بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:06:25 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1250 0


    غيـــــــوم

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : حســــــب الله يحــيى | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    في الحديقة العامة، جلست غادة على المقعد الخشبي وحيدة. كانت شمس الخريف في ذلك الصباح دافئة، مع نسيم منعش يرافق ذلك الدفء.‏

    تصفحت المجلة المصورة التي رافقتها.. ثم وضعتها جانباً، وراحت تحدق في الأشجار والشمس والعصافير والأزهار والناس الذين أخذوا يحدقون في وجهها.. ويتساءلون عن وحدتها. لم يكن أي شيء يمنيها، كما لم يكن أمرها يعني الناس الذين يمرون من أمامها.. إلا أن علاقتها بهذا المقعد الخشبي تعنيها تماماً.. تعني ذكرياتها وأحلامها وأمانيها.. يعنيها بائع الشاي المتنقل الذي كان يسرها حديثه، فتضحك ملء القلب كما يعنيها باعة الكرزات والعلكة والساندويج والكولا.. الكل يعرفونها وتعرفهم..‏

    كما يعرفها الحدائقي والحارس.. وبالتأكيد يعرفها المقعد الخشبي والطائر الملون الصغير هناك.. وشجرة الروز وشجرة الظل هذه.‏

    وتعرفها الأعشاب وضوء الشمس ونسائم الصباح.‏

    والتأكيد أيضاً تحتفظ كل هذه الأشياء بذكريات عنها.‏

    غير أن غادة كانت هذا الصباح وحيدة، كأنما كانت كل الأشياء التي تحيط بها قد رحلت، أو ماتت!‏

    عجبت للأمر استدعت بائع الشاي، فلم تجد جواباً.. سألت نفسها عن الحدائقي، فوجدت الأزهار ذابلة والأعشاب نامية.. شامخة! أصغت لعلها تستمع إلى نداء ذلك الطائر العجيب، فلم تسمع شيئاً، تقدمت إلى شجرة الروز، وبحثت عن العطر.. فإذا العطر مضاع، والشجرة القريبة من المقعد التي تظلل المكان تساقطت أوراقها، وباتت مجرد أغصان عارية.‏

    وراحت غادة تتأمل الأشياء المحيطة بها، في محاولة لنسيان الماضي، مع أن هذا الماضي صار يشغل كل وجودها.. وفي كل مرة تحاول إنقاذ نفسها منه، تجد نفسها في قلبه.. وما هذا المقعد الذي تجلس عليه إلا معلماً من معالم هذا الماضي.‏

    حدقت في السماء، فوجدتها زرقاء متسعة.‏

    حدقت في أعلى شجرة صفصاف، فوجدت أن هناك عشاً يتناوب على دخوله عصفور وعصفورة.‏

    حدقت في عيني طفل مر من أمامها.. وأعجبها أن في عينه خضرة الحياة وبهجتها.‏

    حدقت في جدول ماء.. وكيف يتزوج من الأرض.. فيثمر هذا اللقاء ورداً وثماراً وخضرة.‏

    حدقت في المقعد الخشبي، وكيف يتماسك مع القطع الاسمنتية ويكونان هذه الراحة للمتعبين..‏

    حدقت.. حدقت..‏

    التحديق في الأشياء اكتشاف وأسئلة، هكذا تقول غادة لنفسها دائماً.. ومن لا يعرف كيف يحدق، لا يعرف كيف يتآلف مع الأشياء، ولا كيف يعقد مصالحة مع العالم المحيط به.‏

    غير أن هذا العالم ترفضه أو يرفضها..‏

    لم تعد تدرك أين يكمن الخطأ.. فيها، أو في الرجل الذي أحبته، أو في المحيط الذي يكبل حركته ويفرض شروطه عليه، وعليها كذلك.. كان المقعد الخشبي، البيت والمسرات والأحاديث والذكريات كلها. كانت تقول للرجل الذي فتنها حديثه:‏

    - حامد.. أريد أن أراك في ضوء الشمس دائماً.‏

    ويجيبها حامد قائلاً:‏

    - غادة.. وإذا كانت السماء غائمة، أين نلتقي؟ تبتسم ملء القلب:‏

    - حامد.. كل الغيوم تبوح بالمطر.. والمطر خير.. وكل خير شمس.. شمس يا حامد.‏

    وتغمره النشوة.. ويود لو انطلق معها نحو عالم مملوء بالأفراح والسلام والهدوء.‏

    وفي عمق تلك النشوة، كان يريد أن يهرب من نفسه، وأن يتجرد من الكوابيس التي تثقل عليه دائماً.‏

    - حامد.. مابك؟‏

    - لاشيء..‏

    - بل إن هناك أشياء كثيرة في عينيك.‏

    - لا شيء.. هذه الغيوم.. عنصر تهديد لجلساتنا.. ألا تذكر كم ابتهجنا بها وبسفرها وحملها قطرات المطر.. كم شربنا من هذه القطرات..؟‏

    - ولكننا أصبنا بالبرد..‏

    كان يريد أن يبرر لها، أن يخفف من جموح هذه النشوة العارمة التي تملأ روحها.. حتى لا يقع الخبر الذي يعرفه، موقع الفاجعة.. كان يهدف أن يقدم لها الخبر.. على دفعات، مثل دواء مر.. حتى يحتمل.. وحتى تصدق.. وحتى تستسلم له، كالقدر.‏

    - حامد.. ما بك؟‏

    - غادة، غدت إلى السؤال نفسه.. الغيوم.. لا شيء سوى الغيوم.. ألا ترين كيف تلاحقنا العتمة؟‏

    - حامد.. ألم أتعلم منك أن وراء كل عتمة.. ضوء.. ضوء يا حامد؟‏

    - قد يتأخر مجيء الضوء يا غادة..‏

    - وهل مللت الانتظار.. الانتظار معي هو ممل إلى هذه الدرجة؟‏

    كاد أن يبكي، وأحس بأن خراب روحه بات يمزق أشلاءه، وهي. تحس به، تدرك أن أمراً يشغله ولا يريد قوله.‏

    - حامد.. أنت تريد أن تقول.. قل لا تتردد، أنا أفهمك!‏

    واستجمع شجاعته، ثم استدعى صراحته، وأعد فمه للبوح:‏

    - غادة.. من هنا يمر شارع.. ومن هنا سنغادر إلى المجهول.. ومن هنا سنفترق وقد لا نلتقي أبداً!‏

    الاتساع في عيني غادة، لا يتسع لقراءة مثل هذه الكلمات.. لمثل هذه الحقيقة لو كانت حقيقة فعلاً!‏

    كانت تلتقط كل حرف، كل همسة وحركة فيه.. ترسمه، تعطي أبعاده.. وتكون منه الكلمة.. ثم الجملة.. وعندئذ تجدها جملة غير مفيدة.. فتنفي عن أذنيها ما سمعته، وتطلب إلى حامد أن يشرح لها.. أن يوضح لها ما يريد قوله، ما يريدها أن تفعله، ما القرار الذي يمكن أن يتخذ.. معنى أن يفترق أحدهما عن الآخر، معنى أن يزول هذا المقعد الخشبي، معنى المغادرة إلى المجهول.. كل شيء بدا مغلقاً عليها واستعصى الأمر أمام فهمها.‏

    ومضى حامد في حديثه متجاهلاً.. العجب والذهول الذي انتاب إحساس غادة وشل كيانها، ليس لأنه يريد لها أن تتألم أكثر.. ثم تبكي.. ثم تصل حد الاختناق، وإنما لأنه بدأ الحديث المر ولا يريد أن يقطعه.. كما أنه لم يعد قادراً على تقديمه إلى غادة على شكل دفعات ليسهل عليها هضمه.. ذلك أن صدمة الخبر قد وصلت إلى أعماق روحها.‏

    قاطعته، في محاولة منها للتعلق بآمال.. تعرف أنها مستحيلة:‏

    - حامد.. الورود التي حملتها إلي لم تذبل بعد.. وحين تكف عن نشر عطرها، سأخلدها، سأجففها وأضعها في أعماق روحي، وأكحل بها عيني حين تغيب..‏

    ولامست أصابعها شعرها.. فابتسمت.‏

    كان يريد أن تطمئن إلى ثقته بها، وإخلاصها له.. إلا أن الآمال التي رسماها معاً لمستقبلهما.. كانت في طريقها إلى التلاشي وإلى الانطفاء.. وهي لا تريد الآن سوى أن ترى الشمس مقبلة نحوها، أو أنها مقبلة إلى الشمس.. فقد تكلل صبرها.. بنتائج سارة.. أنهى حامد دراسته الجامعية، وأكمل الخدمة العسكرية الالزامية كل ما فيها من قلق وترقب، وهو الآن يعد نفسه لوظيفة أو عمل حر.. ومن ثم بناء عش.. مشابه إلى ذاك العش الهادىء في أعالي الشجرة التي تواجهها..‏

    لم يعد المستقبل يهدد الآمال.. ولا شيء يحول دون السعي لبناء سعادة بدأت تنمو عند مقعد خشبي في حديقة عامة إلى حياة تمني النفس بالراحة والهدوء.‏

    - غادة العزيزة.. انتبهي إليَّ جيداً.. واستيقظت حواسها كلها.. صارت كلها عيون وآذان... ومضى حامد يقول:‏

    - غادة.. الشارع الجديد سيمر من هنا.‏

    وقالت لنفسها غادة.. الشارع يخترق القلب .‏

    - غادة ... مقعدنا الأثير هذا سيتلاشى‏

    وقالت لنفسها: غداً سيتلاشى همسنا.. وستفنى كل ورود الحديقة حين تغيب أنظاري عنها.‏

    - غادة.. الوظيفة صارت بعيدة.. والعمل لا وجود له.‏

    وحدثت نفسها: غادة.. يمكن لك أن تتعلمي الخياطة والحياكة.‏

    - غادة.. ولابد من الرحيل.‏

    وهمست لنفسها: وسأكون معك.‏

    - غادة.. أنا لا أملك قوت يومي.. والرحيل ملزم إلى مسقط الرأس.‏

    ولامست رقبتها.. لا رأس لي دونك.‏

    - غادة.. صارت مدينتي بعيدة.. بعيدة، والعالم من حولي مجهول.‏

    قالت لذاتها: دعها تقترب، أو لنقترب منها من مدينتك ومن العالم.. وحدق فيها، كأنما اكتشف أنها قد تحولت إلى جماد وليس أمامه سوى أن يبعث فيها الروح، هتفت:‏

    - تلك هي الغيوم التي تتحدث عنها..؟‏

    - تلك هي..‏

    - سأنتظرك.. غيوم.. فأمطار.. ثم مزيد من ضوء الشمس.‏

    - غادة.. قد لا تعد الغيوم بشىء.. قد تترك عتمتها ثم ترحل..‏

    ولكنك لست من هذا النوع.. من الغيوم.. أنت لا ترحل في العتمة ولا تترك لي سوى أشباح الظلمة.. هذا ليس أنت..‏

    - لا أستطيع أن أعد بشيء.‏

    - وأنا ألا تريد أن أعدك بشيء؟‏

    - أريد.. أريد بكل تأكيد..‏

    - ولماذا تريد أنت.. ولا أريد أنا!؟‏

    - أنت أكثر استقراراً مني.. أما أنا.. فسأرحل إلى المجهول!‏

    وكتمت صرخة اختنقت في أعماقها.. أرادت أن تعصف به، وأن تغضب منه، وتقتل فيه حياتها..‏

    كان شلال الدموع ينهمر.. كان العمر كله يتلاشى.. مثلما كانت كل الآمال تذوب.. تذوب.. ثم يمحي أثرها.‏

    كان المقعد الخشبي ينسحب من تحتها شيئاً فشيئاً.. حتى أحسا برطوبة رمل الحديقة يتسلل إلى عظامهما.. كما أحسا بأن ورود الروز قد تبدد عطرها، وراح النمل يتراكم على أغصانها وأوراقها.. فتجف.. تجف.‏

    كانت الغيوم تتجمع.. كان العش الساكن في أعلى شجرة الصفصاف يتحرك ثم يسقط بفعل رياح وغبار ورشقات مطرية وثلجية.‏

    .. وفي العتمة التي تركتها الغيوم في المكان، هتفت غادة:‏

    - حامد.. حامد.. انظر، انظر.. هذا ثلج صاف، أبيض، ومثير، أشبه بالكريستال.. انظر.. انظر.. هناك في الأفق قوس قزح.. انظر.. انظر.. الشمس بدأت، عملها.. بدأت الأمطار تنهمر.. والغيوم تتلاشى.. والشمس تطلع.. أنظر.. أنظر إليها يا حامد!‏

    حدق حامد في كون مفتوح أمامه.. وأحس بأن روحه تضىء.. وأن آماله يمكن.. يمكن أن تنجز.. يمكن.‏

    وكانت غادة ترى في عينيه نفسها.. فتشرق آمالهما.. ويركضان نحو الشمس يستقبلانها بفرح غامر

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()