أمسكت فاتن بيدها الرسالة التي حملت إليها دعوة من مستشارية ثقافية عربية، للمشاركة في مهرجان للقصة القصيرة. أعادت قراءتها ثانية وثالثة، شعرت بالدنيا تتحرك من حولها تساؤلاً واستغراباً. كيف يمكن أن أستجيب لهذه الدعوة، والوصول إلى مكان المهرجان يتطلب زمنا وجهدا، وأكثر من وسيلة سفر؟ لا تصعّبي المسائل، فرصة طرقت بابك فلا تصديها.
استجابت فاتن لصوتها الداخلي، وأخذت تفكر بالقصص التي ستشارك بها. تناولت مجموعة القصص التي انتهت مؤخراً من إعدادها للنشر، وقلبت صفحاتها لتختار منها ما يناسب المهرجان. الفكرة لم ترق لها، فمثل هذا التجمع الأدبي يستحق قصة جديدة. فردت أو راقها البيضاء، وأحضرت أقلامها الملونة والسوداء، وجلست تنتظر فكرة تكتبها. غيرت مكان جلستها، وقفت أمام الشباك تستطلع الأفق فكرة تنسج حولها قصتها، خرجت من الغرفة إلى المطبخ وأعدّت فنجانا من شراب اليانسون الساخن، وانتظرت. رنّ جرس الهاتف، كان المتكلم ابنها. جاءها صوته محبطاً يائساً، وهو يقول: تكسرت أقدامي من الدوران بين شوارع دمشق وضاحية دمّر، بحثا عن شقة ولم أجد. الإيجارات خيالية، والشقق التي رأيتها لا تصلح للسكن قبل طلائها، وصيانة تمديداتها الصحية، والمؤجر غير مستعد لدفع قرش واحد في هذا السبيل. حاولت أن تهدئ خاطر ابنها بكلمات دينية، تعودت على ترديدها في لحظات الانهزام. لا فائدة يا أمي، سأؤجل الزواج. قال ذلك بقهر ونزق. بعد أن وضعت سماعة الهاتف لم تستطع فاتن أن تخلص سمعها من كلمات ابنها. إحباطه أعداها، شعرت أنها تواجه أزمة حقيقية، صنعتها ظروفها المادية الصعبة وجشع أصحاب البيوت الخالية. وأدركت أن الحصول على شقة للإيجار ليس بالأمر الهين كما تصورت.
* * *
أسندت ظهرها إلى الكرسي، وأخذت تتملى صورة ابنها الموضوعة على المكتب في إطار فضي مزخرف، وتستعرض على شاشة ذكرياتها بعض المحطات الحزينة في حياتها. ثلاثون عاما عمر ابنها الآن ولا يملك مدماكاً واحداً في هذا العالم، مع أنه موظف منذ سنوات. اختلطت عندها حدود التفكير بالدموع، فغمرتها كآبة شوشت ذهنها، وأخمدت رغبتها في الكتابة. صوت داخلي أيقظها من سرحانها ويأسها، وأهاب بها أن تكتب قصة ابنها وأقرانه من الشباب. وما أن بدأت بالكتابة، حتى قفزت إلى مخيلتها صورة ذلك الأستاذ الجامعي الذي تعرفت به، في الحافلة العائدة بهما من الميادين إلى دمشق، ورنة صوته الفرح وهو يقول: منذ شهور اقتنيت أول منزل في حياتي، بعد أن أمضيت خمس سنوات عجاف متنقلا بين غرف الإيجار. لقد بنيت غرفتين على أرض غير نظامية في إحدى ضواحي دمشق، وتزوجت. تداخلت في فكرها وعلى الورق قصة الأستاذ مع قصة ابنها، وتحيرت في أيهما تكتب!
لا تضيّعي وقتك في هذه التقاطعات السريالية، التي تزيد الكآبة وتثير الاكتئاب. على أنها قصص معروفة مكرورة، ولا طائل من تدوينها. الموضوعات عديدة متعددة، تنتظر من يلتقطها. ازدحمت أمامها الصور والمشاهد، ازدادت حيرتها واشتد ترددها، فكل ما حولها يجذبها ويستقطب اهتمامها. هل تكتب قصصا عن أطفال العراق وفلسطين، عن الجائعين من المحيط إلى الخليج؟ تتمنى أن تفعل، لكن المحاذير كثيرة، والمحظورات أكثر.
تتناوب عليها لحظات الكآبة، فتقرر أن تهجر الحاضر وترحل إلى التاريخ، مثلما يفعل كتاب المسلسلات، لتختار من أحداثه موضوعا تجعله محور قصتها، وبذلك تمرر كل ما ترغب في قوله. تختار غزوة تبوك. ولماذا تبوك؟ ألم ينتصر فيها المسلمون على الروم مع أنهم كانوا قلة؟. وماذا في ذلك؟! أنصحك بالابتعاد عن موضوعات تقلّب المواجع، وتجلب الحسرات. مفهوم. مفهوم. إذن سأكتب قصة عبيد البصرة وكيف ثاروا على الدولة العباسية، وانفصلوا عن حكمها. اطردي من قلمك هذه المواضيع المعلوكة. لكنها، قصص تحمل في باطنها استمرار الحدث! كم أنت مشاغبة! اتركي الثورات والعبيد، واكتبي ما هو أخفّ على الذاكرة والنفس.
تحيرت فاتن، إن هي تركت كل هذا فعن ماذا تكتب؟ جاءها الصوت ذاته يقول لها: اكتبي عن الحب. وهل هناك أجمل من الكتابة عن الورد الأحمر، عن القلوب الخافقة والعيون الوامقة، عن الأسماء المحفورة على جذوع شجر الكينا؟. لا تثر أشجاني. الحب ليس فرحا كله ولا سعادة كله، بل هو دمعا وسقوط قلب. ذكرتني بصديقتي سهى التي أحبت (حازم) وظنت أنّ حلمها بالاستقرار مع شخص تحبه ويحبها، قد تحقق. توقعت أنها ستمضي حياتها معه، وتخيلت نفسها عجوزا إلى جانبه تحنو عليه ويحنو عليها، تموت على يده أو يموت على صدرها. لكن لخيبتها، وجدت حازما شائخ الروح، مجعد القلب. ولا شيء يجمع بينها وبينه، لا أمل ولا هدف، ولا حتى أغنية. كل ما أحبته سهى وحلمت به فرّ من يدها، وبقيت معها الحسرة والندامة.
لا تكملي، كفاك. قطعّت قلبي. ما أصعب انكسار قلوب المحبين.! لم يترك هذا الزمن المشروخ للحب صفاءه وألقه. تشعر بتثاقل القلم في يدها، وأصابعها لم تعد تقوى على المتابعة. ماذا جرى؟ ألم تتعبي من كتابة الأحزان؟ اجنحي قليلا إلى الحلم والتفاؤل. ماذا أكتب عن الحلم، وهو المأساة التي تربينا عليها، أنا وجيلي؟ لقد أمضينا عمرنا، ونحن نحلم باللعبة والحذاء والفستان. بأكلة طيبة ونزهة جميلة ومشاهدة فيلم سينمائي، انتهاء بالوطن الحلم.! هل أفهم من كلامك أنك تخليت عن أحلامك؟ لا، لم أتخل. لكن مأساتي كبرت مع كبر أحلامي.! إذن من الأفضل أن لا تتحدثي عنها، ولا تهيّجي ذواكر الآخرين بالحلم وبما يحلمون. مضت ساعات على جلوس فاتن وراء مكتبها، دون أن تنجز القصة التي رغبت في كتابتها. فقررت أن تلغي فكرة الكتابة وتطوي الأوراق. وإذا بالهاتف يرن، وصوت مسؤول عن المهرجان الثقافي يقول: عذرا يا سيدتي، موعد المهرجان قد تأجّل. وسوف نعلمك في حينه.