بتـــــاريخ : 11/15/2008 7:32:37 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1561 2


    أوسمة .. وجثث أخرى

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : سهيل نجيب مشوّح | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    نرسم وجوهاً جميلةً، ونحملها على أجسادنا، لنمعن في الغرور، حتى تتطاول قاماتنا عبثاً.هنا.. في هذه الغرفة الفسيحة نقضي صباحاتنا واجمين وملامحنا المنمقة تحمل رضىً مصطنعاً. كنا نحن الخمسة نأتلف قسراً. يجمعنا العمل، وتفرقنا المشارب، ويأسرنا الحلم.‏

    وحده ابراهيم الذي يتلفت حواليه. يبحث عمّن يشاكسه، وإذ يبدأ بي أصدّه بصلف، فيشتمني، ويردف بعبارات مبعثرة يرشقها في وجوه الجميع، وحين يستمرّصمتنا، ويغرق كلُ منا في تأملاته.يشعر ابراهيم بالخيبة، فيسحب منديلاً أصفر من علبةٍ أمامه، ويتمخط بغيظٍ واضح، ويلقي المنديل بهمجية على مقربة من زميله المجاور، ولمّا لم يكترث لفظاظته، يشدّ طرف غترته ليتابع مهمته.‏

    ما الذي يستعر بداخلك أيها (المشتوم) الأبدي؟!. منذ خروجك وأنت تغتسل بسيلٍ من السباب، و.. تعفو،كنت تقول:لايهم!!.. (من خرج من داره قلّ مقداره). هذا المثل يلازمك كجواز سفرك.‏

    في البيت . لم يكن الوضع أحسن حالاً، حتى الصغار يغرقون في ذهولهم، وأخالهم حين يحدّقون في الجدار الأبيض الخشن لساعات بأنهم يعدّون مساماته من قبيل التسلية، إلاّ أنّ وجوههم البريئة الصافية وهي تحتقن بحمرة مفاجئة تنذر ببكاء مكتوم تحمّلني أحزاناً لاطاقة لي بها، فأعدهم بشمس مشرقة، ولهو طويل في ظهيرة الغد. أما زوجتي المسكينة فإنها تدعو للشفقة-فعلاً- بحركتها الدائبة بين حجرات المنزل دون هدف، وكأنها تسعى بين الصفا والمروة، وصمتها العميق يضيف وقاراً إلى جدّية المشهد.‏

    *‏

    عدوى الكآبة تجتاح الشوارع أيضاً، والمدينة ترفل بأحزانها!!.‏

    أكثر ما أدهشني ذاك اللبناني- صاحب المطعم المجاور لبيتنا-، فقد زاده الحزن تورداً، حتى أصابعه الماهرة بدت بطيئة متثاقلة- على غير عادته-وهي تعزف على الحاسبة حصاد اليوم الكئيب، وتطرح منها نفقات العمال وأفراد الأسرة ولوازم أخرى، وتجمعها إلى بيدر غلتة السابق، وتضربها بسنين الغربة، وتقسمها، و..يكون الناتج حاصل ماادخره للأيام السود.‏

    القامات تنمو وتتطاول.. مالذي يجعلها تكبر هكذا؟!.. حتى أصبحت كعرائس المهرجان، أهو الغضب الذي يتناسل بدواخلها؟!.. إنها الوجوه نفسها، والملامح نفسها المخبأة خلف أقنعة من الهموم، والقلق الثقيل، المطر الغزير الذي أغرق شوارع المدينة لم يفلح في اطفاء الكآبة المستعرة في نفوس الناس. وحدهم الأطفال فرحوا برؤيته، واصطفوا على الشرفات وخلف الشبابيك الزجاجية يمّدون أيديهم الصغيرة لاستقبال خيوطه المتدفقة ويمسحون بها وجوههم المشرقة، وشعورهم الملونّة، وكأنهم يؤدون طقساً قديماً يزيد من غموض المشهد وغرابته .‏

    ..ورغم المطر. تمرّ الجنازة الفاخرة، والنعوش الصغيرة ترفل بالأعلام. يحمل المشيعون (لافتات) كتبت بالخط الكوفي، والأحبار الملونّة تسيل تحت وطأة المطر، وايقاع المشهد الرتيب/ الساكن يتداعى بدخول النادبات، فيختلط العويل بالهمهمات، والجثث الغضة ترقد على نعوشها بلاحراك.‏

    يطلّ المذيع بوجهه الوقور المكتنز، ويعلن من تحت شواربه الكثّة:أبى الأمناء على الخارطة أن تمتّد الأيادي الآثمة إلى براعم الوطن فتقطفها بهمجية، فتنادوا على عَجَلٍ.. يعطس الوقور المكتنز، ويغيب فجأة ليفسح المكان لمشهدٍ جديد.. يظهر في الصورة مجموعة من الرجال المتشابهين في كل شيء. أجسادهم الضخمة، ووجوههم القاسية، وشواربهم الكثّة، وحتى ملابسهم الخضراء المثقلة بالأوسمة ومفتاح الفرج..‏

    تلفَّت حواليّ لأرى أنظار الأطفال مشدودة إلى وجهي تطالبني بشمس مشرقة وعدتهم باشعالها مساء البارحة، وقد أوشكت الظهيرة أن تنقضي، وتوقف المطر تضامناً مع أسر الضحايا، أمّا زوجتي فقد وسعّت دائرة بحثها إلى أماكن (أخرى)، وهي تؤدي دورها بأمانة.‏

    الأيام التالية تشبه سابقاتها. القامات تتطاول، وجميع المخلوقات تسير إلى حتفها بجرأة عجيبة، وتنمو الضغائن، وتتراكم، و.. ابراهيم يئس من صمتنا فاتجه إلى القراءة لتضييع الوقت.. ذات مرّة، قال موجهاً كلامه إلى جمال المصري: هل عندكم قبائل مثلنا؟.. ردّ جمال بضيق : لا.. لا..‏

    قال ابراهيم: يعني أنتم أبناء زنى‏

    قال جمال: لاأعرف . المهم لسنا مثلكم .‏

    بصق ابراهيم في سلة إلى جانبه وقال : موتكم أحسن ياغبار الشوارع‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()