بتـــــاريخ : 11/15/2008 7:29:19 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1448 0


    تحولات.. عثمان العاق

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : سهيل نجيب مشوّح | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    ..(وبعض ماجاء في سيرة عثمان أنه يدعك تقف ببابه طويلاً قبل أن يلاقيك بحفاوة تطفئ في نفسك جذوة الانتظار فلا تبتئس إذا ما قابلته!!..لأنك حين تراه، سيمطرك بوابل من الأعذار الرخيصة، ويعدك بفسحة أكبر من وقته (الثمين)إذا ما جئته ثانية.‏

    إنه لكذلك دوماً. يقتصّ من أنفة الرجال، ويجرح كبرياءهم، ويلوّث شهامتهم.. يحاول أن يحيلهم إلى مسخ من ذات فصيلته، فينتقم لذلّه، وسنوات التيه الطويلة التي تخبّط فيها وحيداً .. مهزوماً في فيافي ذاته الشاسعة قبل أن يقرّر الرحيل، والعودة إلى ذويه بعد أن طالت غربته، وفاحت هزائمه. لاتكترث-كثيراً- لمقدمته الطويلة في سويعات اللقاء(الساخن)، لأنك حين تقلّب كلماته في رأسك بعد أن تودّعه، فلن تخرج إلاّ بوعود، وأماني لا تعوضك مرارة الإنصات القسري لحديثه الممل وإنك ستذكر-حتماً- شراهته المفرطة في التدخين، وستذكر- أيضاً - يده المضطربة وهي تستلّ السيجارة تلو الأخرى، وذلك الذهول الذي يتلبسه حين تمرّ الأسماء بمسمعه، وتلك الكآبة التي تخيّم على وجهه-وقتها-، وكأنه يستعيد شريطا يؤرّقه، فتلتمع عيناه شراسة، ويمعن في الصمت ليرسم نهاية مخزية تليق بهيبة الإسم، ووقاره..‏

    ومثلما تتباهى غانية بمفاتنها، أو حصان بفحولته، تجده يفاخر (بتحوله)، وما علّمته الحياة حتى وصل إلى هذا الحال، فيضرب لك الأمثال، ويكيل لك ماحفظه من أقوال الفلاسفة الرعاع، ومذكرات الساسة الخائبين، وأقوال السلف، وما ورد في بعض الأثر، و.. يتشفّى بضجرك وأنت تنصت إليه مرغماً. لاشيء يسعده أكثر من أن يحيلك ظلاّ تؤنس قيظه، فتتطاول تارة، وتكبر أخرى، ثم تصغر شيئاً فشيئاً، وتنبسط لتّتحد بهيئته، حتى تتلاشى تماماً، وتتفسخ مثل جيفة، فيتركك بقايا جثة، ويضحك منتشياً بانتصاره، ويصفّق لهزيمتك ثم يمضي، ويترك الباب موارباً لاستدراجك ثانية عندما يشاء ولكنه- والحق يقال- مازالت في رأسه بقايا نخوة يقدحها إذ يصل إلى أوج تألقه، وتهيم روحه في فيافي لذّاتها، فحين تداهمه تلك النوبة يمكنك الوثوق به تماماً، فقل له ما تشاء، ولكن لا تبح له بما لا يعنيه، وتنشر رايات ضعفك على حبال توجسه.. إيّاك أن تفعل ذلك، لأنك-إن فعلت- تكون قد أسلمته قيادك إلى حقول إنكساراته، فيعمل بما أوتي من حيلة على ترويضك، فتتبعه طائعاً ليزرعك هناك(فزّاعة) تبعد عنه أذى الطيور اللواقط، حتى يكتمل حصاده، ويعلو بيدر غضبه، ويرتفع.. ثم يلتفت إليك ليكافئك بسخاء- على طريقته الماكرة- بعد أن يجني أكله، ويدعك كومة قش في مهب الريح تتناهبك الندامة والفشل.‏

    أترغب في أن تراه يخرج عن وقاره؟..‏

    أن يغدو كطفل أجفل من صرصار اندفع بين قدميه فجأة؟..‏

    إذا أردت أن تراه كذلك.!! فحادثه بأخبار الموتى، وأمعن في تفاصيل النزع الأخير، وسكرات الموت المرّة، وعذاب القبر، وحمأة جهنم، وبئس المصير!!..‏

    عندئذ.. ستجده قد امتقع لونه، وزاغ بصره، وبدأ (تحوله) الفعلي.. هذا هو عثمان!.. وهذه طبائعه!..‏

    لو أنك حادثته عن أمراض النسوة الشائعة لوجدته يتفقّد أعضاءه قلقاً، ويعضّ سيجارته حتى تتقطّع أنفاسه قبل أن يركن إلى هدوئه بعض الشيء، ويأمرك بتغيير الحديث، أو يتململ في جلسته ضجراً حتى تبارح مجلسه.. إنه مثير للشفقة والغرابة بآن واحد !.‏

    ليس هذا كل ما أعرفه عن عثمان، وما قرأته في كتاب(السيرة) ولكني أربأ بالخبز والملح، والماء البارد، والأرائك، والغرف الموصدة، وكل اللذّات الأخرى التي جمعتنا طوال سنين .. أن أبوح بما يفضح عورته..‏

    ولكني- أذكر فيما أذكر - يوم التقيته أول مرّة. كان يسير متلفتاً حواليه كمن يهرب من ظلٍ يطارده..كان شاحباً، مضطرباً يثير الفضول، وهذا ماجعلني أتقرّب منه- وقتها- لأعرف سرّ قلقه، فما هو بلصٍ لأن أناقته وضعفه لا يوحيان بذلك!!..‏

    وحين عرفته فيما بعد، وسرّلي بدواخله أن أخففّ عنه ما يكابده من قلقٍ عندما يبدأ البحث عن طريدة قد رسم ملامحها في رأسه ليصبّ عليها جام حقده، ويتطهّر من بؤس هزائمه كلما ألمّت به نوبة (التحول) هذه، وحاولت عبثاً أن أثنيه عن غيّه، فأجابني ذات مرّة: شيء ما تهشم في داخلي، منذ سنين خلت-جعلني أتلذذّ بهزائم الآخرين، فدعني وغييّ إنني أشعر بضياء يغمر عتمه روحي الداكنة كلما أمعنت في ذلّ أحدهم. قلت له: أشح بوجهك عن عليائه، ( فإنما أنت بشر مثلهم)، وسينالك من بؤس الحياة مثلما أتاهم، فامتثل للتواضع لأن سيوفك التي تنتصب أمامك مزهوة بفتوح كاذبة يقطر منها شموخ الأصدقاء.‏

    قاطعني: لايهمني أمر أحد. قلت : أعدها إلى أغمادها كي تستريح، ووفّر جحيمك لنزالٍ أسمى فما أوفر خصومك من البشر الذين ناصبتهم العداء، وأعلنت الحقد عليهم في سرّك، إذ توهمت في سويعات غضبك بأنهم يضمرون لك شرّاً، أو يرسمون لك درباً إلى الانطفاء، وماهم بكذلك يا عثمان، لأن بهم حناناً نحوك لو علمت بحجمه لتواريت خجلاً، أو لخررّت تحت أقدامهم تطلب المغفرة.‏

    قال: صدّقني..حاولت، ولم أفلح.‏

    قلت: حاول ثانية.. أعد الكرّة..أخرج من غيهب ظلمتك إلى عالم رحب جميل، وستجده يتسع لك، وللآخرين.‏

    ردّ بعصبية بعد أن جذب نفساًً عميقاً من سيجارته: ولكن تلك الرحابة التي تتحدث عنها هي التي تخيفني أكثر من أي شيء آخر، وكلما خلتها تتسع يزداد قلقي خشية أن يمتدّ إنكساري على مساحتها،فأفقد السيطرة على عالمي، فأتبعثر، وأضيع. هكذا إذن!!..فما كنت حتى تلك اللحظة أعي ما يجول برأيه من أفكار، ومازاد قلقي أنني حتى بعد أن عرفت كل الذي عرفته بقيت مصمماً على صحبته، وليس هذا فحسب، وإنما كثيراً ما انبريت مدافعاً عن سقطاته المتكررة، وأتحمّل بعض ما يجري.. الشيء الوحيد الذي أفعله بوعي هو أن أدع مسافة بيني وبينه تجعلني بمنأى عن حمم غضبه، ونتناجى، أو نتعاتب من خلف خنادقنا، حتى بت أتساءل: هل يعقل أن أخافة، وأشتاق إليه؟!.. وما الذي يدفعني إلى القبول بتلك العلاقة (المستنفرة)؟!.. لم لا، وقد أعلن حربه ضد الجميع بصراحة متناهية، وأنامنهم!.‏

    ذات غضب، وفي لحظة حشد فيها كل شجاعته، قال لي : أودّ أن أبوح لك بسّر لا أخاله يسعدك.‏

    قلت -مبدياً عدم الاهتمام- وبي رغبة أن أغوص داخل ذاته أكثر فأكثر لمعرفة المزيد : قل إن كان بوحك يمنحك الراحة :‏

    قال لي: تعرضت لمشادة مع أحدهم ذات يوم، فغلبني،ومضيت مقهوراً إلى مقهى في الجوار طلباً للراحة، فناديت النادل، وعرضت عليه مكافأة مجزية إن هورضي أن أبصق عليه، أو حتى أصفعه دون أن يتنبّه الحاضرون..‏

    سألته بفضول الصغار، أستعجل النتيجة: ها .. وماذا حصل؟!. تابع حديثه بقهر: لقد رفض طلبي ذلك القذر، وأعرف أن به حاجة إلى لنقود أكثر من حاجته إلى كرامة لاتفيده بشيء‏

    -ها.. وماذا فعلت بعدها؟!.‏

    * أردّت -حينئذٍ- أن أشتري المكان بمن فيه، ولكن!!..فرحت فرحاً لا يوصف، وقد ضقت ذرعاً (بساديته) المفرطة، وقلت له قبل أن أتركه: تباً لك .. إنك لمن الغابرين. مضت سنين على تلك الواقعة، لم ألتق بعثمان خلالها بحكم الظروف، وتباعد المسافات فيما بيننا، وما عدت أعرف عن أخباره سوى ما يحمله البريد، أو يسرّ لي به القادمون من دياره كل حين. أمور كثيرة قد تغيرت في تلك الحقبة، وتبدّلت الأحوال، وجلّ ما سمعته عن عثمان أنه ماضٍ في (تحولاته)، وينمو غيّه ويتكاثف، وأن حرباً لاهوادة فيها تدور رحاها بينه وبين ذاته المضطربة، وقد تفاقم سقمه، وبلغ منتهاه. وإذ شاء الله أن أحطّ رحالي إلى جواره، فقد جاشت في نفسي العواطف، وراودني الشوق أن ألتقيه، فضعفت تحت سطوة الحنين وعزمت أن لا أخطو نحوه إلاّ بمقدار، ورأيت أن أغـلّب خوفي منه على حنيني إليه خشية الندم، و..قبل أن أصحو لاتخاذ القرار وجدت يده ممدودة نحوي، وسيلاً من الودّ يعزلني عما حولي، ويطوّقني بأجمل ما تحتفظ الذاكرة من شهد الأيام الخوالي، فوقعت فريسة لأغراء العواطف، ولم يخطر ببالي -للحظة واحدة -أن يده الممدودة نحوي إنما تسحبني إلى مستنقع من الأرق الآسن، وإن شراك غدره ستصطادني بقسوة، وأنا الصديق الأوحد، الأبعد عن سهام حقده، ولم يرحم ضعفي وأنا أنوء بحمل الأيام القاهرة، الماكرة.‏

    جرّدني من دثاري، وأطلق ريحاً صرصراً اجتثّت قدمـيَّ من موطئهما، وسلّط فوقي بروقاً، ورعوداً،وأمطاراً من سجّيل، و..أطلّ من ذات الباب الموارب يقهقه خلفي، فيزيدني هلعاً، وأنالا أذكر في غابر أيامي أن فعلت ما يريبه ليفعل بي كل هذا..أذكّره بالأيام الخوالي، وما كان بيننا من وئام، فيقطّعني أشلاءً، ويقذف بي من بركان شماتته .. أتوسّل إليه أن يكفّ عن هذا، فيصفني بقسوة، ومن جوف عذاباتي رأيت جسدي يتناثر، ولكني عجبت أن رأسي أكثر صلابة مما كنت أتوقع، ففرحت قليلاً، ونسيت جراحي حين تأكدت بأن رأسي في كامل هيئته، وكانت عيناي ترقبان ما يجري بهدوء، ووجهي لا يشبه وجهي، بل يشبه عثمان كثيراً، أو هو ذات الوجه تماماً.لا.. لست متأكداً.لكن الجسد المتطاير أشلاءً حولي، وهذه أشلائي بلاشك‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()