بتـــــاريخ : 11/15/2008 8:01:09 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1216 0


    الجيوب المقلوبة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد رشيد الرويلي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    نظر باستغراب إلى الملابس المعلقة على حبل طويل فتوقف عن المسير..

    لطالما تمنى أن يودع بنطاله اليتيم جوف هذه المغسلة الضخمة ليُعلَّق مع ملابس حديثي النعمة.. لفت نظرة الجيوب المقلوبة.. لقد كانت طويلة نظيفة.. قَلَبَ بسرعة جيبي بنطاله الخاويين إلا من بقايا التبغ وقشور الفستق.. إنهما لايشبهان تلك الجيوب المتدلية كألسنة الكلاب.. برذاذ مقفى. زفر بقوة.. لم تعد شفتاه تتهجيان أشواك الكلام.. مضغ لعابه اللزج وشردت عيناه..‏

    تراءت له صور طفولية حينما كان يلبس ثوباً جيوبه طويلة، وكان يملؤها بالحلوى الرخيصة والفستق والبزر المطبوخ.. أما نقوده المعدنية القليلة فكان يخفيها في جيب طويل اكتشفه بعد طول عناء.. إنه في مقدمة ثوبه عند مواقع الأزرار.. تذكر حالات إفلاسه المستمرة وكيف كان يقلب جيببيه متعمداً ويمر من أمام أبيه فينال من جراء ذلك قطعة نقدية صغيرة تارة وتارة أخرى يتلقى عدداً من الصفعات على رقبته الطويلة جزاء اتساخ جيبيه.. تذكر ذلك بومضة خاطفة، فضحك لها طويلاً، وتبددت الكآبة من قسمات وجهه النحيل..‏

    صورة أخرى مازالت تلح عليه.. صورة ذلك الرجل الذي كان يعطف عليه كل أهالي القرية.. كان يرتدي معطفاً مرقّعاً لايفارق جسده مهما ارتفعت درجة الحرارة وتعددت الفصول.. لقد كانت تلك الرقع جيوباً مخفية حوت كل أنواع العملات الورقية كشفها عبث الأطفال بمعطفه وهو نائم في فيء جدار عتيق..‏

    لم يكن وقتذاك يدرك وظيفة الجيوب ومهامها الحقيقية.. كل ماعرفه أنها أوعية مؤقتة لحفظ حاجات الإنسان الضرورية والهامة وأي شيء أهم من الحلوى والفستق؟.. لكن مابال هذه الجيوب المتدلية أمامه.. إنها ليست كجيوب الآخرين.. ماذا يصنع أصحابها فيها؟ وماسر طولها؟‏

    قالت له زوجة وهي تستحثه على المسير وقوس قزح يرقص على مقلتيها:‏

    - لاتنظر إلى الأعلى كثيراً ياسعدون أخشى على رقبتك من تصلّب يجعلك لاتنظر ثانية إلى أسفل..‏

    أخفض سعدون رأسه، وتأمل وجه زوجه، فرأى الفجر ينفلت من شفتيها النديتين.. لم يستطع أن يبتسم.. همست في أذنه:‏

    - سعدون.. إن السطو على أحلام الغير يجعل المرء صريعاً فلا يلتقط عند ذاك سوى الأصداف الفارغة..‏

    - لكن يابديعة إن تلك الجيوب طويلة لاهثة، وأصحابها أعرفهم جيداً.. لم يكونوا شيئاً يذكر..‏

    - أرجو ألا تفكر فيهم..‏

    - لكنهم ليسوا أذكى مني ولا أصلب عوداً.‏

    - تذكر جيداً: إن من يزرع الجمر لن يحصد سوى الوهج.‏

    - اسمعي ياامرأة: أنا جواد مسرج بالنور مازلت أحمحم في كل المعابر ورمح الأمل مازال في يدي.. سأذهب إليهم.‏

    دمعت عينا بديعة، فاقترب منها قائلاً:‏

    - لِمَ تبكين؟ اضحكي أرجوك فإنك إذا ماضحكت كنت الرنين، وإذا بكيت كنت النحيب والله.‏

    - لكن الدمع قد يورق، والعبرات قد تزهر.‏

    - لاتخافي عليّ يابديعة.‏

    - لكنك لن ترحل.‏

    هرع سعدون بلا وعي نحو أزمنة حديثة لكن الدروب كانت موحلة تنزُّ وضراً شديداً وصديداً غمرته أخاديدها حيناً من الزمن وحيناً آخر سكب عليه الدهر رحيقاً من أساه تحسّاه جرعة إثر جرعة..‏

    راقت له لعبة الحبل والقفز لكنها أنهكت قواه، فغدا حطاماً كئيباً مزقته الذنوب والشهوات.. آلمه وخز الضحى وألهبته سياط الأمل..‏

    رش نقاط العتاب على أحرف الصلح مراراً.. حرث ذكرياته بعمق، فبقي هائماً إلى أن عاد محمولاً بلا رحمة إلى تخوم الويل.. إلى حفرة من يقين تكللها لعنة الظلام..‏

    كان جُلُّ من عرفه يدرك تماماً بأن رحلة ستواريه دون رجعة.. فعاد والمساء يقطر أحلاماً ومواعيد، والسماء توزع غضبها لحناً على أفخاذ الضوء، والضوء مازال يلقي بأطيافه على جيوب تتدلى كل يوم كألسنة الكلاب وفي كل الجهات

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()