بتـــــاريخ : 11/15/2008 8:22:21 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 511 0


    تـمــــرُّد

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : حـنـان درويـــش | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    تـمــــرُّد حـنـان درويـــش

    ذات صباح غريب، وفي ذمّة يوم مختلف كلّ الاختلاف عمّا سبقه من الأيّام، طرأ على عالم الحمار طاريء لم يحسب له أيّ حسّاب... فقد نظّف أبو صطّوف وجه حماره، وجسمه، وقوائمه، ووضع فوق ظهره بردعة جديدة، واستبدل حبله بحبل آخر، وأحاط رقبته بطوق من أعواد الريحان المتضافرة. وزيّن الطوق بوردة. سارع أبو صطّوف الخطا، فسارع الحمار وراءه. تمهّل قبل القفز فوق الساقية، فتمهّل معه، تريّث في ظلّ شجرة الجوز العتيقة يدرج لفافة تبغ.. فتريث أيضاً.‏

    " إلى أين يقودني أبو صطّوف؟!!.."‏

    تساءل الحمار متوجّساً، ثمّ تابع وهو يحرّك رأسه نحو اليمين ونحو اليسار.. يقدّم أذناً، ويحرّك أخرى " لابدّ أنّه يسير بي إلى سوق الخميس ليبيعني !".‏

    عند دكان واسعة وسط المدينة كان مستقرُّ المطاف.‏

    تبادلت الحمير الموجودة هناك إشارات معيّنة، وعبارات ذات مدلول. نظراتها التي التقت صمتت عاجزة عن التعبير، وحالة الجمود التي سربلتها لم تتكهّن بشيء...‏

    لكنّها، وكيفما اتفق، تحايلت على الإشكال، بالإذعان والطواعية، كما اعتادت حيال كلّ أمر.. إذ عرف بعضهم، وممّن يزورون الدكّان لأوّل مرّة، أنّ المكان يخصّهم، وعرفوا سبب الزيارة المفاجئة لرجل يلقّب بالبيطار.‏

    أحضر الرجل مستلزمات العمل بدربة الصانع المتمرّس ماسكاً مطرقة صقيلة، شكلها ينبئ عن قوة تـأثيرها.‏

    نادى بصوت خشن ممزوج بحشرجة تقتضيها المهنة:‏

    - أعطني علبة المسامير ياولد..‏

    ولأوّل مرّة، يشاهد الحمار وهو يخرج عن الطور، ويتجاوز حدود المألوف. بينما أكبر المسامير حجماً ينفذ إلى قائمته اليمنى، مارّاً بثقب مستدير في الحدوة المثبّتة فوق الحافر الذي غدا أملس بفعل معالجة أوليّة من آلة حادّة. تشنجّت أذناه. تصلّب ذيله. انبسطت الأرض به، ثمّ ضاقت، ثمّ زلزلت. رفس ونهق بآن، متسائلاً عن معنى أن يكون له حذاء تشبّهاً بالمخلوقات التي تسير على اثنتين، محتكماً إلى عدالة الطبيعة في هذا الموضوع. نهيقه النشاز أجفل زملاءه الذين ينتظرون دورهم للدخول.. تشتّتوا، تفرّقوا، أخذوا يعدون، وينهبون أرض الشارع نهباً، كأنّ الطير ابت أن تستقر فوق رؤوسهم، أو كأنّ جنون البقر قد بدأ ينتقل إليهم بالتناوب.‏

    ساد الصمت في المدينة كما لم تصمت مدينة من قبل...‏

    هدأت الأصوات. جمدت الخطوات الهادرة. غرق المكان كلّه في مهابة واحتباس أنفاس، انتظاراً لاحتجاج أكثر إفصاحاً.‏

    - اصبر.. اصبر، فقد عهدتك من الصابرين..‏

    ومن قلب المعارضة، واتّساع مساحة الدهشة، ومع تلاحق دخول بقيّة المسامير، في بقيّة الثقوب، انتقل الوضع من حال شديد، إلى حال أكثر شدّة، دون أن يكون لكلمات أبي صطّوف أيّ تاثير يذكر...‏

    فقد حلّق في جوّ المكان شبح حمار راح يحارب بقوائمه الهواء بين إقبال وإدبار.. يرفع راسه ويخفضه كمن يؤدّي حركات بهلوانيّة مثيرة..‏

    هكذا رآه الواقفون ضمن معمعة الغبار المتصاعدة، مائجاً كبحر.. هائجاً كبركان.. متوتّراً كحالة عصيّة على الحل... يناور حيناً، يهادن حيناً، يقفز فوق العضلات القويّة المتكاتفة في أكثر الأحايين.‏

    تألم الحمار وتأزّم.. نظر بعينين حزينتين وهو يعود برفقة أبي صطّوف من حيث أتى.‏

    كلُّ الأمور التي حدثت لم تكن متوقّعة.. فقد وردت أمامه خطفاً مثل حلم لم يوقظه منه سوى صوت الحوافر الحديديّة ترنُّ على أرض الشارع كإيقاعات رتيبة جنائزيّة.‏

    حين سأل نفسه:‏

    " لماذا الآن... وبعد هذا العمر..؟"‏

    لم يسمعه أحد..‏

    لكنّ التصرّفات التي بدرت منه بعد ذلك، تجاوزت حدود الأسئلة والكلمات، إلى فعل له ديمومة التمردّ المستمر

    كلمات مفتاحية  :
    تـمــــرُّد حـنـان درويـــش

    تعليقات الزوار ()