في كل صباح ومساء يسترجع طريق وحدته في مفازات الشوك، من بداية التراشق بالكلام إلى مواقع التراشق بالدم عاش أحداث عمره، وعندما يتوسد صدر الليل ينادي الموت الذي يتدلى كسجادة فينام عليها بين رعشة الروح وسهو الذاكرة، ويزوره ذلك الطفل الذي كانه، تحمله أحلامه إلى ذوات خلاخيل يتضاحكن عندما يطلع لهن زهرته، ثم يرتد به الواقع، طعنة في الجبين ورمل في القلب، في مدينة تحاصره بالضجيج والمدافن وفنادق خمسة نجوم والمتسولين.
يمد يده للصباح البعيد، للمساء القريب فلا تقبض أصابعه إلا على أوراق نعي الأحبة الذين يتساقطون كأوراق الياسمين وأجنحة الفراشات، يتطلع إلى راحتي يديه فلا يقبض إلا على وجع راهن وأمل مخادع.
- معك مصاري؟
- معي ولكنني لن أعطيك!
- لماذا يا ابن الحلال؟
- "خايف تروح تشرب بها"!
أبصره قريباً جداً، ملاصقاً له، بضعة بثور متركزة على الخدين، وأسنان صغيرة غير منتظمة، رأس مدور، شعر أشيب وشاربان خارجان من صبغة سيئة، وأصابع يده تعبث بشامة استراحت على جانب فمه، وعندما تحرك مبتعداً عنه لاحظ طوله.
صاح به، وموجة من الأسى تمور في داخله:
- أتظن أنك ستنجح في كسب ثقة الآخرين، بعد تسلفك الكثير منهم دون إيفاء؟
توقف وتطلع إليه، بعد أن استدار بكامل جسده.
- سأوفي ديوني. أنت لا تعرف كم أنا عنيد!
- ما جدوى عنادك؟ أنت كسول! يأتيك العمل فترفضه، أدوار عديدة عرضت عليك فرفضتها!
- لا تخف عليّ لديّ من الثقة، ما يؤجل غيابي.
- أنت تخرّف.
- أنا أخرّف؟ يا سيدي بطّلت أستدين منك.
وهو ينفلت من باب المسرح، كاد أن يصطدم به، بدا عصبياً، كان يلعب بقلم حبر، تسمرا في مكانيهما، بهتا، ودون كلام تطلعا، كل إلى وجه الآخر. وانداحت موجة حنان من غابة القلب.
سأله:
- ما أخبارك؟
أجاب وهو يشير بإصبعه إلى صدغه:
- الصداع.. سأفكر في البحث عن عمل آخر، أي عمل رغم أنني مهدم من الداخل، وأعاني من حزن يقرضني كالعث.
وجد نفسه يتأبط ذراعه ثم يجره إلى داخل المسرح. كانت يده المرتجفة تحمل سيكارته إلى فمه بعجل، وبعد أن استراحا على كرسيين داخل الكواليس أخذته نوبة سعال حادة. حاول أن يضفي جواً من المرح قال له:
- إنك تفكر في الأيام القادمة بحرارة أكثر من تفكيرك في أيامك الحاضرة.
- لا. إن سر استمراري في الحياة أن الأزمنة غير ملغاة بالنسبة لي.. وقد يكون ذلك سبب تعبي.
أطفأ لا مبالاته وهو يحدق إلى وجهه، رأى طيور الهزيع الأخير ترفرف فوق وجهه، وآثار السنوات حول فمه المترهل وانطفاء حقول الضحك في عينيه، فتح باب الذاكرة الموجع. كان وجهه انضر من الماء وعيناه واسعتان صافيتان كالسماء.
مرات كثيرة يشعر الإنسان أنه محاصر، وأنه ينهار ببطء، وينتابه إحساس عميق بالهوان حيث تذروه رياح اغتراب الروح.
سأله فجأة:
- لم أعد أراك في التلفزيون؟
-عرضوا عليّ دور "كومبارس" فرفضت!
- ولكنك لا تعمل منذ سنة!
قال بانكسار:
- لن أعمل "كومبارس" أريد دوراً أجد ذاتي به، أريد شخصية أستطيع أن "ألعبها" .
تذكر أنه يستطيع إقراضه خمسمائة ليرة سورية، ولكنه آثر أن يختار اللحظة المناسبة، وعندما قام يريد الانصراف قام معه، مشى معه خطوتين، أربع خطوات، سبع خطوات ثم مد يده إلى جيب بنطاله واستل الورقة النقدية ثم دسها في جيبه، توقف، مد يده في جيبه ثم وبسرعة فائقة أعاد له الورقة النقدية، وطيور المفاجأة تحط فوق رأسه. ارتعش جسده وهو يحاول إعطاءه ثانية الورقة النقدية غير أنه رفض بحزن وهو يقول له:
- لا تذهب بعيداً أيها الشاب، فالمخرّف ما زالت لديه ساعدان تقويان على السباحة.
صارا خارج المسرح، وعندما مضى من أمامه خيل إليه أنه لمح عينيه مغرورقتين بالدموع، فأحس أن السماء تكاد تسقط عليه وعندما تطلع إلى أعمدة المصابيح في الشارع الطويل بدت له نحيلة، صامتة متجاورة وسط شمس الظهيرة.
لم يتبادلا كلمة واحدة طوال الطريق، وعندما توقفت السيارة أمام مبنى التلفزيون نزلا صامتين، كانت الأصوات تصله من كل جهة، أصوات السيارات العائدة ليلاً بالمتنزهين، وكانت أعمدة المصابيح الكثيرة تشع بالضياء وتكاد تقلب عتمة الليل إلى نهار بهي.
لسعته برودة الليل الخفيفة فارتعش جسده قليلاً، مضى معه، كان يحس أنه يسير على جثته.
داخل المبنى وفي مكتب المخرج قال بصوت واثق:
- مساء الخير أستاذ علاء.
وأشار بيده نحوي وقال:
- هذا هو!
نظر إليّ الأستاذ علاء، المخرج، ثم كمن يتذكر شيئاً قال:
- آه.. آه.. الدور.. تذكرت.
ثم التفت إلى شاب وقال له:
- سجّل اسمه! دور الجندي الحارس.
التفت إلينا وهو يمد ذراعه الأيمن على طوله بوهن ورخاوة، ثم استراحت يده على طرف المنضدة الكبيرة ثم التقط علبة سجائره والولاعة أمامه وسألنا فجأة.
- ماذا تشربان؟.. قهوة؟
- قهوة. أكد صديقي.
لا أعرف من أين تسللت إلى أعماقي سكينة طارئة، جاءت دون ممانعة.
أنظر في الوجوه التي ليست معي وتنهض أمامي جبال من الحيرة الغارقة بالترقب. أحس بتيار الهواء المندفع، رقيقاً وناعماً من مصراعي النافذة المفتوحين تعلوهما طبقة من نور فضي تكسو خشبهما المتشقق.
أتطلع إلى الجدار وأحدق بالصورة المعلقة ، الوجوه النسائية الثلاثة، شعورهن مغطاة بالمناديل، ووجوههن المستديرة الطافحة بالحياة يغشاها الخمار الشفاف بدءاً من أرنبة الأنف نزولاً حتى منتصف صدورهن القوية المتماسكة، وتبدو الشفاه من وراء الغلالة الفاضحة أكثر دسامة وامتلاء بحمرتها الضاربة إلى البرتقالي والعيون المكحولة السوداء تحت الحواجب المرسومة بأناقة وأناة. الملاءات السود واضحة الخفة والنعومة تنسدل بعفوية مقصودة، وتلف استدارة الأكتاف الممتلئة وتكشف في الآن ذاته سمرة خفيفة في الذراع البض السمين الهابط نحو الركبة المتقدمة، وفي نهايته انزلقت مجموعة أساور ذهبية وفي رأس اللوحة نحو الجهة اليمنى تبدو مئذنتا المسجد بقبابه الثلاثة أعلى التلة، وبائع العرق سوس والفلاحة حاملة الجرة فوق رأسها بمؤخرتها الصلبة وقد تدلت عليها جديلتان ثقيلتان من شعر رأسها فحمّي اللون، والصعيدي باللاسة الحريرية على كتفه وابنه بجلبابه الأبيض فوق ظهر حماره الذاهب نحو زاوية اللوحة اليسرى، وفوقهما على مبعدة المرأة وقد منحت جانبها الأيمن إلى الشارع وقد اتكأت بمرفقها على خشب افريز الشرفة في الطابق الثاني، تتملى منظر حياة السوق والنهر والقوارب والأشياء في البعيد.
ظللت أنتظر دوري في التسجيل، كان دوري في السهرة التلفزيونية هو دور جندي حارس من حرس أمير وفي مشهد يتناول فيه الأمير العشاء مع وفد من الصليبيين، وأثناء العشاء أدخل أنا الجندي الحارس صائحاً "مولاي الأمير، مولاي الأمير".
فيلتفت إليّ الأمير منزعجاً ثم يصرخ:
- ماذا؟
- الشعب يحيط بالقصر. أقول.
- ماذا يريدون؟ يسألني؟
- إنهم يرفضون الصلح مع الصليبيين ويصرّون على طردهم من أراضينا!
- ليذهبوا إلى الجحيم!
وعندما أتردد يصرخ الأمير في وجهي "اغرب عن وجهي أيها الكلب".
فأخرج على الفور. كان هذا هو دوري الجديد، فكرت كثيراً في طريقة تجسيد شخصية ذلك الجندي الحارس لدى الأمير. هل أنقل مضمون الحوار بلهجة المؤيد أم بلهجة المعارض للصلح مع العدو؟ درست كل التفاصيل، وأعدت الحوار مرات عديدة أمام المرآة، وكنت أعزّي نفسي بالقول ما دامت الفرصة لم تسنح لك بدور رئيسي فلماذا لا تُكسب حياة لهذا الدور القصير؟".
كنت أستحضر في الخيال منظري وأنا أدخل على الأمير، أضيف حركة هنا، أتوقف عند الكلمة هذه أو تلك ثم أتوقف عن الكلام والأمير يستدير بوجهه إليّ مستفهماً فأتابع الكلام بكلمات أحمّلها سعير روحي.
تم تحديد موعد التسجيل لسهرتي التلفزيونية.
"سلام الشجعان" وسلمني مساعد المخرج "أوردر" التصوير و "أوردر اللباس" توجهت نحو مخزن الألبسة وسلمت المشرفة على المخزن "الأوردر" ودخلت لاختيار اللباس، انتقيت خوذة نحاسية، وقميصاً وسروالاً حريرين يليقان بحرس الأمير ثم توقفت أمام حامل الأسلحة فانتقيت سيفاً خشبياً.
مساء كان الجو مقبولاً في الاستديو ولكنني كنت أشعر بأن الخوذة أكبر من رأسي رغم أنني جربتها من قبل مرات عديدة، داخلني إحساس بأنني عار رغم ارتدائي القميص والسروال الحريري.. لا أعرف كيف بدأت أشعر بارتفاع في الحرارة.. الحرارة في جسدي.. كنت أستعر غضباً من هذا المأزق الذي أوقعت نفسي به.. مأزق يرمّد القلب ويعصف بالنفس.
كان المشهد الذي يسبق مشهدي يعرض الأمير ووفد الصليبيين وهم جلوس على مائدة العشاء يدور بينهم حديث ودي ويضحكون وهم يأكلون ويشربون، وبإشارة من مساعد المخرج اندفعت إلى داخل "الكادر" لتأدية دوري ضمن اللقطة المحددة، اندفعت صارخاً: مولاي الأمير! مولاي الأمير!
فالتفت إليّ الأمير منزعجاً ثم صرخ:
- ماذا؟
- الشعب يحيط بالقصر. قلت.
- ماذا يريدون.؟ سأل.
- إنهم يرفضون الصلح مع الصليبيين ويصرّون على طردهم من أراضينا.
- ليذهبوا إلى الجحيم!
أتردد ثم ما ألبث أن أقول:
- الشعب لا يذهب إلى الجحيم.. الشعب يذهب إلى التاريخ.
كنت أخرج عن النص.. فيحدّق بي الممثل غير مصدق، ثم يتابع دوره.
- اغرب عن وجهي أيها الكلب!
تدور بي جدران الاستديو، أحس باختناق من حرارة أضواء الكاميرا المسلطة على وجهي، أشعر بالخوذة ثقيلة، أنزع سيفي من غمده وأنهال على الأمير وعلى أفراد الوفد الصليبي ضرباً، على الرؤوس وعلى الوجوه.