- واأسفاه على حظك ياعفاف، من كان يصدق أن حسين يفعلها؟ كنتِ له زوجة صالحة، وقفتِ معه في الضراء قبل السّراء، في الشدّة قبل الفرج؟؟ ضحيت في سبيله. تركتِ ابن النِعَمْ والأصول وتزوجْتِهِ، قدّمتِ له كل خيرٍ وعون، ومع ذلك فقد فعلها.
هكذا كانت أم عفاف تتحدث وتبكي من شدة القهر والغيظ..وكانت جارتها أم فيصل تصغي إليها متأثرة بما ترويه، قالت مواسية:
- معقول؟! معقول نقابل الخير بالشرّ؟ قال: يامُؤَمِّن الرجال.. يا مُؤمّنَ الميّة في الغربال.
- ماذنبها المسكينة؟ فوق حقّه دقّه. هذا جزاء المعروف؟
- عفاف لا تستأهل إلاّ الخير، رِجْلها برأسهِ، هذا ابن حرام..أين كان يخبّئ كل هذا؟!
- شكيتك لله ياحسين، الله لا يسامحك..ولا يوفقك.
- طولي بالك يا أختي.. حكمتك يارب. أريد أن أفهم...عفاف ماذا يعيبها؟! حتى يفعل بها الكلب ذلك؟! وجهها يوحّد الذي خلقه، يقول للقمر: قم لآخذ مكانك، صبيّة ولا كلّ الصبايا، راكزة وعاقلة ومكمّلة... علم وجمال وأصل وأخلاق عالية... أين سيجد مثلها السافل؟! ومن ستتحمله مثلها؟ من تفعل له مافعلته عفاف؟؟!
- الله يشرشحه أكثر مما هو، مشرشح.
كانت عفاف صامتة، وكان صمتها مرعباً. لقد صدمت المسكينة، وأخذها الدُّوار، وتجمدت أحاسيسها وأفكارها. بضعة أيام قضتها وهي على هذه الحالة. حالتها تبكّي الحجر. لاتكاد تأكل لقمة، وبدا عليها الشحوب والهزال....
والد عفاف المشهود له برجاحة العقل منع ابنه فارس من ارتكاب الجريمة، قال:
- كلٌّ يأخذ قيمته... ويعمل بأصله، ومامن ظالمٍ إلا سيبلى بأظلم.
الإنسان فانٍ..لا يخلّف وراءه غير سمعته. حسين ماعنده شرف ولا مبدأ، وسوف يقع في شر أعماله.
علّقت الجارة قائلة:
- يسلم فمك. الحيّة إذا لم تجد ماتعضّه، تعضّ بطنها "تفوه" عليك يانذل..الله يمهل ولا يهمل. سيجازيك ياواطي.
خمس سنوات مضت على زوج عفاف بحسين، وهي تعلفه، وتطيّب خاطره، بعد أن طرد من عمله لأسباب شائنة، بمهارة ممثل عتيق كان يقنعها ببراءته:
- مظلوم ياعفاف. والله العظيم مظلوم، كله تلفيق ومكيدة.. يحسدونني..يكرهونني..ماذا أفعل؟!
- لا يهمك..يفرجها الله..أنا معك.
وكانت عفاف موظفة، تصرف على زوجها... الذي لم يوفق في الحصول على عمل دائم بعد طرده، وكان حسين متقلب المزاج... لا يستقر على رأي ولم تكن معاملته وعشرته سهلة. عندما يحتاج إلى المال لقضاء حاجة ما، يصبح عصبياً نزقاً، يثور بسرعة، ولا تنطفئ ناره...ولا يتوقف نباحه حتى ترمي له عفاف بعظمة مناسبة، كانت عفاف تشتري له التبغ والثياب، وكان حسين يحب المظاهر والأناقة، ويقول: "لبسيني ولا تطعميني..الناس لهم الظاهر" ورغم عدم اقتناع عفاف بتصرفاته وفلسفته، فقد كانت تسايره.. صوناً لعش الزوجية، وخوفاً عليه من التصدع والانهيار. كانا على خلاف متواصل، وكان الحل دائماً لمصلحة حسين. إنه -كما يقول بعظمة لسانه: "رجل البيت، وصاحب القرار والكلمة الأخيرة في كل مايتعلق بشؤونه".
قالت الأم:
- لقد صبرت عليه المسكينة كما لم تصبر امرأة.
استطردت الجارة:
- الله يخزيه.. ويسوّد عيشته، سيرته تسمّ البدن..ماسمعت المثل الذي يقول: "من أمّنك لا تخونه ولو كنت خواناً...من كان يتصور أن حسيناً خوان وغدار هكذا... ياعيب الشوم عليه.
وقال الأب مطيّباً خاطر ابنته:
- اعتبري أنك لم تربحي أصلاً...
بقيت عفاف صامتة جامدة، فتولت الأم الردّ:
- عفاف منزعجة من الخيانة والغدر، لا من الخسارة، المال يأتي ويروح، أما الإنسان، فهو أكبر خسارة.. إنها لا تعوّض.
- حسين ليس إنساناً، إنه ضبع... ثعبان تحت التبن.
- ياويله من الله، يصرفهم على صحته إن شاء الله.
فارس شقيق عفاف قال:
- أين سيهرب مني؟ سأجعله يموت ألف مرة، سأنكشه من تحت سابع أرض...
وكان حسين قد هرب، واختفى بعد فعلته الشنعاء، ولم تعلم عفاف بما أقدم عليه إلا بعد أن أرسل لها ورقة الطلاق بالبريد، وبعد أن جاءتها رسالة من المدعوة ليندا التي كانت من أعزّ صديقاتها، تخبرها فيها أنها وحسين قد تزوجا، وأنهما يقضيان شهر العسل من مكان ما حرصت على عدم ذكر اسمه في الرسالة، ومما جاء فيها:
"صديقتي المغفلة عفاف، حسين لم يحبّك يوماً..ويقول: إن أكبر غلطة ارتكبها أنه تزوجك، وقال: إنك عديمة الكرامة... وغبية، وإنك امرأة مسترجلة..وباردة. أنا لا ذنب لي، هو لا يريدك. وإذا لم آخذه أنا..فقد تأخذه امرأة غيري، أنا لم أخنك..بل هو الذي خانك"...
ولم تجد عفاف في تلك الرسالة مايشير إلى أن ليندا تعرف شيئاً عما قام به حسين.
وبقي وجه عفاف أغنية حزينة صامتة، تستعرض صدى الأيام، وماسرقته منها:
يومها طارت من الفرح، ونسيت كل سيئاته، ضمته، عانقته، بكت فرحاً، زغردت، رقصت، بدت كمن طق عقلها، حسين هو الآخر بقي ذاهلاً، عضلات وجهه تراخت..تهدّلت من الخوف الممزوج بالريبة والفضول... حدقتاه اتسعتا لفهم ماحدث.
- ( أخيراً جاء الفرج ياحبيبي..اضحك..غنّ...وارقص الآن نستطيع أن نفعل مانريد، أن نحقق أحلامنا...حسين..حبيبي سنشتري بيتاً..وسيارة..وسنستثمر ماتبقى في مشروع تجاري مارأيك؟! لماذا أنت صامت ياحبيبي؟! قل شيئاً..هنئني هنئ نفسك". وظل حسين مدهوشاً... ولم ينبس بكلمة. حينئذٍ ودّت عفاف أن تختصر عليه الصبر والانتظار. وقذفت بالخبر في وجهه دفعة واحدة:
"لم أضن عليك بشيء ياحسين، وهبتك قلبي.. وكل ما أملك. أنا لست آسفة على شيء.. أنا آسفة على الأيام التي قضيتها معك حمقاء مغفلة. لم أكن أصدق أنك بهذه الخِسَّة، تعتقد أنك خدعتني؟ أنت غلطان، لم تخدع سوى نفسك.
أنا ربحت إذ كشفت حقيقتك الشنيعة، ربحت نفسي وماتبقى من عمري. أما أنت فستخسر كل شيء.. حتى نفسك.. لأنّك غير قادر على العطاء والحب، غير قادر على فهم نعمة الحياة مع الآخرين.
أنت أناني..أنت مرض..وباء..كتلة سرطانية من الحقد والكراهية والجشع..الآن صدقت ماقالوه عنك..صدقت أنك لص..مخادع..ماكر.".
كانت عفاف قد اشترت ورقة يانصيب دون أن تخبر زوجها، وقدربحت الجائزة الكبرى، فأخبرته، وقدمت له الورقة بنيّة طيبة، ولم يخطر لها على بال أن يفعل مافعله.
غاب حسين منذ حصل على الورقة..انتظرته عفاف..ساعاتٍ..ولم يعد..أياماً..خافت عليه..بكت عليه بحرقة وألم ومرارة، خشيت أن يكون قد تعرض لمكروه..وكانت تدعو الله أن يعيده لها سالماً..لم تفكر عفاف لحظة واحدة بالمال..والجائزة. بل بسلامة زوجها... وعودته إليها. لقد قلقت كثيراً. وقررت أخيراً العودة إلى بيت أهلها. أخبرتهم..وانهالت الاستنتاجات من قبل أفراد أسرتها:
- ربما تعرض لسطو عصابة من اللصوص!
-ربما قتله شخص وسرق المال!
- لنسأل المستشفيات..لعله صدم بسيارة..
- لنسأل مخافر الشرطة..ونطلب منهم إذاعة بحث عنه..
- ولماذا لا يكون هونفسه قد سرق المال واختفى به بعيداً..
- ولماذا يفعل؟! مادامت أن زوجته منحته إياه بمحض إرادتها..
- أنا لم أرتح له في حياتي..
واستمر البحث... واستمر سيل الاستنتاجات عن الرجل دونما فائدة. بعد حوالي شهرين، وصلت ورقة الطلاق.. وتلتها رسالة صديقتها المخلصة جداً ليندا...
وتبين لاحقاً... أن حسين كان يعشق ليندا، وأن ليندا كانت تصدّه برفق، وتحافظ على "شعرة معاوية" بينها وبينه، وأن كل شيء كان يجري من وراء ظهر عفاف... وأهم من هذا كله تبين أن ليندا قد عرفت أن حسيناً ربح الجائزة الكبرى وأنها اطلعت على الخبر والصورة. وتظاهرت بعدم المعرفة أمامه، وغيرت من أسلوبها معه.. إلى أن اصطادته ومالديه من غنائم دفعة واحدة، ثم فصفصته... أكلت خيره، وبصقته قشرة تافهة لا قيمة لها، ولا مكان لها إلا في أوعية القمامة