بتـــــاريخ : 11/12/2008 4:35:48 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 826 0


    المدار الجديد

    الناقل : mahmoud | العمر :34 | الكاتب الأصلى : جان الكسان | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

    إني أختنق..‏

     

    ضيق متعب يشد أضلاع صدري إلى الداخل.. خيبة كبيرة أحسها دوامة عنيفة انداح فيها بيأس، والعينان الآسرتان في وجه خطيبتي (هالة) تلوح فيهما سخرية حادة..‏

     

    هناك لم أكن هكذا.. وأحلامي كانت تقطع كل المفازات وتتحدى جبالاً وتلالاً وسهوباً، وتظل في إطلالة عالية كصهيل الجواد المتمرد وقد حطم عناد قمة..‏

     

    أشعر اليوم أنني انتهيت من حيث كان علي ان أبدأ.. انني عاجز تماماً عن قلب مفهوم بدايتي ونهايتي في مدينتي هذه الكبيرة التي أضاعتني.. أنا لست بطلاً فيها..‏

     

    هناك قالوا عني انني بطل، ولكن للبطولة هنا مفهوماً آخر، لا أصلح له وفي رأسي هذه الأفكار التي تومض بشدة..‏

     

    مدينتي بدأت تخيفني.. تثير الملل في نفسي.. تشعرني بضياع كبير لا أجد منفذاً للتخلص منه، لم تكن هكذا قبل أن اغادرها إلى هناك.. كانت في نظري عجوزاً فاتنة، أفتن من الصبايا‏

     

    لم أكن أعرف حقيقتها قبلاً.. كنت ألتقي بعض أناسها في أحد الأماكن أو ألقاهم مجتمعين في المقهى يقتلون الوقت- وأنا بينهم- في الثرثرة، فأجد في هذه تسلية ما بعدها تسلية..‏

     

    أبي أخطأ في تدليلي.. هذا ما ادركته الآن، وكذلك أمي، واختي سميحة، والمدينة التي أثارت فيّ هذا الملل تذكرني ببداية سابقة مضادة في المفهوم والمسار الذي سلكته.. كان ذلك بداية وعيي حقيقة المدينة وحقيقة الحياة يوم غادرتها إلى الخطوط الأمامية على الحدود‏

     

    البداية.. يوم وقف والدي الكهل بقامة منتصبة في المحطة قبل ان أصعد إلى القطار، يشد على يدي ويقول: هذه الأرض قد رعتك يا ولدي حتى أصبحت هذا الرجل الذي يقف أمامي، لقد كان لي قبلك شرف اداء خدمة العلم، وكنت دائماً أعرف واجبي، وعليك أنت أن تعرف واجبك في حياتك الجديدة.‏

     

    وسار القطار.. وأنزويت في مكاني أفكر في كلمات أبي.. كان قبلاً يدللني بكلمات رقيقة، كان يجعلني دائماً لا أرى في وجودي إلا معنى سعي لا مبالٍ انطلق فيه متواكلاً، كنت أتوقع أن يعانقني ويقبلني بحنان ويبكي ويقول: حاول أن تعود نفسك على حياة الجندية يا ولدي.. إنها حياة قاسية ولكنها ستنتهي..‏

     

    لكنه لم يفعل شيئاً من هذا.. لقد قال كلماته تلك وربّت كتفي بهمة شاب معتد بقوته..‏

     

    شعرت باعتزاز كبير.. شعرت بدماء حارة تتدفق في عروقي ورأسي، وبقلبي يكبر ويكبر حتى خيّل إلي لحظتها أن في وسعي أن أوقف القطار بسبابة يدي.‏

     

    في المعسكر.. قالوا في الأيام الأولى انني جندي جبان.. إهانة قاسية كأنها ضربة مطرقة هائلة ارتج لها كياني، وزاغت عيناي فبدت امامهما الرؤى باهتة مهزوزة.. وانزويت في (البلوكوس) افتش عن الجبن في ذاتي، فلا اجد له ظلاً سوى انطوائي على نفسي، واجتراري ذكريات المدينة، وصور التجهيز، والمقهى، وخمارة أبي إبراهيم، وشلة الرفاق، وعيني هالة الآسرتين..‏

     

    ووجدتني حبيس ذاتي.. حبيس هذه الذكريات التي ما تنفك تسلب إرادتي فإذا أنا أدور معها.. وادور.. وأدور.. جندي جبان!!.‏

     

    كنت لم أخض معركة بعد.. ولم يعجم عود شجاعتي، فلماذا الإهانة؟ حاولت جاهداً أن أقنع رفاقي بأنني لست جباناً، وأن تهمتهم باطلة، ولكني عبثاً كنت أحاول.. وأدركت الفرق بين حياتي في المدينة وحياتي في الخطوط الأمامية..‏

     

    في المدينة كنت أرد بتزييف الحقائق.. باجتراح موهوم ابديه بانتقال امام الكاذبين والحا سدين، فيصدقني الناس.. أمي كانت تفعل هذا.. كانت تقول لجارتنا أم سهيلة عندما تسألها كم تقدر لها من العمر: لا أظنك تتجاوزيين الثلاثين... فتشيع ابتسامة رضى عريضة على وجه أم سهيلة طيلة الجلسة، حتى إذا انصرفت، وثرت على مراءاة امي، ربتت خدي بيدها وهي تقول: أنت لا تعرف الحياة بعد.. يجب أن تساير الناس حتى تستطيع أن تعيش بين الناس.‏

     

    وأظل في انطوائي، أحتل ركناً منزوياً في البلوكوس وأنا سادر مع ذكرياتي في المدينة، أجترها مع جرعات الشاي الأسود الثقيل، ولعنة الكلمة (جبان) تصطرع في نفسي بعنف وأنا أنظر إلى وجوه رفاقي: سعيد، وعايش، وسمعان، وسلمان القصير ذي السحنة الصفراء والأسنان الكبيرة وهو يضج في المكان..‏

     

    كم كرهت هؤلاء في اول عهدي بالمعسكر.. شعرت بخيوط النقمة تتدافع من كياني ليلتف كل منها على واحد منهم، وكان الخيط الذي يلتف حول سلمان أغلظ الخيوط، واشدها قسوة، وأقدر على عصر رقبته.‏

     

    -. جبان.. جبان..‏

     

    وصحت به: لماذا يا سلمان.. لماذا تهينني؟‏

     

    -. جبان.. جبان.. جبان...‏

     

    لم اكن أتصور أن لكفي كل هذه القوة إلا عندما رأيته يتداعى على نفسه ويسقط.. ولولا أن أنقذه مني العريف ناصر في اللحظة الأخيرة لاجهزت عليه..‏

     

    قال الملازم عدنان آمر السرية: لماذا ضربت رفيقك؟.‏

     

    -. ....‏

     

    _. قلت لك لماذا ضربته؟.‏

     

    -. لأنه أهانني..‏

     

    -. ماذا قال لك؟.‏

     

    -. قال انني جبان‏

     

    -. ولكنك أخطأت في تصرفك.. سأرفع تقريراًبسجنك ثلاثة أيام مع طلب الزيادة، وحاول أن تكون ملتزماً مثل رفاقك.. انت تتهرب من التدريب، وتتمارض، ولا تحاول أن تتسلق التل معهم، وتدعي دائماً أن حذاءك غير مريح، وتلح في طلب الإجازات لزيارة اهلك.. هذه الأمور كلها، وأن كانت لا تدل على الجبن الحقيقي إلا أنها ليست من صفات الجندي.. هل فهمت؟. اذهب الآن وحاول ألا تثبت لي ما ينعتك به رفاقك...‏

     

    وأصبحت بطلاً..‏

     

    قال لي كل من في القطاع: (( أنت بطل )).. كان اولهم سليمان.. وعبثاً حاولت أن أقنع رؤسائي ورفاقي بأنني لست بطلاً، وبأن ما قمت به يستطيع أن يفعله أي واحد منهم.. لقد أسكتوني غير مقتنعين.. وقال الملازم عدنان وأكد على ذلك النقيب شوكت: لا شك أن كل اخوانك الجنود بواسل شجعان، ولكن للبطولة معنى مختلفاً في الميدان.‏

     

    كان آمر السرية قد قال لنا في اجتماع مفاجئ: امامنا عمل خطير يجب أن يتم.. يجب أن يتطوع احدكم لنسف الجسر..‏

     

    (( كان الجسر عقدة مواصلات العدو في القطاع))..‏

     

    وفي صباح اليوم التالي كان خبر تسللي إلى مواقع العدو ونسفي الجسر حديث الخطوط على طولها..‏

     

    وأصبحت سعيداً.. كدت أبكي من فرحي عندما أثنى علي قائد الفوج وقرأ على الجنود ثناء القيادة أيضاً..‏

     

    وبعدها تكامل ايماني بالقيم الحقة، وكفرت بفلسفة أمي، وأم سهيلة، وألف ألف واحدة من امثالهما.. الحقيقة وحدها أقنعتني بأنها فوق التهم الباطلة..‏

     

    ...‏

     

    إني أختنق..‏

     

    كنت آنذاك أكثر سعادة، وفي عروقي كنت أستشعر استمراراً حاراً لتوثب دافق، كنت أشعر بنفسي أكاد الأمس حدود المطلق من السعادة عندما أتمدد بثياب الميدان على العشب، وجهي إلى الأرض، أمرغه في قطرات الندى الباردة اللامعة على السوق الصغيرة، وذهني صافٍ خالٍ من خواطر المدينة التي عدت أحياها اليوم واقعاً متعباً يجعلها تتسلق جبهتي بضنك، ثم تتساقط كالعقارب‏

     

    مدينتي كلها، العجوز الفاتنة.. أصبحت امامي عجوزاً مريضة، وأنوارها التي كانت تبهرني في الأمسيات الدافئة، أصبحت بدورها كومة من عيون عفاريت وقحة تتراقص بجنون فوق الواجهات، أو تجثم ببلادة على أعمدة طويلة. وشلة الأصدقاء.. ندماء المدرسة والمقهى والتسكع.. أصبحت أمقتها.. أصبحت غريباً بين أفرادها.. بدأت احس بسكاكين تمزقني في قهقهاتهم الجوفاء وهي تنفجر في وجهي حمقاء بلا رجولة، كلهم بدوا أمامي ضائعين في ثيابهم وفي أشيائهم الأخرى الصغيرة..‏

     

    لماذا يضيعون عن الحقيقة؟. لماذا لا يتخلون عن فلسفة أمي وأم سهيلة؟.‏

     

    يقول (نعيم) وهو الذي كان يفاضل لمدة ساعة بين أنواع الدخان الأجنبي: إسمع يا بطل.. لولا أن أبي دفع لي بدل الخدمة نقوداً لسبقتك إلى هذه البطولة، ولكن حظك أقوى من حظي..‏

     

    وأسأل نفسي: هل أنا مريض؟. ألم أعد أصلح للحياة الاجتماعية بين الناس؟.‏

     

    وأتذكر قول أمي: ((يجب أن تساير الناس لكي تستطيع أن تعيش بين الناس ))..‏

     

    ولكن.. لماذا لا يسايرني الناس بدل أن اسايرهم؟. أنا عرفت الحقيقة وهم غافلون عنها، فلماذا اشد نفسي إلى الأرض بكلمة إنهزامية: مسايرة؟.‏

     

    (( يا مدينتي.. سأرحل.. إلى هناك.. لا أريد أن أؤمن بعد اليوم أن الشمس يمكن أن تكون باردة في خط الإستواء)).‏

     

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()