بتـــــاريخ : 11/15/2008 8:47:42 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1421 0


    البحث عن أنثى

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جمال جنيد | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    هاهو الحظ يبتسم لي....‏

    يبدو لي كالقمر، كشربة ماء في صحراء، كابتسامة في بحر الدموع.. حظي هذه الليلة قمر بدر مكتمل، مسح ليالي الحرمان الطويلة المظلمة في حياتي.‏

    ليلة معجونة بسحر ابتسامة تلك الفتاة التي تقف في زاوية الملهى. يلفني الحياء والخجل..‏

    أنظر حولي، حتى لاتكون تلك الابتسامة لغيري، أشير إلى نفسي، فتبتسم أكثر.‏

    لحظة في مساحة العمر كله، تضعها تلك الأنثى الفالتة دائماً وأبداً صحراء حياتي..‏

    في الشركة التي أعمل فيه كاتباً في الديوان، أسجل الصادر والوارد، لم أسجل نظرة إعجاب من فتاة واحدة، رغم أنني أراهُن بالمئات. بل بالآلاف..‏

    أعود إلى البيت.. وأنظر في المرآة.. ما العيب فيَّ؟‍‍!.. بشرتي الخشنة من أثر الجدري، أم أنفي الكبير قليلاً،‏

    أم عيناي الغائرتان...‏

    أدير وجهي عن المرآة، ويقف التساؤل جافاً في حلقي..‏

    أبادل فتاة الملهى ابتسامة، أصوغها غاية في الرقة والنعومة والوله حتى لا تنفر مني مثل الأخريات. في العمل. أو في ملاهي المدينة، التي أدخلها بداية كل فصل بعد أن أجمع مبلغاً محترماً يؤهلني دخول بوابات علب الليل...‏

    نعم يا حسن..‏

    ها هي تبتسم لك..‏

    اقتنص هذه الفرصة، وإلا ستبقى شهوراً بل وسنوات، قبل أن تحظى بمثل هذا الاهتمام من فتاة على ظهر الأرض..‏

    لا أعرف مَن الذي اقترب من الآخر.. أنا أم هي!..‏

    نظرت إليها، نظرت إليَّ..‏

    للمرة الأولى في حياتي يقترب وجهي من وجه فتاة..‏

    صحيح أنها ليست الفتاة، التي كونها خيالي، لكن ابتسامتها ناعمة، وأسنانها بيضاء..‏

    -أنا حسن الحلو‍‌‍!.‏

    -وأنا سميرة.. يكفي اسمي الأول!.‏

    -تفضلي!.‏

    جلست قبالي على الطاولة..‏

    -نريد أن نخرج أنا.. وأنت!.‏

    قالت بدلال:‏

    -بقي على دوامي ساعة أو أقل قليلاً!..‏

    حين تحدثت إليها طرت فوق السحاب بجناحين من السعادة...‏

    أخيراً ابتسم الحظ يا حسن..‏

    ها هي أنثى حية، تنتظرها غرفتي..‏

    نسيت شكل وجهي وأنفي وعينيَّ..‏

    لست بشعاً، أنا شاب جميل، ولو لم أكن كذلك لما جلست معي..‏

    بدأت الحياة تدب في نفسي بعد أن تراكم عليها غبار الإهمال..‏

    كنت أشعر أنني ميت من الداخل، بارد وعقيم، مجرد حشرة تدب على الأرض...‏

    الآن..‏

    انتفض المارد داخلي، أنا رجل له كيانه، أطاول السحاب، وأرى الأشياء بمنظار جديد.‏

    لم تفارق عيناي ساعة يدي.. الساعة التي تفصلني عن مرافقة المرأة هي الدهر بأكمله..‏

    نصف ساعة..‏

    نصف ساعة إلا خمس دقائق..‏

    ثلث ساعة..‏

    عشر دقائق..‏

    لم أشعر بما حولي..‏

    توقفت أمامي، انتشلتني من بئر عميقة‍‍‍‍.‏

    -هيا بنا!..‏

    لم أدر كيف أمسكت يدها في ظلام الليل..‏

    جفف هواء الليل عرقي..‏

    حاولت أن أشير لسيارة أجرة..‏

    قالت:‏

    -دعنا نمشِ!.‏

    -المشوار بعيد!.‏

    -ليكن!.‏

    ذات مرة، واعدت إحدى المراجعات التي استجابت لضحكاتي، وبعد أن أنهيت لها معاملتها، صاعداً هابطاً عدة مرات خمسة طوابق، وهي تلف رجلاً على رجل في غرفتي. كان مكان الموعد آخر خط المهاجرين، ظللت هناك طوال الليل، يلسعني زمهرير يقص المسمار، ولم تأتِ، وحين عدت إلى غرفتي. نمت في الفراش أسبوعاً كاملاً، أعاني من نزلة برد شديدة.‏

    انتشلتني من أفكاري بسؤالها:‏

    -هل تسكن مع أهلك؟!.‏

    -أسكن وحدي.. غرفتي وحيدة مثلي!.‏

    لم أتصور أنني أتحدث إلى امرأة، أسير معها، تكون لي، تشعر برجولتي، حارقة في لحظات سنين الحرمان الطويلة. بنظرة، أولمسة يد، أو همسة تداعب سكون الليل.‏

    كانت فتاة سمراء، ذات فم كبير تقريباً، وأنف يميل إلى التفلطح، لكن جسدها شجرة نخيل عذراء.. كنت أريد سؤالها، عن سبب عملها، لكنني فرملت سؤالي، لأنها لو لم تكن كذلك لما التقيتها، ولأن البيت ذي الباب المنخفض أطلَّ عليَّ بوجهه الرمادي.‏

    سبقتها، فتحت باب غرفتي بهدوء. نظرت إلى الغرف المسكونة حول باحة الدار. كانت الأضواء مطفأة، فغمرتني سعادة سرت في أعصابي.. قلت لها بصوت خفيض:‏

    -ادخلي!.‏

    حين دخلت سمعت وجيب قلبي يعلو في سكون الليل..‏

    قبل ساعات خرجت وأنا على يقين أنن سأعود وحيداً. أرتمي على سريري غير المرتّب، وأنام حتى ينهق حمار جاري العربجي،‏

    بينما الآن..‏

    تقف أنثى أمامي بلحمها وشحمها، قرب السرير. وأنا على بُعد خطوات منها..أقترب منها، تمد يديها، وجهها أميرة أحلامي.‏

    وجسدها ينبوع حرماني، قبل أن تمس يداي يديها، أسمع طرقاً خفيفاً على بابي، تزداد قوة الطرقات، لابدَّ أن القادم يعرف وجودي من الضوء، فتحت الباب، أطل وجه جاري، دخل دون أن أدعوه..‏

    ودون أن أسأله. قال:‏

    -تقلبت في الفراش.. عبثاً.. جئت أتسّلى معك!.‏

    حين جلس رآها، نظر إليَّ بوجه متسائل، غمزتها..‏

    -هذه، أختي، جاءت من القرية تسجّل في الجامعة!..‏

    ابتسم ببلهٍ قائلاً:‏

    -أين (الشدَّه)؟!.‏

    أردت أن أصرخ في وجهه:‏

    -انهض.. عِفّ عني بقى!..‏

    لكن تعبيرات وجهي تؤيد أعماقي..‏

    -الشِلّة ستأتي بعد قليل.. قلت لهم.. تعال..‏

    اجلس إلى جانبي.. أختك ستصنع لنا الشاي!..‏

    توالوا واحداً إثر الآخر، اصطفوا في صدر الغرفة، نظرت إليهم كالضائع، ثم أخذ الدم يصعد إلى رأسي وهو يفور، أشارت إليَّ، خرجت، قالت:‏

    -سأذهب!.‏

    -بل هم الذين سيذهبون..‏

    -أرجوك!..‏

    تركتهم ينتظرون الشاي والورق. قلت لها:‏

    -هيا بنا !.‏

    -أين؟!.‏

    -إلى أي مكان!.‏

    أخذ الهواء البارد يلفح وجهي المصاب بالحمى... ثم بدأت قطرات المطر تلفُّ نفسي فتصنع جدولاً من مياه آسنة، نظرت إليها، كان وجهها متعباً.. تائهاً..‏

    -سأحملك!.‏

    فخذاها الطريان، أو قدا شعلة الحياة من جديد.‏

    وجرت مياه الجدول داخلي نقية صافية...‏

    الشوارع ممطرة وفارغة..‏

    وبداخلي تعجُّ آلاف الكلمات الغاضبة. بئر عميقة تحفر أخاديدها، تلتهمني الكلمات والأخاديد. فأصحوا على قواي تخور.‏

    أمام عينيَّ شخص يحدق في وجهي في الظلام، استمددت قوة لم أعرف مصدرها، ركضت بها،، وفي ركن بعيد، أنزلتها، ووقفت، وقلت:‏

    -أليس لك بيت؟!.‏

    -أسكن مع أمي المريضة وأخوتي.. في غرفة واحدة!..‏

    اختلط المطر بهواء صقيعي، أحسست أن المرأة عبء علي، بعد أن كنت أتصيد السبل كافة من أجل نظرة، ضحكة. لقاء...‏

    مر شريط في ذاكرتي...‏

    إلى أين أذهب؟!...‏

    لا يمكن أن أضيع الفرصة الأولى، وقد تكون الأخيرة في حياتي، مع امرأة.‏

    عشت في هذه المدينة، سنوات طويلة دون أصدقاء، الأصدقاء يحتاجون إلى المال، وأنا ليس لي غير راتبي الضئيل، وما أوفره فصلياً. من أجل ساعات، تنقضي سريعاً في إحدى علب الليل.‏

    هذا الليل الذي لا أعرفه سوى أربع مرات، في العام، ثلاثمائة وواحد وستون يوماً أنام بعد أن تغطس الشمس في الأفق بساعة أو ساعتين. وأحياناً ألعب الورق مع جيراني، دون أن أرى قطعة سماء صغيرة أو نجمة، أو إن كان القمر بدراً أو هلالاً.. ما أبشع الليل!..‏

    اللعنة على مطر المدينة..‏

    في قريتنا كان الناس ينتظرون المطر، يقيمون له صلاة الاستسقاء، أما هنا فالمطر مياه سوداء في الشوارع والأرصفة، وفي حفائر البلدية.‏

    استندت على جدار حديقة..‏

    خطرت لي فكرة..‏

    شددت سميرة من يدها الباردة.. لم يكن من صوت في الحديقة إلا الليل والأشجار وصوت المطر..‏

    دخلنا غرفة الحارس..‏

    هدأ وجيب قلبي..‏

    جسدان مبللان..‏

    أنفاسها الحارة القريبة أوقدت الدفء في أوصالي..‏

    مددت يديَّ لأضمها..‏

    كانت غرفة الحارس دافئة. حسبت أنه تركها وذهب لينام في بيته، في هذه الليلة المطيرة.‏

    حين اقتربت العينان.. انفتح الباب..‏

    فوجئ الحارس بنا، بهت صامتاً..‏

    ملصنا من تحت جسده، حين ابتعدنا عن الحديقة، انهالت لعناته بعد أن انحلت عقدة لسانه من هول الصدمة..‏

    وقفنا نلهث أمام بناية مهجورة..‏

    قالت سميرة:‏

    -خذ نقودك.. دعني أعد إلى بيتي!.‏

    -هذه البناية مهجورة.. تعالي!..‏

    -والبرد!..‏

    شددتها من يدها..‏

    حين هممنا بالدخول، برز لنا كلب، كأن الأرض انشقت عنه، نبح وهمر بعد أن تفاجأ، واستعد للوثوب، ولم ندر كيف قطعنا الشارع وأختبأنا خلف إحدى الجدران...‏

    للحقيقة...‏

    لم أعد أشعر بشيء تجاه المرأة التي كنت أمني النفس بها وكأنها نهر من عسل..‏

    أمسكتها من يدها..‏

    -تعالي!..‏

    قالت بمرارة وتعب:‏

    -إلى أين؟!..‏

    -سأوصلك إلى بيتك!..‏

    حين غيَّبها باب بيتها، غابت أحلام الفصول الأربعة، ازداد المطر انهماراً..‏

    ركضت مبللاً بالعرق والماء البارد..‏

    لا لأبحث عن أنثى هذه المرة، بل لأبحث عن نفسي من جديد..‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()