بتـــــاريخ : 11/15/2008 8:00:10 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1374 2


    النعاس المر

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد رشيد الرويلي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    امتص(أبو العوف) دخان نرجيلته بعصبية، ثم نفثه نفثة قوية كونّت هالة ضبابية حجبت عنه الرؤية.. تسللت عيناه عبر مساماتها، فرأى أشباحا إلى تخوم المواجد تأوي كأنّات الصدى ترتاح في تقطبية الأضواء.. أشاح وجهه عنها، وقد تصبب العرق غزيرا منه، وتشنجت رقبته الطويلة، واستسلم لإغفاءة عميقة..‏

    كانت الفواجع تستيقظ كالبراكين بداخله، فتنفجر حزنا وانصهارا.. تراءت له صور وخيالات مرعبة.. زوجة تحتضر، وأولاد أفقدهم الوباء ضياء عيونهم، وحرائق تلتهم كل ماكسبت يداه، وتبدى له الكون جمجمة بين تجاويفها أصابع ممدودة في الصراخ.. نبض يدق في ذاكرة الحزن، وأزمنة تستغيث.. ظل قادم من حشرجات الموت يصيح في عمق السكون، ونورسة سكرى تترجح في أرخبيل مزروع بالجثث، وكل النوافذ ترفع راية الحداد..‏

    انتفض أبو العوف واقفا.. ألقى خرطوم نرجيلته، وحملقت عيناه الدامعتان بفزع في الوجوه الذابلة، وسار على عجل حتى غاص في سيارته الفارهة، فأطلق لها العنان، واختفى عن الانظار..‏

    كلّ العيون ترمقه بإشفاق، والألسن تلوك بقرف عشرات الأسئلة:‏

    - ماذا يريد حديث النعمة من الدنيا، وقد منّ الله عليه بعائلة وثروة طائلة؟!‏

    - ماذا ألمّ به؟!‏

    - ماذا رأى في اغماضته السريعة؟!‏

    - لا.. إن سراً خطيراً يعشش في ذاكرة ذلك الناعس لايستطيع تحمله..‏

    - لكنها عادته كل يوم.. يجب ألا نظلم الرجل..‏

    - يجب أن نقف على الحقيقة..‏

    التف عدد من رواد المقهى حول صديقه الطبيب عندما دخل وعيناه تجوسان المكان بحذر، وارتاع عندما رأى طاولة صديقه عامرة وهو غائب عنها، فتساءل دهشاً:‏

    = متى رحل أبو العوف؟!‏

    قال صاحب المقهى متألما:‏

    = لم يمض على جلوسه دقائق حتى أغفى اغفاءة سريعة، فانتفض مرتعباً، ورحل دون أن يحتسي قهوته أو يكمل نرجيلته..‏

    = شافاه الله..‏

    = هل هو مريض حقا؟!‏

    = عذرا.. سألحق به إلى البيت، وسنرجع معا بعد قليل.‏

    = أنا بانتظاركما.‏

    ةةة ةةة ةةة‏

    تنفس أبو العوف الصعداء عندما دخل بيته ولم يجد ماتخيله واقعاً.. كلّ ماوجده فرش مبعثرة، ومشاجب حبلى، وأطفال يخفون غضبهم بعد معركة غير متكافئة.. يخربشون على الورق أرقاماً حزينة وأشجاراً عارية، فأطلت عليه الذكرى من هموم هجرتها الأيام على طفولة نمت في حضن واد سحيق التجاعيد..‏

    حدّق في وجه ولده الصغير.. كان أثر العراك بادياً عليه، وقد ارتدى رداء أخيه الأكبر، وانتعل حذاءه، وأخذ يعبث بأوراقه، فابتسم، وتذكر طفولته حيث كان يلبس دائما ثيابا أكبر من عمره، ويلقى به للعمل، ويده تنوء من التعب، وجرح النهار يسيل في أحلامه المشتهاة..‏

    اعتزل أبو العوف في غرفة مكتبه يرهف سمعه لموسيقا أخذت تنثال عذبة شجية كأنها عصارة روح وحشرجات زمن.. لقد امتزجت روحه مع (نينوى) المنداحة مع الضوء الممزوجة بألوان الطيف فبكى ونشج طويلا، ولم يرد على طرقات باب غرفته للوهلة الأولى... كانت زوجته تخبره بقدوم صديقه الطبيب..‏

    = أهلا دكتور تفضل..‏

    = ماهذا الذي فعلته ياأبا العوف؟! لقد أخفتني والله..‏

    = لست أدري ماذا أقول لك ياصديقي..‏

    = قل لي أرجوك.. أخبرني بما شعرت به اليوم..‏

    = شعرت بأنني وحيد فوق سرير متداع ووسط غرفة يصفع شباكها المطر، وتزمجر فوق سقفها الريح، وقد نبتت على صدري شجيرات الدموع.. أتكور تارة، وأهرول تارة أخرى، لأغتسل بانهمار الضوء على لعاب غيمة مازالت تعربد بحقد، فأغوص في رحم القهر لأجد أولادي يستغيثون، وامرأتي تتمتم بالشهادتين.. وفجأة سمعت صوتا خلته مطراً على دربي لكنه كان نواحا وعويلا..‏

    صمت أبو العوف، وكبت دموعا كادت تفرّ من عينيه الشاردتين، ولوى رقبته الطويلة، فصاح به الطبيب قائلا:‏

    = لاوقت للنعاس الآن.. هيا بنا نكمل حديثنا في المقهى.‏

    ةةة ةةة ةةة‏

    هرول النادل وبيده خرقة مبللة، وتعثر أكثر من مرة حتى وصل الى الطاولة التي جلس حولها أبو العوف وصديقه الطبيب.‏

    كان أبو العوف سخيا يدس المال تارة في جيب النادل وتارة أخرى في جيب حامل النرجيلة، ولاينسى حامل الجمر وساقي الماء، وعندما التفوا حوله بما فيهم ماسح الأحذية ابتسم، ونثر بعض النقود عليهم، أما صاحب القهوة المرّة فكان يغدق عليه كلما كسر فنجانا عند قدميه..‏

    = أرأيت ياأبا العوف.. كل العيون ترقب قدومك، وتتشهى رؤيتك.. إنهم يحبونك، ويأسفون لغيابك..‏

    = وأنا والله أحبهم، وأتذكر الحرمان الذي عشته طويلا فلا أبخل على محتاج..‏

    = والآن حدثني وأرجو ألا تخفي عني شيئا..‏

    = اطمئن فلن أخفي عنك شيئا.. مازلت ياصديقي استنشق أبخرة صنعتها أزمنة لم تعد تعيها الذاكرة.. كأن هذه الأبخرة تتصاعد من أغوار عميقة مخبأة في الصدر تنهمر من عينيّ دمعاً وأسى..‏

    = لذا قالوا لي بأنك بكيت في اغفاءتك السريعة.‏

    = صحيح ماقالوه.. إحساس غامض فاجع لازمني لاأدري من أين جاء، ولاكيف تغلغل في أعماقي يدفعني إلى أن أبكي، فبكيت رغماً عني.‏

    = إنها أحاسيس خادعة صدقني، وكل ماأرجوه ألا تلازمك وتنغص حياتك.‏

    = والله أنا من يتمنى مفارقتها لكن ثمة صوت يفتش دائما في قاع صمتي عن الجزر النائيات، ويسألني كل يوم سؤالا حزينا، وكنت أفرّ بنفسي بعيداً عن سياط هذا الصوت الغريب فلم أفلح.‏

    = حاول ياصديقي المرة تلو المرة.‏

    = لاأستطيع وفي تضاريس روحي جثث غرثى تمضغني قبسا لايومئ إشراقه بالإياب.‏

    = أقدّر ذلك، وأعرف أن الطريق بين الفجر والظلمة في نفسك وعرة لكن اختصار المسافة بيديك.. أنت قادر إن شئت أن تنسج من خيوط الفجر أروع رداء، وأن تعزف في هذا الخريف المتراكم على أصابع أنقى من الصمت..‏

    شردت عينا أبي العوف في الأفق طويلا، ولوى رقبته الطويلة، وتملكه النعاس، فأغمض عينيه، والابتسامة تدغدغ شفتيه الرقيقتين.‏

    أوجس الطبيب في نفسه خيفة، فالتزم الصمت، وراقبه بهدوء إلى أن انتفض كاللديغ، وهبّ واقفاً.‏

    = مابك ياأبا العوف؟‏

    = لاشيء.. لاشيء..‏

    = لكنك كنت تبتسم هذه المرة في إغفاءتك..‏

    = كانت أم العوف تذكرني بموعد النزهة على ضفاف النهر.‏

    = وهل تنوى الذهاب اليها الآن؟‏

    = سآخذهم جميعا ليشاهدوا الشمس العاشقة وقد ذوّبها الحنين.. إنها تحلّ مئزرها الآن لتضاجع النهر، وتسترخي في ضلوع الجسر الكبير.. سأذهب الآن قبل أن تنكسر مقلة النهار، ويشعل مصباح جرحي، ويصحو غراب العذاب..‏

    ةةة ةةة ةةة‏

    على طريق الجسر القديم قال أبو العوف لزوجته وأولاده:‏

    = انظروا إلى النهر كيف قصّوا شاربه؟‏

    تأمل في المرآة وجوه أولاده الحزينة وهم يحدقون تارة في ساقية النهر، وتارة أخرى في أكوام النفايات التي غطت سريره، فأشاح وجهه لتقع عيناه على وجوه السابلة.. وجوه تحمل أوسمة الصدأ حين تنشطر على أجسادهم لغة النهار.. مبشومة بالقلق والهلع، فأوغل دمعه من وهج الصمت المثقل بالأوزار.. لم يعد يرى غير المساحيق تكسو انطفاء الوجوه، ولم يتنسم سوى الهواء المبلل بالهمهمات وزفير المدينة.. كلّ القلوب مطعونة بالبكاء، والصدور مخنوقة بالوباء..‏

    على ضفاف النهر الكبير راقب عناق شمس الأصيل مع أديم النهر.. أمواج المدى تستل من جنبات الأوجاع والآمال، والأفق منحسر التجاعيد كأنقاض الأقاويل..‏

    تنهد أبو العوف بعمق قائلا:‏

    = أنا قلق.. رباه!! كلما رافقني القلق تحسست أناملي غياب شمس في مجاهل الأفق..‏

    ردت عليه زوجه باستغراب:‏

    = لم ياأبا العوف؟ هانحن جميعا حولك!‏

    = أنسيت أنه لاأحد في البيت؟ أنسيت ماحدث لجارنا منذ أيام؟‏

    = لاتخف.. لقد غلّقت الأبواب كلها، ومفتاح الخزنة وضعته تحت وسادتك.‏

    = ماذا تقولين؟ هيّا بنا..‏

    = لكن الوقت مازال مبكراً.. ماذا أصابك؟‏

    = لست مطمئنا ولي في صحبة الآلام أطوار، أضيع مع الهموم واختفي إن قال ليلي سوف أتيه.‏

    = لاأفهم ماتقول؟‏

    = ستفهمين ياامرأة فيما بعد.‏

    شمس الأصيل مازالت تدغدغ صفحة النهر الرقراقة بعهر، والهواء الخريفي فضح عرى الأشجار ومكامن الطيور، والسيارة تنهب الطريق وتلتهم كل التمتمات، وعينا أبي العوف قد شردتا في فضاء دام وحرائق لاتنتهي، فلوى رقبته الطويلة، وقد تشنج وجهه، وتاه في خضم المجهول..‏

    = أرجوك.. خفف سرعتك.. ماهذا؟ ياالهي كيف تقود سيارتك؟! انتبه ياأبا العوف.. إنك تنحدر بنا نحو النهر..‏

    = بابا.. بابا..‏

    امتزجت كل هذه الصيحات في الفضاء الدامي لتسكب على أديمه آهات متقطعة، مالبثت أن اختفت بسرعة عندما تمزقت على أعتاب نعاس مرّ

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()