بتـــــاريخ : 11/15/2008 8:13:17 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1388 1


    رسائل الست سامية

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد أبو خضور | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    ارتمت الست سامية على السرير منهكة من التعب، كان كل جزء من جسمها يؤلمها وكأنها ركضت من أقصى المعمورة.‏

    هي تدرك في قرارة نفسها، أنهم أنقذوها في اللحظة الأخيرة قبل أن تموت دعساً بين أرجل المشيعين المتزاحمين.‏

    تقلبت في السرير وشعرت أن آلامها تزداد وأن الإرهاق قد نال منها حتى الروح، كانت جروحها الداخلية أشد وطأة وثقلاً عليها.‏

    أحست بطعم المرارة يزداد في حلقها. ورغم أنها احتلت موقعاً متقدماً من الرصيف إلا أنها فوجئت بعشرات الأيدي تدفعها بعيداً عن الموكب. وعندما حاولت أن تحافظ على موقعها جاءتها موجة بشرية قوية أطاحت بها. تشبثت في بادىء الأمر بأطراف ثياب أقرب الناس إليها ولكنها سقطت أخيراً بين الأقدام على إسفلت الشارع وموكب الجنازة يعبر أمامها. وبقدرة قادر وجدت نفسها تقف على قدميها وسط زحام لم تشهد له مثيلاً طول عمرها. عندما دخلت في الجموع الغاطسة في دموعها وذهولها، والأسى القابض على أرواحها، كانت القرى والمدن تنكسر على خبر يشيع، يقهر الخبر الست سامية، موت على غياب، تهتز الجسور وتترنح تحت هدير بحر البشر، تنفتح النوافذ وتطل النساء والصبايا باكيات، ويتوقف الأولاد في الحارات عن لعبهم وينحدر الحزن في الشوارع جليلاً.‏

    وفي المساء يطل الأب من على شاشة "التلفزيون" بجبهته العريضة وعيناه الجميلتان وهو يرفع يديه من الطائرة تحية للناس، وجه متوهج بالتسامح، عيناه تدوران في الجموع المودعة، عينان تشعان بوميض الأسى لفقدان الولد.‏

    ظلت الست سامية تحدّق إلى الوجه، تتفرس فيه، تذهب إلى معالمه متعجبة كيف يكون التغير؟ رأت مسحة سحرية (رغم زجاج الطائرة وشاشة التلفزيون) احتفظ بها الوجه لم تقو على محوها وقائع الفجيعة. كبر الأب في يوم واحد سبع سنوات. كانت تود لو استطاعت الوصول إلى سيارة رئيس الجمهورية لتسلمه رسالتها، هي على قناعة أنها أوشكت أن تلمس نافذة السيارة، ولكنها فوجئت بعشرات الأيدي تدفعها بغلظة بعيداً عن السيارة، وعندما حاولت التقدم نالتها لطمات شديدة أوقعتها أرضاً.‏

    دخلت في نوبة بكاء صامت وجارح وثقل السنوات السبعين المتكئة على كتفيها يترافق مع هاجس، لا تدري من أين نبع، ينفث نبوءته السوداء:‏

    "لم يبق إلا الأسى والموت".‏

    ظلت صورة ابنها خيالاً تلوكه ذاكرتها التي تتخندق في مساحات الذكرى.‏

    لم تتوقف الست سامية عن إرسال الرسائل لرئيس الجمهورية، وظلت رغم عدم تسلمها أي جواب تدرك في قرارة نفسها أن العلاقة بينها وبين رئيس الجمهورية لا يشوبها شيء.. بل أكثر من ذلك، كانت تؤمن أن الرئيس لو عرف بما جرى لها لكان قد أنصفها، فهو يفهم، وهو إنسان كبير، أنها وهي المرأة الضعيفة التي فقدت الزوج ومن بعده الولد لا يمكن أن تقصد إيقاع أي أذى به.‏

    في رسالة سابقة بعثت بها إليه، داخلها إحساس أنه هو سندها الوحيد والحقيقي في الدنيا. ومن ذلك اليقين كتبت إليه بصراحة، وقالت له كل الكلام الذي حبسته طويلاً في صدرها.. حكت له عن اعتقال ابنها المهندس، وعن حجز بيتها الوحيد" قالت له إنها لا تعرف في السياسة، وأن ابنها الذي ربّته كما يقولون "كل شبر بنذر" صار مهندساً، وكانت تخطط لزواجه، جاء رجال واعتقلوه وذهب، راح ولم يعد حتى الآن! وقالت له إنها تعاني قسوة الحياة ومرارتها، وحكت له عن الغلاء، عن ارتفاع سعر الزيت واللحم الذي نادراً ما تطاله، وحكت له عن برد الشتاء!‏

    لا أحد يعرف بماذا تفكر، وكثيراً ما حاولت تعزية نفسها بالقول "مدي لسانك لهذه الحياة المغلولة بالقهر" ولكنها سرعان ما تتراجع أمام ذلك الخاطر (استمري في اللعبة) وتظل على صمتها مكابرة.‏

    وكانت ريم ابنة الجيران تضطر إلى الشطب والإعادة والست سامية تملي عليها الرسائل، حتى تستقيم الجملة، فقد كانت حريصة على أن تكون ذكية في عرض مطالبها.‏

    ذات رسالة قالت لها "ريم":‏

    - "خالتي سامية! ما رأيك بهذه المقاطع:‏

    (سيدي الرئيس أريد شيئاً واحداً، أن أحتسي فنجان قهوتي الصباحية على شرفة منزلي الذي شهد عرسي.‏

    سيدي الرئيس! إن الطيور تعود إلى أعشاشها مساء، وأنا في وطن أنت رئيسه ولا بيت لي! فهل من لا بيت له له وطن؟‏

    سيدي الرئيس، أريد قبل أن أموت أن أنام في بيتي، أما عن ابني فأقول لك إن ابني لا يجرؤ على ذبح حمامةً).‏

    كانت ريم ابنة الجيران تستمتع بالكتابة، لأنها ربما اكتشفت من خلال كتابة تلك الرسائل أنها تستطيع أن تقول كلاماً جميلاً. ومرة من المرات حاولت ريم إضافة أبيات من الشعر إلى الرسالة، لكن الست سامية رفضت قائلة: الشعر يناسب احتفالات الكلام ونحن الآن نكتب رسالة استرحام.‏

    تقلبت الست سامية على السرير، والليل يتحول إلى خنجر حاد، وهي تتصفح كتاب المرايا القديم، وتنهال عليها الذكريات والصور، أحست بأسى غامر يتحدر من غابة القلب، وعندما بدا لها خيال الرئيس غمغمت متأوهة "آه يا سيدي، أرجوك! قل لي كيف جاء كل هذا الأسى؟"‏

    لم تكن تدرك أنها تحلم، سألته:‏

    - كيف حالك يا سيدي؟‏

    - انتظري! لابد أن أقابلك، قال.‏

    ومرر يده على شعرها الأبيض.‏

    -2-‏

    سحبت الست سامية قدميها إلى خارج الغرفة متفلتة من رائحة الدواء. وعندما صارت في الخارج. تطلعت حواليها ولم يكن للمدينة لون، ظلت سائرة، ساهمة، تحدق إلى وجوه الناس وتراقب الرجال والنساء، وحركة السير، يتأبط بعض الرجال أزرع النساء. الفضاء مكفهر وبائعو اليانصيب يعرضون ما بأيديهم بصراخ حاد:‏

    - السحب بعد يومين، ثلاثة ملايين ليرة سورية.‏

    كان بعضهم يمد كلمة ملايين فتتخرج ملاييـــيـ ن، طويلة ممطوطة تصدم آذان المارة الذين يتوقف بعضهم لاختيار رقم، تحس الست سامية بالتعب ولكنها تقرر عدم العودة إلى بيت أخيها، تشعر أن ثمة شيئاً يضغط على صدرها. كانت حياتها في السابق تستغرقها، كانت لها مباهج حياة جميلة ولم يكن الملل والرتابة يتسربان إلى حياتها.‏

    بدأت تشعر بخطل آراء زوجة أخيها، عندما أخذت هذه الأخيرة تسّفه اهتمامها بضرورة مقابلة المسؤولين، ظنتها في البداية تخشى عليها من الاحباط، لكنها أخذت في الفترة الأخيرة تتحدث عن ضرورة النسيان. نسيان القضية برمتها.‏

    تساءلت الست سامية: هل من المعقول أن أنسى حتى ومضات حياتي الأولى؟‏

    أحست بريقها جافاً وأن لجسدها ثقلاً جديداً، فقد وضح الواقع المر أمامها وفتح أمامها باب الاحتمالات الممكنة. لهذه المأساة العجيبة التي تعيش لحظاتها.‏

    همست لنفسها اصبري! فلن ينبثق من حزنك وقلبك إلا الموقف الصحيح، ولكنها كانت تدرك أن الإنسان في الحكاية يرتشف دائماً حقيقة الوهم وأن ما تعانيه هو مرارة الواقع.‏

    -3-‏

    بعد أيام قليلة كانت الست سامية في طريقها إلى مكتبة الحارة لتسأل إن كان قد وصلها رد من السيد الرئيس، لأنها كانت تكتب عنوانها، عنوان المكتبة.‏

    وهي داخل المكتبة اندفع الصبي "عزو" العامل في المكتبة ولونه أصفر كالليمون، اندفع داخل المكتبة كالملموس يدب النبأ وهو يبكي:‏

    - "مات ابن الرئيس يا ناس!".‏

    انتبهت الست سامية لحديث "عزو" الذي كان يهتز من هيجان مشاعره التي انطلقت من عقالها. فجأة أمعنت الفكر قبل أن تتحرك، بدت وكأنها تدرس الكلمات قبل التفوه بها.‏

    ولكن "عزو" وصمت الآخرين الذين أخذتهم المفاجأة دفعها إلى الأمام.‏

    ساعتها لم تشعر الست سامية إلا وهي تقبض بيدها كتف "عزو" وقد تفجر غضب هائل في داخلها وتقول له:‏

    - "اسكت! الله يقطع لسانك. اسم النبي حارسه وحاميه"!.‏

    وعندما عادت الست سامية إلى بيت أخيها في الحارة كانت منكسرة من الداخل، كان داخلها مشروخاً، وكانت نظرات أهل أهالي الحارة كلها تنطق بالحقيقة المرة التي رفضت الست سامية تصديقها في بادىء الأمر رغم كل الدموع التي سالت على الوجوه. وللحظة عرفت حقيقة ما حدث، وما عاد للكلام من حاجة، لم تقل كلمة واحدة، تابعت المشي وانفتح لها الشارع الرابض تحت الحزن والأسى وهي تسكن إلى صمت جارح، ومن خلفها الناس والسيارات تنهب الشارع دون تزمير، والوجوه متعرقة تعبة، كانت تحس بأنفاسها ثقيلة وأن حلقها جاف، مر، وشعرت بذاتها مستباحة وكأنها كبرت عشر سنوات دفعة واحدة، وأحست به وكأنه ابنها الثاني.‏

    وظلت الست سامية لأسابيع تبكي وتقول:‏

    - يا خسارة شبابك يا عيني. الله يصبر أمك. أنا أم وأعرف كسر قلب الأم".‏

    كانت تبكي بصمت، وكان يجول في داخلها هاجس أنها تبكي ابنها الوحيد وابن الرجل الذي منعوها من أن تقابله.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()