بتـــــاريخ : 11/13/2008 8:17:37 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1207 0


    آخر الرجال

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : مـحــسن يوســــف | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    ... ويشرق صباح جديد.‏

    ليس جديداً على الاطلاق. منذ نصف قرن وأكثر، وفي كل عام من أعوامه، وفي كل شهر من شهوره، وكلّ صباح من أيامه الثلاثين، لابدّ أن يشرق صباح، ومن الغريب حقاً، أن يقال لكلّ صباح: إنّه صباح جديد.‏

    قالت المرأة الصفراء:‏

    - الأولاد لم يأكلوا. فقر الدم يغزو أجسادهم، والشحوب يشوّه ملامحهم، منذ سكنت إلى عزلتك، كالنساء.‏

    تعوّذ الرجل من الشيطان، وأشار إلى أحد أبنائه:‏

    - اذهب إلى البائع. اشتر خبزاً، ولا تنس أن تأتي بعلبة تبغ.‏

    غمغم الصبي، وظلّ جامداً لا يتحرك، فنهره:‏

    - ما بك؟. يمكن أن تجلب لنفسك قطعة من السكر.‏

    - ذهبت يا أبي. البائع لن يقرضنا بعد اليوم.‏

    - لم؟! أنا أدفع له راتبي كلّه.‏

    - يقول إن الراتب لا يكفي لسداد ما استدناه.‏

    - خنزير....‏

    غادر المنزل متمهلاً، محاذراً أن يجهد نفسه، فآلام الصدر والمفاصل، وغيرها من آلام، لا ترحم شيخوخته المبكّرة.‏

    وقف أمام صبية، في مقتبل العمر، تفوح رائحة عطرها، وتبرق عيناها وشفتاها وأظافر يديها، وشعرها وثوبها وحذاؤها:‏

    - جئتكم منذ فترة، بقسائم دواء وعلاج، وأعرف أنكم صرفتم لزملائي المتقاعدين، والكتاب، والموظفات، والعمال، استحقاقاتهم.‏

    - "لا يوجد أموال".‏

    جلس على أقرب مقعد وهو يلهث. قطع مسافة طويلة، وصعد سلماً عملاقاً، حتى وصل:‏

    - لا يا ابنتي. العام يكاد ينصرم.‏

    قاطعته مستثارة:‏

    - قلت "لا يوجد أموال" ولست المسؤولة عن الدفع والتأخير.‏

    - لابأس.. يا ابنتي.‏

    نهض، واحساس بالضعة يستولي عليه. ما كان متسولاً أبداً، لكنّها الحاجة، لعنة الله على هذا الزمان. فتاة بعمر ابنته، تؤخر وصول الخبز إلى أسرته، وتحرمه متعته الوحيدة الباقية في التدخين.. خارجاً، استند إلى الجدار، والدوار يأخذ به. تلاحقت أنفاسه ثم تباطأت، وغمر جسده عرق بارد كالثلج.‏

    ارتخت ساقاه، فاقعى أسفل الجدار.‏

    كان السلم خالياً، لكن ضجيج المكاتب والأبواب المفتوحة، كان يصل إليه. سمع قهقهات، وكلمات باردة ودافئة، وعارية، وتنسم عطر نساء، وروائح بن، مع مزيج من عفن المكان، ورطوبة الرخام تحته.‏

    لم يكن يشكو ألماً، في أيّ مكان من جسده، لكنّ احساسه بهذا الجسد راح يتلاشى، والمرئيات تتلاشى، وأشياء في أعماقه تتلاشى، حتى أنفاسه حسب أنها تتلاشى، ثم غاص في فراغ..عندما استعاد وعيه، استغرب ما حدث. كيف يمكن أن ينهار وهو الذي قاوم على مدى خمسين عاماً من الأعوام العجاف؟.‏

    وقف. وجد قامته تستطيل، وقدميه تتحركان. تذكّر أنّه نشأ على قمّة جبل لا يغادره الثلج، وكان يرمح كحصان قوي، بين السفوح والذرا، وصدره مشرعاً للرياح العاتية. وتذكّر سنين عذاب، لم يلامس جبينه تراباً، أو يرى قدميه، على مداها الطويل، وكيف انتزع حبه من الذئاب ووحوش الغابة، في ذلك الجبل الذي ما عرف سوى الصمت، والسكون، والخضوع لثلوجه، ورياحه، ووحوشه الضارية.‏

    توقّف عن التذكّر. لن ينظم شعراً، أو يؤلف تغريبة، فما هو سوى إنسان عاطل عن العمل، قذفت به الحياة والسنون إلى الظل.‏

    ابتسم لهذه الخواطر: "لقد خرفت حقاً. ما زال في القنديل بعض الزيت" لكن كلمة: الظل، اصطدمت بقلبه، كنصل حاد.‏

    تلّمس صدره. فوق هذا الصدر، عشرات الأوسمة، كلّها تبرق وتلمع، وتؤرخ لجيل من الناس، أعطى كلّ شيء ولم يأخذ شيئاً. لماذا يفكّر هكذا وهو ليس في ميدان خطابة ؟. ومن أساء إلى هذه الأوسمة الوهاجة؟..‏

    توقف، يلتقط أنفاسه المتعبة. كانت هذه المدينة العملاقة قرية صغيرة، عندما انزرع فيها. لم يكن هناك كلّ هذه السيارات، والأزياء، والألوان، والقصور، والوجوه المتزاحمة، تراءت له قافلة من العابرين. ليسوا كمثل الذين كان يراهم منذ لحظات. لكن الوجوه يعرفها، انزرعت كما انزرع في المدينة في وجدانه وسنينه وأفراحه وأشجانه. في قلب القافلة، رأى وجهه ضاحكاً، مغموراً بالفرح، وإلى جواره، تألق وجه ذلك الحوراني الذي اصطاد وحشاً، وابن الفرات الأسمر. الغزال الذي لم يسلم ساقيه للريح ويهرب. التصق بالليل وافرغ قوته في وجه العاصفة التي كانت تقترب من منازل أحبابه، وآخر.. ما أبهى إطلالتك.. يا صديقي الذي أشعل النار في الأيام الباردة؟.‏

    والذي لم يتزوج، لأنّ من أحبّها خلف تخوم الغابة، ولابدّ من الوصول إليها، مهما بلغت الصعوبات وطال الزمن..‏

    كلّ هؤلاء، سقطوا عشاقاً، ولم يعرفوا هذه المظاهر والألوان، والوجوه المتزاحمة.‏

    مسح عبرات تساقطت، رغماً عنه، ومشى يداري وجهه عن عيون العابرين.‏

    ......‏

    تأمل العيون المنتظرة في المنزل.‏

    تذكر، أنّه رأى وهو عائد، أرغفة الخبز تملأ الشوارع، وكذلك زهت أمام عينيه، علب التبغ، بعشرات الاحجام والألوان.‏

    ابتسم لزوجته، فهدأت الأسئلة في العينين الضارعتين.‏

    قال لها:‏

    - سيكون كلّ شيء على ما يرام.‏

    كيف: "سيكون كلّ شيء ما يرام؟. لم يعد هناك ما يباع، سوى حياته وتاريخه.. فليكن"..‏

    بخطوات بطيئة، لكنها متزنة، ثابتة، اتجه إلى غرفته. فتح صندوقاً عتيقاً وأخرج من داخله، علبة قديمة، أدناها من صدره، وسكن بخشوع كأنه يتلو صلاة. رفعها وأدناها من فمه، وقبلها. توهجت المعادن العزيزة، وهو يتفقدها وساماً، وساماً، أشار إلى أحد أولاده فاقترب. دفع العلبة إليه.‏

    بعها.. لم أعد في حاجة إليها-‏

    صمتت العيون والوجوه والأفواه، وعندما أغلق الصبي الباب، تهاوى الرجل دون أن ينحني. ظلّ وجهه متجهاً إلى أعلى، لكنّ الجسد كان قد اختفى، خلف الأجساد والحركات، وصراخ المرأة الصفراء..‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()