بتـــــاريخ : 10/14/2008 5:04:23 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1478 0


    اختباء

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : سلطان العزري | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :
    قصة اختباء

     . اختباء

     

     

     

    كان يوم الجمعة، قبل منتصف النهار في شهر رمضان، السماء صافية تماما مع حرارة يوم فاجر، خطوط السراب أمام المرأى تشكل نهر متدفقا من المياه لا يمكن الإمساك به، في المدى تختلط الألوان، يختلط لون الصخور السوداء بالامتداد الصحراوي، تبقع المكان على مساحات مختلفة، مجموعة كبيرة من أشجار السمر والغاف والثرمد والحرمل، عادةً، تتفتق الحرارة في منتصف النهار، تبدو كمرجل كبير يغرغر، ينصهر في ذلك المرجل البشر والحجر والشجر وإسفلت المدينة، ترتفع الأجساد مع ذكرى الروائح، روائح الوجبات بين البيوت والمباني المتراصة في فترة العصر القادمة، فترة العصر تبدو بعيدة الآن حيث الحرارة في أوجها قبل منتصف النهار.

     

     

     

     كانت خطبة الجمعة في ذلك اليوم عن أهمية وفضائل الصيام، عادة أيضا، بعد صلاة الظهر يخلد الجميع في فترة قيلولة، الغرف والبيوت المكيفة تبدو كجنة، البيوت المغلقة جيدا والمبردة تريح الصائم أيا كان، خيوط الشمس وأناملها السحرية لا تجد طريقا أو مسربا للدخول إلى تلك الغرف التي تشبه بجدرانها الإسمنتية قلاعا باردة ترتد أنامل الشمس السحرية عنها، يتحلق آخرون حول التلفاز في فترة الظهر الحارة تلك، آخرون لم يبحثوا عن الجنة في البيوت والغرف المغلقة، كانت فترة الظهر الحارة فرصة للانطلاق.

     

     

     

            كان سعود التيس وحمود المدفع وعيسى كرتون يركبون في الخانة الأمامية والوحيدة لسيارة البيك أب القديمة، حمود بوعيون وأحمد الكبش وحسين المدوخ وعلي الحمار وعامر شنون وطلال السوداء يتراصون في خلفية السيارة مع عبوات بلاستيكية كبيرة تحمل الماء ، صناديق ورقية كبيرة تحمل أكياسا منتفخة ، مواعين كبيرة وبعض الحصر المطوية ومسجل قديم وأشرطة متعددة .

     

     

     

            الطريق الملتوي بين خواصر التلال والشراج يجعل الوصول إلي – حيث خيمت – تلك المجموعة أمرا صعبا، القادم إليهم سوف يجرب العناء والكثير من المخاطرة بسيارته، المجموعة اختارت مكانا كثيف الظلال تحده من الجهة الشمالية مقبرة قديمة مسورة بينما تعلو التلال خلفهم ليربض فيها برج قديم متهالك، في الجهة الغربية كانت حدائق النخيل المسَورة أيضا بجدران الطين العالية تشكل حائطا ضد الاختراقات المفاجأة لموقعهم الذي حاولوا أن يبقى سريا ولو لفترة شهر رمضان فقط، الجهة الشرقية هي الجهة الوحيدة المكشوفة والتي من خلالها تأتي الطريق إلى نهايتها.

     

           

     

    كبقية الأيام تتعاون المجموعة على أنجاز العمل فمنهم من عليه جمع الحطب وهناك من يجهز الموقد وثالث يقص الدجاج واللحم والخضروات ورابع ينظف الأرز ويملئه بالماء، سادس يعد مكان الجلسة ثم يدير المسجل بأشرطته القديمة، كانت المجموعة تعمل بجد لتنهي موضوع وجبة الغداء وجعل الوجبة جاهزة بأسرع ما يمكن .

     

     

     

            تصاعد الدخان الأزرق المنبثق من نار حطب السمر الذي كان بعضه رطبا، هناك من يراقب أو يزيد أو ينقص المقادير للوجبة بينما تحلق الآخرون فوق الحصير الكبير يلعبون الورق ويتزايدون أو يصرخ أحدهم وهو يستمع لطرفة سريعة وهو يدخن، يقهقه آخر بصوت عال غير مهتم بالامتدادات المفتوحة للأشياء، كانت الكؤوس تدور أيضا وبعض المكسرات والخضروات .

     

     

     

    مر الوقت سريعا، جهزت وجبة الغداء، نهض الجميع لترتيب الأشياء حين اكتشفوا عدم وجود بعض المشروبات، لقد نسوها بالتأكيد، أتهم البعض بتعمد ذلك لكي ينتفعوا منها مساءا لوحدهم، آخرون آثروا الرد بدبلوماسية، انتهى الجميع بالاتفاق على أهمية وجود تلك المشروبات، المشروبات نكهة اللقاء وعبق البقاء كما عبر عنها أحدهم، إذ لن يكون لوجبة الغداء ذاتية الإعداد أية نكهة في رمضان من غير تلك المشروبات، تطوع سعود التيس بأن يذهب ويأتي بها، يجهز الآخرون المأدبة الرمضانية لوجبة الغداء .

     

     

     

    قاد سعود التيس سيارته العتيقة، أخرجها بهدوء أكثر، محاولا ألا تثير التراب الهش ويتطاير في الطعام، بدأ الجميع في تجهيز المأدبة وإعداد المكان وترتيب الأواني والمواعين لاستغلال الوقت، الجميع كان يغني مرددا الأغنية مع المطرب الذي خرج صوته قويا وجميلا من المسجل المعلق في جذع شجرة الغاف، كانت أيضا الأشجار والطيور تبدو وكأنها ترقص طربا مع المجموعة، تحلق الجميع حول المأدبة، الانتظار وحده سيد المكان.

     

     

     

    - سعود التيس لن يتأخر كثيرا، أنه الوحيد الذي لم يصم في حياته يوما، عندما علمه والده الصلاة كان صغيرا جدا وكانت الخيزران ترسم ملامح حال سعود التيس ، كنا كلنا نرتعب عندما علمنا الصلاة.

     

    - يا أخي ترى قالوا في الأمثال : الذي يريد يصلي ما يدلى بالقبلة.

     

    - يا أخي عاد لا تقدر تغني ولا تقدر تلبس الذي تريده . . كله عندهم حرام وبدعه.

     

    - يا شباب . . تراني أستحمل أشياء كثيرة بس الجوع ما أستحمله ومثل ما قالوا الجوع كافر ولأني مسلم راح أقتله بهذا الغداء .

     

    لحن أحمد الكبش بصوته أغنية

     

    -        أسمع مصرون بطني يغني . . . ومصرون ثاني ملتوي يراد

     

     كان مصرون بطني يثني . . . تراني أنا بصوم وبفطر على جراد.

     

     

     

    . . كانوا يتحدثون عن آخر الأخبار التي سمعوها من حروب ومجازر، يتخلل الحديث بين الحين والآخر دعابة أو تعليق ما، فجأة سمعوا صوت محرك سيارة يتعالى قليلا وهو يقترب من التلال التي تغطيهم، قفز عامر شنون وطلال السوداء واعتلوا التل القريب دون أن يظهروا سوى رؤوسهم، كان صوت محرك السيارة يتعالى أكثر، نهض أحدهم واطفاء المسجل.

     

     

     

    كان صوت محرك السيارة يتعالى أكثر ويبدوا أكثر وضوحا وهو يقترب من مكانهم، صرخ عامر شنون وطلال السوداء من فوق التل:

     

    -        دسوا الأكل، رتبوا الأمور، هذا الشايب سعيد السنور وسيارته المنتفضة يقترب.

     

     

     

                      ركض الجميع يمنة ويسرة، نسوا أن يلبسوا أحذيتهم، تركوها على حواف الحصير الذي يحتوي على المائدة، كان التراب الهش والمتطاير خلف السيارة يقترب أكثر، بدت السيارة تعبر آخر التعرجات مقتربة من أشجار الغاف الكبيرة، في البداية تسمر الجميع غير قادرين على تصور الحل أو الإجراءات الأفضل لهذه الموقف، فجأة صرخ عيسى كرتون صاحب الصوت الضخم " اندسوا قبل أن يرانا " ، صعد بعضهم واختباء بين أغصان أشجار الغاف العملاقة، ركض آخر للاختباء خلف البرج فوق التلال القريبة، في ظهر تلة صغيرة شجيرة ثرمد تسلقت شجرة سمر تحاول النهوض من أسفل التلة وظللتها، اختباء علي الحمار وعامر شنون تحتها، وقفت سيارة سعيد السنور ، أطفأ المحرك ، أنزاح الغبار عن المكان كان الجميع مختبئ، الجميع يراقب ما سيجري، كانت المائدة مكتملة على الحصير، لم ينتبه إليها سعيد السنور ذو الخمسة والخمسين عاما، بدا المكان هادئا لدرجة سماع تكسر أعواد الأشجار اليابسة تحت نعلي قدمي الشايب سعيد السنور وهي تتحرك باتجاه الإطار الخلفي لسيارته، تلفت سعيد السنور يمنة ويسرة ، بلع بعض من المختبئين ريقهم خوفا من أن يلمحهم، أنحنى قليلا على الإطار الخلفي للسيارة، أخرج شيئا ما من جيبه، تلفت مرة أخرى، أخذ يدعك شيئا ما في يده، تلفت مرة أخرى، ثم أشعل عود ثقاب وتقرفص حوله، كان ظهره بارزا بينما السيارة تحول من الجهة الأخرى عن رؤية ما يفعل، ثارت غمامة دخان فوق سعيد السنور، كان تبغا عمانيا أصيلا، عبء ملء فمه مرة أخرى ثم نهض ونفخ غمامات وموجات أخرى من دخان غليونه في الهواء، بدأ في إعادة غليونه والمدوخ إلى جيبه بعد أن ضربه بإطار السيارة، تلفت يمنة ويسرة، كان الجميع يراقب المشهد دون أن يحرك أحد منهم ساكنا،كانت متعة المشاهدة لانتهاك الصيام وغرابة الفعل تعطي للمشاهدين نشوة إضافية وإحساس بالراحة.

     

     

     

    اتجه سعيد السنور للتلة القريبة وتسلقها، عندما أصبحت شجرة الثرمد التي تغطي تحتها شجرة السمر التي بدورها تخفي تحتها علي الحمار وعامر شنون تلفت سعيد السنور مرة أخرى، من بين مسامات الورق كان علي الحمار وعامر شنون ينظرون لسعيد السنور أعلاهم دون أن يراهم هو، رفع سعيد السنور إزاره وبدأ في التبول على شجرة الثرمد من فوق التلة ، قفز علي الحمار وعامر شنون راكضين من تحت شجرة السمر بعدما أحسا ببول سعيد السنور يسكب فوق رؤوسهم، كاد قلب سعيد السنور أن يتوقف من الرعب ، تفاجأ ، أنسكب بعض البول على إزاره عندما تراجع للخلف نتيجة صدمة المفاجئة وكسر الهدوء المخيم على المكان، ظن لوهلة بأنه قد أزعج حيوانيين مفترسين كانا يأخذان قسطا من الراحة تحت تلك الشجرة ، تنفس الصعداء عندما تأكدا بأنهما بشريان ركضا بعيدا عن بوله الذي لم يتوقف بعد وهو يحاول أن يعرف إلى أي أتجه ذهبا.

     

     

     

    - أولاد الزنا، ماذا كنتم تفعلون تحت شجرة السمر في عز الظهيرة هذه ؟

     

     

     

    كانا علي الحمار وعامر شنون قد أطلاقا ساقيهما للريح واندسا مع رفاقهم خلف البرج فوق التلة من دون أن يعرف سعيد السنور أين تواريا عنه، أخذ سعيد السنور الذي كان قلبه وعقله وجميع أنشطته البيولوجية مشدودة في تفقد المكان بحس الاكتشاف والبحث والتدقيق والحذر، كان يشتم " أولاد الزنا، أولاد القحبة " ، أتجه إلى سيارته.

     

     

     

     كانت المائدة تغطيها السيارة من الجانب الثاني، فتح سعيد السنور باب سيارته وأدار المحرك، نزل فجأة كأنه يلقي نظرة أخيرة على المكان، اتجه إلى أمام السيارة، صاح حمود بو عيون مقلدا صوت الديك وهو فوق شجرة الغاف لتشتيت انتباه سعيد السنور عن الحصير وما يحويه، صاح أحمد الكبش مقلدا صوت تيس هائج من فوق شجرة غاف أخرى، تلفت سعيد السنور لمكان الصوتين 

     

    -        أولاد الذين . . ديك مندس في غافه يمكن . . بس تيس هائج في غافه ثانية . . عن يكون هدا مخينيث الجن . .

     

     

     

    توقف فجأة أمام السر الذي كانت المجموعة تحاول إخفائه، الحصير وما يحتويه من وجبة الغداء والماء والمكسرات وأوراق اللعب وأشرطة الأغاني بالإضافة إلى النعل الموزعة على أطراف الحصير ، قدر سعيد السنور أن العدد أكثر من خمسة، صرخ شاتما

     

     

     

    - ما عليكم يا لكفار ، ما صايمين ، أنا بعرف أأدبكم .

     

     

     

    كان يلتقط النعل ويرميها في خلفية سيارته البيك أب وهو يزمجر ويلعن آخر الزمان والكفر ويتعوذ من غضب الله ، كانت المجموعة قد بدأت تتجمع وتقترب من سيارته ، عندما رئاهم يقتربون منه، عرفهم جيدا، قفز حمود بو عيون لخلفية سيارة سعيد السنور وأنزل النعل بينما كان حوار ساخنا يدور

     

     

     

    - سيكون خبركم مع كل لسان عند وصولي للجامع الكبير ؟

     

    - أنت واحد ونحن سبعة . . لقد رأيناك تدخن الغليون ؟

     

     

     

    سكت سعيد السنور وقد صدمته تلك الحقيقة، كان الجميع متحلقون حوله

     

    - أنا صائم وما بفطر بسبب غليون

     

     

     

    خرجت الأصوات متفرقة

     

    - كلنا نشهد بأنك دخنت الغليون الذي لا يزال في جيب دشداشتك

     

     

     

    كان طلال السوداء قد جلس على الحصير وشرب كوبا من الماء

     

    -الله يهديك خوفتنا . . أعوذ بالله .. تعال تغدا وأترك زايد الكلام

     

     

     

    كان صوت محرك سيارة سعود التيس يقترب منهم وهو يطلق بوقا قويا وقد أغلق مسار الخروج على سيارة سعيد السنور . .
    كلمات مفتاحية  :
    قصة اختباء

    تعليقات الزوار ()