بتـــــاريخ : 11/17/2008 7:36:36 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 985 0


    الأهمية الكبرى للأحذية

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : شوقي بغدادي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    كان يجب أن يتقاعد "أبو معتزّ" في سنّ الستين كباقي موظفي الدولة، ولكنهم مدّدوا له في خدمته سنتين إضافيتين بناءً على رغبته الشخصية وبموافقة خاصة من القصر الملكي الذي كان معجباً للغاية بإخلاصه وتفانيه في العمل.‏

    لقد خدم "أبو معتز" حتى الآن ثلاثة ملوك، وبالرغم من أنه لم يدرس أصول البروتوكول في مدرسة متخصّصة، إلاّ أنه كان موهوباً حقاً في وظيفته، وقد زادته السنون حنكةً وخبرة حتى لقد صار ممكناً أن يُشَبَّه بالتابعين المخلصين في الطوائف الدينية، الذين يمكن أن يُرجع إليهم حتى أئمّتهم للتأكّد من التفاصيل الصغيرة التي يمكن أن تُنسى في بطون الكتب، أو عبر الأحداث المتشابهة، والمهدّدة بغبار النسيان.‏

    كان يعرف مثلاً عن ظهر قلب عدد البزّات والمعاطف والقمصان الخارجية والداخلية والأحذية التي يستخدمها صاحب الجلالة، ويحلّ بسرعة البرق. كل العقد الصعبة في توزيع المقاعد بين الضيوف في المآدب الكبرى، كما يعرف جيداً أنواع المآكل والمشروبات التي يفضّلها رؤساء الدول المختلفة، ومَنْ يتقدّم من المسؤولين على مَنْ.. وماذا يُلبس في الفصول وبين الفصول وعند الخروج للصيد أو للاستقبال صباحاً أو مساءً، ومازال موظفوا القصر يذكرون له مأثرته حين زار البلاد أحد الرؤساء الأفارقة وكان شخصاً مرحاً لا يحبّ التقيّد بالأصول إلى درجة إحراج من معه، وكيف استطاع "أبو معتزّ" بلباقته وحنكته ومرونته، أن يكبح من جماحه ويروّضه خلال اليوم الأوّل من زيارته مما أثلجَ قلوب الجميع، حتى أنّ جلالة الملك نفسه أثنى عليه شخصياً في إحدى حفلات الاستقبال مما يُعدّ بمثابة وسام خاصّ أنعم به القصر على "أبو معتزّ"، ولو أردنا أن نعدّد مآثر "أبو معتزّ" في هذا المجال إذن لطال بنا الحديث، وخير شاهد على هذا السجل الذهبي الحافل تمّسك القصر به بعد بلوغه سنّ التقاعد. ولولا الانهيار الصّحي الذي أُصيب به بسبب استفحال مرض "الديسك" في فقرات ظهره، وعجزه شبه التام عن الحركة السريعة التي اشتهر بها، والتي كانت ضروريّة لوظيفته إذن لما فكّر أحدٌ بالاستغناء عن خدماته حتى تقعد به الشيخوخة.‏

    لقد جاء إذن أخيراً اليوم الذي تقاعد فيه "أبو معتزّ" وكان يوماً حزيناً حقاً حين صدر المرسوم الخاص بإحالته على التقاعد مع كتاب شكر خاص. وكان "أبو معتزّ" ممدّداً على فراش صلب كما نصح الطبيب، ممنوعاً عليه الحركة إلاّ الضروري جدّاً منها، ولكن لكم كانت فرحته كبيرة حين فوجئ في مساء ذلك اليوم الحزين بزيارة خاصّة مفاجئة أنعم بها جلالته على الرجل.‏

    كانت فرحةً لا توصف دفعت به إلى مايشبه القفز من فراشه حين قيل له إنّ مليكه المفدّى في منزله، ولم يَعُدْ إلى سريره إلا بعد رجاء خاصّ من جلالته الذي تلطّف وجلس إلى جوار السرير مدّة عشر دقائق كاملة كان "أبو معتز" خلالها لا يكفّ عن مسح دموع الفرح وهي تسحّ من عينيه سحّاً، وقد ظلّ يمسحهما بعد ذهاب الضيف الجليل لأمدٍ طويل.‏

    ***‏

    هكذا تحدّدت حياة "أبو معتزّ"، بعد التقاعد.. يتمدّد على الفراش أطول مدّة ممكنة في النهار ولا تسليه له سوى استقبال الزوّار الذين بدؤوا يتناقصون مع الزمن حتى غدا شبه وحيد. وفي الليل كان يتمدّد على "كنبة" طويلة في صالون بيته الكبيرة مقابل جهاز التلفزيون محاطاً بأسرته التي كانت تحترم رغبته في ملاحقة نشرات الأخبار والبرامج الخاصة بزيارات جلالة الملك داخل البلاد وخارجها إذا لم يكن أشدّ إثارة ومتعة بالنسبة له من مشاهدة تلك الاحتفالات التي تعوّد لسنين طويلة أن يكون له الدور الكبير في قيادتها، وتنظيمها، والإشراف عليها.‏

    في تلك اللحظات كان يخيّم على الصالون مناخ شبيه بأجواء المعابد في أوقات أداء الطقوس الكبرى. هناك الكاهن الأكبر يقوم بحركاته المقدّسة على الشاشة الصغيرة أمام حشد من المؤمنين، وهنا تابع أمين أقعده المرض عن الحضور. ولكنّ عدوى الانفعال تخترقه وهو في عزلته فيهمد كلُّ شيء فيه إلاّ عينيه المستغرقتين في المشاهدة وفمه الذي تندّ عنه من حين لآخر عبارات تشي بحالة الوجد الذي تتملكه كأن يقول مثلاً: "ياللمهابة والعظمة!..". أو: "ليحفظك الله تاجاً دائماً على رؤوسنا....".. وكان على الأسرة أن تحافظ على الجوّ الاحتفالي للطقوس المعروضة على الشاشة وتتقن دور الخشوع بحكم العادة، إلاّ أن أحد الأولاد كان يخطئ أحياناً فينهض، أو يتفوّه بكلام مبتذل غير مناسب فينهره الأب على الفور، أو يشير إليه بيده أن اهدأ دون أن يلتفت نحوه فتخمد حركته وصوته على الفور.‏

    ولم يكن يزعجه شيء في هذا الجوّ المهيب مثل أن يلاحظ تقصيراً هنا أو هناك في تنفيذ المراسم. وما أكثر الأخطاء التي كان يلاحظها خلال السهرة، فيتململ في مكانه وهو يغمغم محتجّاً:‏

    - هذه قِلّة ذوق من المصوّر، كان يجب أن تكون الكاميرا مرافقةً لجلالته من الجانب الآخر كي تظهر الجماهير المستقبلة معه في الصورة في آنٍ واحد. كما أن الوجه يزداد بهاءً كلما اقترب منه المصوّر أكثر...‏

    أو أن يهتف معترضاً:‏

    - هذا غير أصولي على الإطلاق، لقد كان ترتيب سفير "سيرلانكا" في الصف غير مناسب. كيف يضعونه في آخر الصف بعد العلاقات الحسنة التي بدأت تربطنا بتلك الدولة في الآونة الأخيرة...‏

    وكثيراً ماكان يشتدّ به الحنق على إحدى المخالفات التي يكتشفها، فينهض قاعداً، فتشتدّ به آلام الظهر دون أن يبالي بها، فتهبّ زوجته لتهدئة خاطره وإعادته إلى وضعه المريح، فيستجيب لها بعد ممانعة ليست بالقصيرة وفي بعض الأحيان كان يُصر على جلب جهاز الهاتف قريباً منه كي يخابر موظفي القصر معنّفاً محتجّاً حين يسمع من الطرف الآخر جواباً مقنعاً أو اعتذاراً لطيفاً، فتهدأ ثائرته ويسترخي من جديد فوق الكنبة مسنداً رأسه بإحكام إلى المخدّة العالية كي يتمكّن من رصد مخالفات أخرى لابدّ أن تقع في اعتقاده.‏

    وماتزال الأسرة تذكر ثورته الشديدة حين ظهر صاحب الجلالة مرّةً في استقباله لأحد الرؤساء مرتدياً بزّةً كانت قديمة الزيّ بالنسبة لما كان رائجاً في السنوات الأخيرة فزمجر أبو معتزّ صارخاً بصورة مفاجئة أرعبت الأولاد والزوجة:‏

    - يا إلهي... ماذا حدث لهؤلاء الجَهَلَة حتى يختاروا له هذا الطقم القديم، صحيح أنه مُخاط بعناية ومن جوخ إنجليزي عريق ولكن موضته متخلفة، لقد لبسه مرّةً واحدة قبل ثلاث سنوات، غير أن الياقات لم تُعدْ عريضةً كما كانت من قبل.. كما أن البنطلون يبدو أعرض مما يجب في أسفله.. هذه فضيحة لا يجوز السكوت عليها...‏

    وأخذ جهاز الهاتف وبدأ يصرخ فيه:‏

    - من الذي اختار لجلالته هذه البذلة؟! لابدّ أنها نصيحة "أبو عادل" المرشّح الأوّل لخلافتي.. في أيّ عصرٍ يعيش هذا الرجل؟!.. قولوا له أن يراجع قليلاً مجلاّت الأزياء الحديثة للرجال... هذا تقصير مخجل!.. هل تريدون ياحضرات أن يبدو مليك البلاد رجلاً متخلّفاً رديء الهندام؟! إن الأناقة من أهمّ مستلزمات الملك!..‏

    ويبدو أن "أبو معتزّ" لم يسمع كلاماً لطيفاً من الجانب الآخر، ذلك لأن صوته احتدّ أكثر فأكثر، ودارت مشادّة ليست هيّنة انتهت بإقفاله الخط خبطاً ثم نهوضه واقفاً كي يتمشى قليلاً في الصالة وهو في ذروة هياجه، ولم يستردّ سكينته إلاّ بعد نصف ساعة حين سمع المذيعة تعلن عن قرب تقديم مقابلة صحفية لمليكه المحبوب مع إحدى كبريات الصحف العالمية، فعاد إلى موضّعه فوراً، فيتمدّد بحركة لا تخلو من التوتر ثم أحكم إسناد قذاله إلى المخدّة مترقّباً.‏

    لم تكن هذه الثورات العصبية تؤثّر مباشرة في مرض "أبو معتز" إلاّ أن مضاعفاتها من قيام وقعود وصراخ كان يقلق زوجته بشكل خاص، فصارت تنصحه بضرورة الاحتفاظ ببرودة الأعصاب. ذلك لأن توتّر الأعصاب يؤدّي إلى المزيد من التهابها، ولكن من أين لنصائحها هذه أن تُجدي حين كان أبو معتز يكتشف الخطأ. كان يُبعدها عنه بلطف أوّل الأمر، ثمّ بعنف وهو يُصر على موقفه قائلاً:‏

    - دعيني يا امراة.. هذا مشهد لا يُطاق.. يجب أن أرى ماذا يصنعون في غيابي... إن ماينقص هؤلاء هو أن يشعروا بقداسة العمل الذي يؤدّونه في خدمة ملوكهم.. إنهم يدمرون بجهلهم كلّ مابنيته في سنين طويلة...‏

    وكثيراً ماكانت تسمعه يتحدّث مع نفسه بصوتٍ مسموع في ساعات من النهار أو الليل وهو يعبّر عن استنكاره للأخطاء الجسيمة المرتكبة في أصول البروتوكولات الراقية، حين بلغ بزوجته الأمر أنها صارت تخاف عليه من مضاعفات مرضيّة أخرى شرعت تعلن عن نفسها في أمارات الشرود أو التوتر المفاجئة التي كانت تظهر عليه في الأوقات العادية التي لا يبث فيها التلفزيون، أو حتى في البرامج الأخرى التي لا علاقة لها بالحياة الداخلية للقصر ومقابلات الملك وأسفاره...‏

    لم يُصَبْ أبو معتزّ بالهلوسة، غير أنه كان يقترب منها في بعض تصرّفاته وردود فعله. وقد وقعت الطامة الكبرى ذات مساء حين قدّموا مشاهد من حفل استقبال للملك في زيارته لإحدى البلاد المشهورة ببردها وصقيعها، وكان الفصل خريفاً، ولكن البرد كان مبكّراً على مايبدو في تلك البلاد، وحين ظهر جلالته هابطاً على سلم الطائرة من دون معطف هبّ أبو معتزّ واقفاً كمن لسعته حشرة سامّة وهو يصرخ:‏

    - أهذا معقول ياناس.. أهذا معقول ياعالم؟!؟ هكذا بهذه البذلة الرقيقة ومن دون معطف يتركون مليكنا يواجه الشتاء القارس لتلك البلاد اللعينة!.. كيف نسوا أن يحملوا له معطفه معهم من باب الاحتياط على الأقل!... حتى قبّعة الفرو الخاصّة بمثل هذه الزيارات ليست على رأسه ولابدّ أن يصاب بالزكام نتيجة هذا الإهمال الفظيع...‏

    ويبدو أن المصوّر هناك هبط فجأة بآلته فظهرت قدما جلالته تهبطان الدرج لثوان معدودات. ولكنها كانت كافية كي يلاحظ أبو معتزّ نوع الحذاء الذي كان يرتديه الملك فإذا به يرفع ذراتيه إلى أعلى وقد زادت حدّة غضبه وصوته:‏

    - انظري.. انظري أيّ حذاء ألبسوه لزيارة مثل هذه البلاد.. هذا حذاء إيطالي رقيق يصلح للصيف والنزهات لا لخوض الشتاء في بلاد الثلج والمطر والبرد.. لا... هذا فظيع.. لقد أشترينا له أحذية متخصّصة ذات نعل من "الكريم" السميك لمثل هذه الأسفار.. فأين هي؟!.. كيف لم يفكّروا بها حين رتّبوا الحقائب!.. أبمثل هذا الحذاء يمكن لجلالته أن يدوس على صقيع تلك الأرض!.. كيف أنّهم لم يقدّروا أهميّة الأحذية في الدوس على الأرض الباردة هناك!.. إنهم يقامرون بصحّة ملكهم بكلّ صفاقة وجهل... إنّ للأحذية أهميّة كبرى في حفظ القدمين، وبالتالي حفظ الجسم كلّه من تسرّب البرد القاتل.. ياإلهي.. حتى الأحذية ينسونها.. حتى الأحذية لا يفكّرون فيها..‏

    وكانت ليلة ليلاء دارت فيها مشادّة عنيفة على الهاتف مع موظفي القصر ولم تنته على خير كما يبدو إذ انهار أبو معتز على إثرها فوق الكنبة وهو يلهث من الإعياء رافضاً القيام إلى سريره، وقضى ليلته كلّها في مكانه، فاضطرّت زوجته أن تبقى إلى جواره طوال الليل وهي تسمعه يتمتم بين الحين والآخر:‏

    - حتى الأحذية ياناس.. إنّ للأحذية أهميّة كبرى.. إنّ للأحذية... إن للأحذية..‏

    وظلّ يكرّرها حتى أخمده نوم شبيه بالموت...‏

    *‏

    وهكذا ظلّت حاله "أبو معتزّ" الصحيّة تتدهور من سيّء إلى أسوأ، وبدأ جسده يضمُرُ ويتيبّس، وجلدُهُ ينكمشُ ويتجعّدُ ويأخذ شكلاً غير آدميّ وسط دهشة الجميع الذين ضاقوا ذرعاً بهذيانه المتواصل عن أهميّة الأحذية، وبالبشاعة التي آل إليها منظره العام. وعندما مات بعد أربعة أشهر من تلك الحادثة بدت جثّته التي تضاءلت كثيراً أشبه ماتكون بفردة حذاء قديم متجعّد الجلد لم تُتعِبْ أهله بحملها، وإخراجها من البيت على وجه السرعة...‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()