الذي مضى منذ عشرة أعوام، اتجه نحو باب المنزل. فجأة دار على عقبيه وقال بحنان أب مثالي:‏

    - أنا خارج. هل تريدون شيئاً؟‏

    تردّدوا قليلاً شجّعهم بابتسامته فانهالت طلباتهم المؤجلة والطارئة، أكد لهم أنه قد حفظها جميعاً. خطا نحو الباب.. لكنه استدرك ثانية وخاطبهم معتذراً‏

    - أنا آسف لن أستطيع تلبية طلباتكم‏

    صرخوا جميعاً‏

    - لماذا ياشاكر؟‏

    - لأنني سألقي اليوم بنفسي من الطابق السابع من المبنى رقم 10 في شارع الحرية‏

    ثم اندفع نحو الباب كالبرق المرعوب وهبط الدرج منزلقاً على سوره الخشبي كما اشتهى ذلك مئات المرات.‏

    قالت الزوجة باكيةً وهي تعيد أدوات الفطور إلى المطبخ:‏

    - أبوكم يحتاج إلى طبيب نفسي‏

    قال الأكبر:‏

    - الأفضل أن تخبروا الشرطة‏

    قالت الكبرى:‏

    - إذا علم أهل خطيبي بحالِ أبي فسوف يفسخون الخطبة‏

    قال الأوسط:‏

    - أنا مشغول عندي امتحان سياقة هذا اليوم‏

    قال الأصغر(قشاش البطون):‏

    - كان عليه أن يشتري لي حذاء رياضة قبل أن يجنَّ‏

    صاحب(بقالية الأمانة) كان أول شخص قصده شاكر بعد خروجه من البيت. وقف أمامه باعتزاز موظف قبض راتبه كاملاً دون حسم قرش واحد ثم تذوق كرزةً ناضجةً شهيةً فامتعض البائع ولكن حين طلب شاكرٌ بأدب حسابه غرّد البائع وهلل وأخذ يقلب صفحات دفتر الدين وهو يردد بوله شاكر.. شاكر.. شاكر.. حتى وصل أخيراً إلى ضالّته فجمع وجمع.. ثم قذف في وجه شاكر رقماً يلقي الرعب في قلب أشجع الموظفين. لم يأبه شاكرٌ بل طلب بلطف رؤية الدفتر فأعطاه البقال إيّاه متردداً. تمعّن شاكر في صفحته المتخمة بالأرقام ثم سلخ بحركة غادرةٍ ورقة الدين ومزقها بسرعة ونثرها في الفضاء وهو يقهقه.! انتزع البقال الدفتر بشراسة وصرخ:‏

    - ماذا فعلت؟‏

    - الحساب خالص‏

    - وحقي؟!‏

    - ستأخذه يوم الحساب‏

    - لن أسامحك به أبداً‏

    - الأفضل أن تسامحني لأني سألقي اليوم بنفسي من الطابق السابع المبنى رقم 10 في شارع الحرية.‏

    ثم خطف شاكر علبة حلوى وانطلق في الشارع يمضغها كحسناوات التلفاز غير آبه بصرخات البائع وشتائمه.‏

    كان المحامي(سيف الحق) هو الشخص الثاني الذي قرر شاكر مقابلته قبل الانتحار. اقتحم مكتبه بثقة لص محترف مدعوم بالمال والجاه والنساء. توقف ينصت باستمتاع إلى المحامي(سيف الحق) وهو يملي بلغة عربية فخمة على السكرتيرة المتصابية مرافعة يشرح فيها بموضوعية الظروف القاهرة التي دفعت موكله دونَ وعي لارتكاب خطأ السرقة والقتل والاغتصاب.‏

    توقف(سيف الحق) عابساً حين لمح شاكر ولم يردّ أيضاً على تحيته المشبوهة بالتوسل والاستعطاف. بل توجّه إلى خزانته الحديدية وأخرج منها سندات الإيجار المستحقة على شاكر والتي نفذ صبرها تماماً. أمسكها(سيف الحق) بيده اليسرى ومدّ اليمنى إلى شاكر طالباً بوضوح المال المستحق فالعقد شريعة المتعاقدين. أصرّ شاكر على رؤية السندات أولاً وأصر(سيف الحق) على تسلّم المال أولاً وبعد مفاوضات مضنية فُقدت فيها الثقة واحترقت الأعصاب مدَّ(سيف الحق) يده ذات السندات بضعة سنتمترات كانت كافية تماماً كي يختطف شاكرٌ الإيصالات ببراعة قط منبوذ ناكر للجميل ثم مزقها ورمى نثارها على الأرض(الموكيتية). فانبطح سيف الحق على الأرض يلملم مزق السندات ويجأر كتيس ذبيح:‏

    - سأرفع عليك دعوى عاجلة‏

    - طز!!‏

    - سأرميك في السجن حتى تهترئ عظامكَ‏

    - لن تستطيع.‏

    - هه.. أنا لم أخسر في حياتي قضيةً واحدة‏

    - لكنك ستخسر هذه القضية...‏

    - مستحيل.. أنا سيف الحق‏

    - وأنا شاكرٌ سألقي بنفسي اليومَ من الطابق السابع من المبنى رقم 10 في شارع الحريّة واستغل شاكر ذهول المحامي فضرب على الآلة الكاتبة فوق مرافعة المجرم البريء شتيمةً بذيئةً احمرّ لها وجه السكرتيرة المتصابية انتشاءً.‏

    كانت الساعة تشير إلى الواحدة حين دفع شاكر بوقاحة غرفة مديره فشاهده يقهقه من أعماقه لأحد الضيوف ثم يشعل له بامتنانٍ سيجاراً فاخراً(دون أن يقول له صاحب السيجار شكراً). لمح المدير شاكراً فزوى مابين عينيه وأشار بقرف إلى شاكر كي يغادر بسرعة.‏

    لم ينزعج شاكر لقلّة أدب المدير بل اتجه بهدوء نحو الضيف وانتزع منه السيجار وعبَّ منه مرتين ثم نفث الدخان في وجه الضيف المصعوق. نعر المدير وصرخ مهدداً بكل الولايات لكنّ صوته تلاشى حين شدّه شاكر من ربطة عنقه الملساء حتى جحظت عيناه ثم دفعه فوق الضيف ذي السيجار فسقطا على الأرض متعانقين بوضع مشبوه..‏

    - سيكلفك هذا غالياً‏

    - طز.. طز.. طز..!!‏

    - أقسم بأني سأذكر كلّ هذه الطزّات في تقريري‏

    - لن تنفعك شيئاً لأني سأرمي بنفسي اليوم من الطابق السابع من المبنى رقم 10 في شارع الحرية.‏

    واستغل شاكر كالعادة انذهال المدير وصاحب السيجار واندفع نحو الشوارع المزدحمة مرفوع الرأس متجهاً إلى شارع الحرية، لكنَّ الصدفة وحدها وضعت في طريقه شرطياً قد قيد نفسه إلى مخلوق بشري حليق الرأس زائغ العينين ينتعل (شحاطة) من البلاستيك.‏

    اعترض شاكر طريقهما بشجاعة رجل عازم على الانتحار وقال:‏

    - أيها الشرطي إلى أين تأخذ هذا المخلوق؟‏

    - إلى جهنم!!‏

    - وهل كانت محاكمته عادلة؟‏

    - وما علاقتك أنت ياصعلوك؟!‏

    - هذا المخلوق أخي في الإنسانية ومن حقي أن أسألَ‏

    - حقُّك؟‏

    قهقه الشرطيُّ المقيد إلى السجين كأنه رأى قرداً سكران يسقط من فوق حمار أعرج. لم تستمر القهقهة طويلاً إذ هوت يد شاكر على وجه الشرطيّ ثم تابع طريقه لايعير أدنى انتباه شتائم الشرطي ومحاولاته اللحاق به.‏

    في الساعة الثانية تماماً كان شاكر يشرف من الطابق السابع من المبنى رقم 10 على شارع الحريّة. تأمّلَ طويلاً البشر الزاحفين ثم صرخ بأعلى صوته:‏

    - هيه.. هيه.. هل تسمعوني أيَّها الناس؟!.. الحياة صارت مستحيلةً.. لم أعدْ قادراً على العيش.. أنا تعبتُ كثيراً.. وأنتم أيضاً.. لقد صممّت على الانتحار.. الآنَ.. ولكن يجب أن تعرفوا لماذا؟.. أصغوا إليَّ.. أرجوكم.‏

    لم يصغ إليه أحدٌ أو حتى يرفع رأسه. الناس تسير.. تسير. تدفعها قوة ساحر عجوز تواطأ مع الموت.. صرخ شاكر ثانية.. لكن سيل البشر تناقص شيئاً فشيئاً حتى خلا شارع الحرية تماماً.. أصابتْ الدهشة شاكراً وتوهم أنّ له يداً فيما حدث.. لكنّ دهشته زالت حين رأى لافتةً ضخمة تقطع الشارع رغم اتساعه تعلن عن مباراةٍ رياضيةٍ في ملعب المدينة هذا اليوم.. لطم شاكر جبينه يلوم نفسه بقسوة على التوقيت الخاطئ الذي اختاره للانتحار. ولكن جسر التراجع كان قد رفع فصعد إلى جدار الشرفة أغمض عينيه وحين همَّ بإلقاء نفسه سمع نداءً من الشرفة المقابلة..‏

    - هيه أنت في المبنى رقم 10 هل نويت الانتحار؟‏

    - نعم..‏

    - وأنا أيضاً‏

    - لماذا؟‏

    - لأنني فقير و...‏

    - لاتكمل أعرفُ بقية الأسباب‏

    - هيا ننتحر معاً..‏

    - هيّا‏

    - واحد.. اثنان‏

    فجأة تعالى نداءٌ من فوق إحدى المآذن القريبة‏

    - انتظراني.. أريد الانتحار معكما‏

    - لماذا؟‏

    - أنا بدون عمل منذ سنتين و..‏

    - يكفي.. نعرفُ بقية الأسباب‏

    - هيا نقفز معاً إلى شارع الحرية‏

    - واحد.. اثنان..‏

    - لاتقفزوا.. انتظروني.. أرجوكم‏

    كان النداء لفتاة جميلة لاتتجاوز العشرين من عمرها تقف على شرفة أحد المنازل‏

    - أتريدين الانتحارَ مثلنا؟‏

    - وهل الانتحار وقفٌ على الرجال؟‏

    ولماذا ترغبين بالموت؟‏

    - أنا أحبُّ شاباً وأبي..‏

    - الحكاية ذاتها منذ مئات السنين‏

    - قدمها يعني أنها الجرح العضال‏

    - هيا ننتحر معاً.. واحد.. اثنان..‏

    - لحظة.. يجب أن يهزّ انتحارنا أهل المدينة جميعاً‏

    - لافائدة.. رؤوسهم الآن تركض وراء كرة‏

    - البشرى.. هناكَ رجلٌ قادم..‏

    اقترب الرجل القادم يسحب وراءه مكنسةً طويلة صرخ شاكر:‏

    - هل تسمعنا أيّها الرجل؟‏

    رفع الرجل ذو المكنسة الطويلة رأسه ودارت عيناه بملل في مجموعة الانتحار‏

    - ماذا تريدون؟‏

    - نريد الانتحار جميعاً لأننا لم نعد قادرين..‏

    - أسرعوا.. أسرعوا.. أريد تنظيف الشارع قبل مرور موكب الفريق المنتصر

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()