بتـــــاريخ : 11/15/2008 8:07:13 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1109 1


    الـمـوت

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد أبو خضور | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    أنا أذكر الألوان، أذكر أن جميع الألوان كانت رصاصية، تطلعت إلى الجدران، جدران "البرندا" الواسعة، وفتحات السقف المتساوية الأبعاد، وأشعة الشمس تتساقط من الفتحات، والنافذة الزجاجية العريضة المطلة على "البرندا" والتي تكشف وراءها عن خزانة للآنية الزجاجية تعلوها لوحة زيتية لفتاة تحمل جرة على كتفها وترتدي ثياباً شفافة وخماراً.‏

    وأنا أقف بانتظار أن يطل "قاسم" رأيتها فجأة، كانت تقف خلف زجاج النافذة، فتاة سبحان الخالق لجمالها الحزين ووجهها الخالي من أية زينة، كانت تشير بيدها إليّ، اقتربتُ وفكرت أنني أود الدخول من الباب الذي ينفتح على "البرندا" فسارعت وفتحت درفة النافذة الخشبية وقالت بصوت عذب:‏

    - حنفية الماء في الزاوية والنربيش خلف براميل المازوت!‏

    انظر إلى عينيها، فأرى شيئاً كأنه بوادر ربيع، إنها لحظات لا أنساها، عينان من المستحيل أن أنساهما، كدت أقول لها أن عينيها جميلتان، ساحرتان، ولكنني تراجعت في اللحظة الأخيرة، صدني حزنها الوقور.‏

    جاء "قاسم" كان مسرعاً ويحمل في يده كيساً فيه بعض الأغراض، ظللت واقفاً، قاس "البرندا" بعينيه ثم مشى خطوتين ووضع الكيس على بلاط البرندا، ثم عاد ووقف بجانبي قرب الطاولة الخشبية الكبيرة.‏

    قال:‏

    "سنغسّله هنا"‏

    لم ألتفت إليه.‏

    تابع حديثه وهو يشير بيده إلى الداخل، إلى الميت الذي يرقد داخل البيت:‏

    - "لقد تألم كثيراً أثناء مرضه، هكذا سمعت، لقد استراح".‏

    لم أجب، كنت أتحاشاه، سمعت أصوات نشيج وبكاء تصل من الداخل، بدت لي عيناها الملونتان كنجمتين تلوحان من بعيد، يخرج من الداخل رجل كهل، في الستين من العمر كما قدّرت من خلال التجاعيد تحت عينيه وعلى جانبي فمه، يقترب، تلعب أصابعه بمسبحة، حباتها من نوى الزيتون، يمشي بهدوء، الكهل يقترب ثم يلقي السلام علينا أنا وقاسم.‏

    يرد قاسم.‏

    - سلامات يا حاج! البقية في حياتكم!‏

    - وحياتك الباقية.‏

    يمسح الكهل وجهه بيده، بعد لحظات قليلة، وكأنه قد أنهى قراءة الفاتحة على روح الميت الذي يرقد في الداخل.‏

    يبادره قاسم بالطلب:‏

    - يا حاج، بلا مؤاخذة. نحن بحاجة إلى شرشف وماء ساخن.‏

    - تكرم، كل حاجة ستكون جاهزة، ولكننا ننتظر وصول بعض الأهل.‏

    يتابع قاسم وكأنه قد تذكر أشياء أخرى:‏

    - والصابون والليفة والقطن.‏

    - مفهوم! مفهوم!‏

    يؤكد الكهل ثم يمضي إلى داخل البيت.‏

    يطلب قاسم مني جلب نربيش الماء وربطه بحنفية الماء من أجل تعديل حرارة الماء، أتحرك ببطء فأنا لا يهمني أمر ذلك الرجل الميت.‏

    منذ اللحظة الأولى كرهته، عندما قال لي قاسم صباح ذلك اليوم:‏

    -"لدينا غسيل اليوم"!‏

    كنت أتابع "شادية" في أغنيتها الجميلة "اتعودت عليك".‏

    ينشغل قاسم في تجهيز الأربطة القماشية وتفقد كيس الحناء الصغير، اقترب من النافذة التي ظلت مفتوحة، أسمع أصواتاً نسائية، أميّز من بينها صوتاً له نبرة مبحوحة:‏

    - "مسكين! يامسكين! قللي اعمليلي صحن فتوش قلتللو بس أنت مريض، والفتوش ثقيل على معدة مثل معدتك، ما بعرف كيف قبلت، يمكن ما كان لازم أسمع منه، أكل ثلاث أربع لقم وقام قللي أنا رايح على تختي بدي أنام، وما بدي حدا يزعجني"!‏

    جلبت (دنيا) كرسياً من الخيزران، وضعته عند قائمتي السرير الذي ترقد عليه جثة زوجها، الألم يعتصر قلبها، كانت تشعر وكأن لهيباً من النار يحرق صدرها. قامت وتناولت زجاجة الكولونيا ورشت وجه الميت الراقد، تطلعت إليه، إنه رجل فقط رجل، ليس زوجها الآن، وليس عشيقها، وليس أي شيء آخر، رجل ميت، وحيد، تقدمت به السن، رجل حنون، (أحست به (دنيا) خشناً صلباً في البداية، ثم بعد ذلك رقيقاً حنوناً، عندما وضع يده على عنقها الأبيض الدافىء ارتعشت، فانحنى وقبلها على فمها، لم تقاوم، فكت أزرار قميصها، وتركت تنورتها تسقط على الأرض وتمددت على السرير، أخذها بين ذراعيه برفق فأغلقت عينيها).‏

    فكرت في زوجها الميت، بعناقهما فيما مضى، كان لها، امتزج بها وامتزجت به، وأصبحا فيما بعد كلاً واحداً. أجمل لحظات حياتها كانت حين تراه يتحدث عن الحر في الكويت عندما عمل في ربط الحديد، أو عن وصفه لشاطىء البحر في بيروت والسابحات والسابحين، وعن أفواج الدجاج المولدة في مزرعة المعلم طوني، كان حماسه وسرده للتفاصيل الكثيرة يمنحها بهجة العيش ويغمرها بفرح كبير، كل شيء كان يدور بينها وبينه كما لو كان بسحر ساحر، ويضحك كثيراً وهو يروي كيف رافق (دنيا) من ساحة الشهداء إلى شارع فوش ثم ركبا سيارة سرفيس إلى الروشة، وكيف كانت مشدوهة وهي تعبر شارع الحمراء وتتطلع إلى التماثيل النسائية في الفترينات الزجاجية، كان يكفي أن ينظر إليها حتى تعرف ما يريد، الأمر الذي كان يجعلها موضع إطراء، تعلمت منه الثقة بالنفس.‏

    يأمره "قاسم".‏

    - "صب الماء!".‏

    ويصب الماء، ويتصاعد البخار. كان الماء ساخناً ويدا "قاسم" تجوسان الجسد المسجى على الطاولة الخشبية، يفرك الذراعين بالليفة، ثم يسوي الشرشف. ويمد يده بالليفة والصابون، يدعك الصدر، ثم البطن.‏

    يناول "قاسم" الماء، يدلقه ساخناً، يتصاعد البخار.‏

    شم رائحة البخار، كان البخار يحمل إليه ميزة خاصة. ميزة يحبها ويعشقها، بخار يحمل رائحة النسوة اللاتي كانت خالته تعالجهن، كانت لهن روائح عطر وعرق، كان صغيراً وكانت خالته تمس بأصابعها أثداء النساء، أثداء مشدودة، وأثداء مترهلة، وكانت عندما تتزحلق أصابعها إلى أسفل الصرة، بعضهن يقرقرن بالضحك، وبعضهن يشحن خجلاً.‏

    ذات مرة أخذته واحدة منهن في حضنها، كان طرياً وضخماً، احتضنته تلك المرأة وشم رائحتها ثم رائحة العطر والصابون.‏

    يأمره قاسم:‏

    " صب الماء وأزح الصابون"‍‏

    ويصب الماء يتصاعد البخار يواصل قاسم عملية الغسيل ، يطلب منه صب الماء على الكتفين ينظر إليه " قاسم" وسط الصمت شبه المطلق إلا من صوت قطرات الماء المتساقطة ، وصوت حبات مسبحة الكهل الواقف على مقربة منهما. ينظر إلى بلاط البرندا فيرى فقاعات الصابون تنساب ثم تتجمع قبل ان تغوص في البالوعة .‏

    لايعرف كيف اقتحمت ذاكرته الآن ، كان يافعاً ويجلب لهم الخبز من المحطة عندما مسك بمقبض باب الغرفة ، جاءه صوتها، لا !‍ أرجوك لاتدخل، يتراجع قليلاً إلى الوراء ، ثم يتقدم ويفتح الباب ، تقف عارية ، الصابون يغطيها، يتقدم، تدير ظهرها ، يده على ظهرها، يده في الصابون، تدفعه بعنف وتلتقط منشفة ويخرج ولايعود .‏

    يبدأ قاسم تجفيف الجسد من بقايا قطرات الماء، يفرد قاسم ذراع الميت، يرى ماهر الوشم الأزرق . قلب كبير يخترقه سهم " كيوبيد" سهم الحب، وتحت وشم القلب وشم لوجه امرأة ملائكية الملامح واسم موشوم: "دنيا".‏

    تطلع قاسم إليه، ثم غمزه وفرد الشرشف، رفعه إلى أعلى، تحت الذقن قليلاً، في الوقت الذي تقدم فيه الكهل وهو يحمل قماش الكفن الأبيض..‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()