بتـــــاريخ : 11/13/2008 11:52:07 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1446 0


    الدوّارة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أبو العيد دودو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    أحنى قامته الطويلة ومد يده يصافحه، وفي عينيه ابتسامة متعبة، ثم قال له:‏

    - ياسيدي الطيب!‏

    وتوقف عن الحديث، ومسح وجهه بيده العريضة مرة، وواصل حديثه في نفسه أولاً.. حقاً، أنت طيب، وطيبتك هذه ستقضي عليك وتساعد على انتشار فساد أمثالي على درب الوظيفه الخفيف... هذا شيء أعترف به لنفسي الحميمة! ثم وجه الحديث من جديد إلى الطيب:‏

    - ياسيدي الطيب! لقد عيناك مديراً للمهد.. أقصد المعهد طبعاً، أنت تعرف أن للكلمات العربية على ألسنتنا طعم النطق الفرنسي! نعم، عيناك.. فكن على استعداد تام كما يرجى من أمثالك!‏

    فأحس الطيب ببرودة في صدره، ولم يصدق ماسمعه، فرفع صوته معترضاً:‏

    - ولكن... معذرة، ياسيدي الصائب! كيف أعين في منصب من غير أن أستشار مجرد استشارة؟ أنفاجأ هكذا ببساطة؟‏

    قال الصائب:‏

    - نحن لا نستشير أحداً. نحن نعين! اقبل واسكت! هكذا تمشي الأمور، هذا أمر وزاري، والوزارة لا تقبل الازورار، وإلا عد ذلك عصياناً! لم يبق هناك سواك طبعاً. عليك أن تتحمل المسؤولية، فنحن لا نشك في طيبتك وكفايتك، حقاً أنك لطيب جداً!‏

    رفع الطيب رأسه في شبه توسل، وقال:‏

    - لذلك فأنا لا أصلح للإدارة، إنها تتطلب إنساناً حازماً، ولست أرى في نفسي مثل هذا الحزم... ومامن قدرة لي عليها.‏

    مسح الصائب وجهه مرةأخرى بحركة خفيفة، وابتسم ثم قال:‏

    - ولذلك عيناك في هذا المنصب!‏

    قال الطيب:‏

    - لا أستطيع أن أقبل بهذه السهولة. ينبغي أن أستشار وأن أعطى فرصة للتفكير. هذا أمر لم أكن أتوقعه.‏

    لكن الصائب أصر على قوله:‏

    - هذا أمر وزاري. لقد عدت من الخارج إلى الوطن فارضَ بأحكام الوطن.‏

    وحدد نظره فيه وأضاف:‏

    - أمر لا يغير منه قبولك أو رفضك.. الأمر أمر وكفى! ثم لا تنسَ العصيان. فهو مناهضة للسلطة، هناك طرق كثيرة لمن يريد أن يتعلم، والاهتداء إلى الطريقة علم!‏

    وقال الطيب في نفسه.. إنها الطريقة مرة أخرى، ولكنها من نوع مغاير! ثم قال له:‏

    - هذا القول يشبه الحكمة.. أهو منك؟‏

    ضحك الصائب، ودلّى صدره العريض مرتين إلى الأمام، وعدل من جلسته فوق الكرسي الوثير، وقال:‏

    - لقد جعل منا الوظيف حكماء!.. والسابق أكثر من اللاحق!‏

    - أكثر حكمة طبعاً!‏

    - لقد بدأت تفهم قصدي، أنت مدير المهد!‏

    - تعني المعهد.. مرة أخرى!‏

    - نعم، نعم. الكلمات تضيع منا وتختلط، يدخل بعضها في بعض. من الصعب كما قلت، أن نتعود نطق العربية بالعربية!‏

    - الطريقة... علم!‏

    ولم يفهم الصائب الإشارة، وهز رأسه إعجاباً بنفسه، وقال:‏

    - دائماً.. دائماً، نحن نعرف صومعتك!‏

    وابتسم الطيب رغماً عنه، وقال:‏

    - لا صومعة لي ولا طريقة! تقصد أنك تعرف سمعتي!‏

    - هو هذا... هو هذا.. الأمر سيان.. ها.. ها .. ها!‏

    وصرفه ليلحق باجتماع ما.. في مكان ما، بأمر إداري أو وزاري.. لا فرق! ووقف الطيب في الممر حائراً شبه تائه.. وقد سيطر على وعيه اغتراب الإدارة وغربتها عنه.. عن حياته وعالمه. فقد كان يخاف الإدارة خوفاً شديداً، كان يخشى مشاكلها الكثيرة، ورتابة أعمالها، وكثرة اجتماعاتها الفارغة، وأعباءها الكبيرة. وانتبه إلى نفسه أخيراً، فشق طريقه بين الطلاب والطالبات، واتجه إلى خارج المؤسسة، لا يمكن أن يكون زميله الصائب صائباً حقاً، صادقاً في عرضه، إنه يريد أن يختبره ليعرف مبلغ طموحه وتطلعه إلى منصب المدير.‏

    فإذا اتجهت الإدارة مباشرة إلى شخص معين وعرضت عليه منصباً، فاعلم أنها لن تعينه في ذلك المنصب! لقد سبقت له تجربة من هذا النوع.. مع الصائب بالذات قبل فترة بعيدة.. حين تولى منصب العميد الذي يشغره.. بل يشغله الآن!‏

    وحدث الطيب أهله وأصدقاءه، عن الموضوع في حياء وخوف.. من غير أن يُبدي اهتماماً كبيراً به، ومع أن بعض زملائه شجعه على قبوله وهنأه على الاختيار الذي وقع عليه! لقد حاول أن ينساه وينسى الحديث عنه بسرعة كبيرة، فذلك لا يشكل حلماً من أحلامه. وتمنى من أعماقه أن يكون زميله الصائب.. صاحب الطريقة والمهد والصومعة.. مخاتلاً، مخادعاً، مناوراً، فمامن شيء في هذا يبعده عن طبيعته! على أن الأمر بدا وكأنه يتجه اتجاهاً آخر، فقد جاءه زميله الربيع، وهنأه بذلك ووعده بالوقوف إلى جانبه في عمله، وعرض عليه كل مساعداته، ومع ذلك لم يطمئن الطيب إلى قوله، فقد كان آنئذ على صلة متميزة بالصائب!‏

    وذات يوم دعي الطيب إلى اجتماع سيعقد بعد يومين في المعهد. وإذا به يفاجأ في الموعد المحدد بحضور الأساتذة وأكابر المسؤولين في الجامعة.. ويفاجأ كذلك بتنصيبه مديراً للمعهد. وأخذ يتلقى التهاني، وهو يحاول أن يغطي حياءه وحيرته واضطرابه، وهو يعاني دوماً كل هذا عند دخوله إلى طلبته فيتألق حيناً ويشعر بالخزي حيناً آخر، حاول أن يغطيه بستار من الابتسامات المتكلفة الباهتة.. جعلت لها حمرة وجهه مظهراً خاصاً، وكان قد ألقى قبل ذلك كلمة خجلى.. والحيرة لا تفارقه، تلعثم في أثناء إلقائها غير مرة.. رتّبها على كلمات من نَصَّبه... فلم يكن من عاداته ولا مما يدخل في رغبته أن يقف موقفاً من هذا النوع.‏

    ومرت به أيام في إدارته، ومامن يوم تلقى فيه تهنئة إلا وطلب من صاحبها أن يعزيه، فهو غير فرح بمنصبه. ولا هو مبتهج به... وعلى استعداد للتنازل عنه وتسليمه لمن يسعى إليه ويرغب فيه. كان أكره شيء إلى نفسه المناصب الإدارية الجوفاء ومايتبعها من مظاهر فارغة.. تفرغ من يتقلدها من محتواه، إن كان له محتوى! ومن شأنها أن تشغل مثله عن عالمه المفضل، عالمه الفكري والأدبي، تشغله عن كتبه وإنتاجه العلمي والفني. كان يعتقد أن سطرين يكتبهما في بحث أو دراسة أدبية أكثر فائدة لوطنه.. من زاوية تصوره له.. من عشرة أيام يقضيها في الأعمال الإدارية التافهة.‏

    وظل قرابة أربعة أسابيع لا يعرف وضعه بالذات في هذا المهد.. على حد تعبير الصائب! لم يكن في يده سوى وثيقة تعيينه مديراً بقرار من الوزير. أما كيف يعمل، وعلى أي أساس يعمل، وما هي صلاحياته ومامداها، ماهي امتيازاته وحقوقه، إن كان ثمة امتيازات وحقوق، وماهو ممن يبحث عن هذه... وماهي حدود إمكانياته، فإنه لم يعرف عن ذلك أي شيء. وأقلقه ماهو فيه، فاتصل بالصائب، ودخل عليه وهو في عزف، بل في اجتماع، منفرد.. ولم لا يخطئ كما يخطئ الصائب و... يغترب في اللغة على شاكلته، فالاختلاط عدوى، وإن كان اغترابه ذا طبيعة أخرى! وقال له في لهفة:‏

    - أخبرني، بربك..‏

    فقاطعه مغترباً:‏

    - أترك ربي جانباً، فلا دخل له في هذا!‏

    - وابتسم الطيب لاغترابه وبعده عن.... هذا القسم العربي الأصيل.. وقال:‏

    - فليكن ماتريد، ولكن أخبرني، ياسيدي، ماذا أفعل؟‏

    فقال.. وهو يبرز عينيه دون أن ينظر إليه:‏

    - لا تفعل شيئاً!‏

    وظنه لم يصدقه القول.. رغم الأمر الوزاري، فسأله:‏

    - لا أفعل شيئاً؟ ألا يحتاج هذا الأمر إلى إيضاح؟‏

    ونظر إليه هذه المرة، وقال:‏

    - قلت.. لا تفعل شيئاً. دع الأمور كما كانت تسير!‏

    فحرك الطيب رأسه في حيرة، وعاد يسأله:‏

    - وإن هي لم تسر.؟‏

    قال الصائب:‏

    - أبدأ من حيث أنت!‏

    قال الطيب:‏

    - ولكني ليس لي.. حيث!‏

    فرد الصائب قائلاً:‏

    - الصفر.. حيث!‏

    ولم يصدق الطيب أذنيه من جديد، فتساءل:‏

    - أتعني أن علي أن أبدأ من السفر.. أقصد من الصفر..من الصفر؟‏

    - ذلك ما أعنيه، سؤالك طيب مثلك، السؤال... فهم!‏

    - ولكني لم أفهم، ياسيدي!‏

    - الفهم.. عمل!‏

    - وماذا أعمل؟‏

    - عد إلى الصفر.. كما قلت لك!‏

    - أتقصد أن أحطم مابناه السابق.. الأكثر حكمة...؟‏

    - من يأتي بعدك سيكون أقل حكمة.. يكفيك هذا فخراً، ها أنت قد فهمتني، وهذا يسرني جداً. أنت مدير.. فانظر إلى نفسك على هذا الأساس. أنت حر التصرف!‏

    - في أي شيء؟‏

    - في كل شيء. أنت الآن تحتل المكان الذي كنت أنا فيه خلال السنوات الماضية. كان ذلك قبل أن أدعى إلى هذه المهمات الكبريات! تصرف في كل شيء!‏

    - ليس في يدي أي شيء، ياسيدي!‏

    - بل في يدك كل شيء.. ماعليك إلا أن تطبق مبادئي.‏

    وتذكر الطيب كلمة الاغتراب...وقال:‏

    - أعني ليس في يدي أي شيء من المراسيم والتعليمات.. باختصار من الأوامر الوزارية وما أشبهها.. فكيف أعمل؟ أعطل سير المعهد العادي؟ أزيل ما أقامه غيري؟ أعود إلى الأصل.. أعني الصفر؟‏

    - مهمتك أنت إدارية لا تربوية.. والمعهد يسير الآن كما يسير. ولا شأن لك بالمراسيم الوزارية، فهي خاصة بنا... بي وبرئيسي وحدنا، وستصل إليك تعليماتنا عند الضرورة.. عندما نريد منك شيئاً تفعله! لا تهتم للأمر كثيراً، يكفيك أن تتصرف، اتفقنا؟ وإدارتنا هنا في كل وقت مع السلامة!‏

    خرج من عنده ورأسه يدور.. بل يعتصره مايشبه الليّ الداخلي العنيف.. وفي أذنيه وشوشة كادت تتحول إلى دمدمة صامتة. لقد وجد نفسه في دوّارة مروّعة قاتلة، أنت حر التصرف بناء على الأمر الوزاري، لكنك لا تتلقى الأمر الوزاري.. ذلك من شأننا، وعد إلى الصفر، وحطم كل ماهو إداري.. أما ما هو تربوي فيسير آلياً! مرحى، مرحى! كل هذا لم يكن يهتم به قبل اليوم.. فلا إدارة ولا إلغاء ولا عودة إلى الصفر، ولا الصفر.. حيث! ولا السؤال فهم ولا الفهم عملِ.ِ. ولا يكفيك أن تتصرف مع السلامة!‏

    وكانت وجوه زملائه تطالعه.. منذ أن تولى إدارة المعهد.. في أيام الاستقبالات والاجتماعات الفردية والعامة، تتوسل طوراً، وتأمر طوراً آخر، وقد اتخذت مطالبها الصور التالية على التقريب:‏

    - نحن معك في الهيئة الإدارية.. عينا بمرسوم وزاري... فعليك أن تفرد لكل واحد منا مكتباً، فالمكاتب أربعة ونحن أربعة، لابد أن نكون أعضاء كاملين في الإدارة، وإلا فلا معنى لوجودنا فيها. هذا هو المهم الآن، السعي إلى الحصول على مكتب، بل الصراع من أجله إذا لزم الأمر. لا عمل من غير كرسي هزاز إطلاقاً!‏

    - أنا في الحقيقة... سئلت عنك وعن أخلاقك وتصرفاتك وطيبتك.. فاقترحتك لتشغل هذا المنصب رئيساً علينا، وجاءت الموافقة بفضل تقريري الشفوي عنك! وكان هذا من حسن حظنا جميعاً، أريد أن تأمر بتلخيص محاضراتي... بعبارة أخرى أن تأمر بجمعها في يوم واحد، فهمتني ها! تجمعها في يوم خميس مثلاً، فهمتني ها! أريد أن أحضر مرة واحدة في الأسبوع. أشغالي الأخرى لا تسمح لي بغير هذا، فهمتني ها!‏

    - أنا.. الله يخلي لي إياك! عندي طالبة، أطال الله عمرك وعمرها! هذه الطالبة، ياسيدي، قضت في المعهد عشر سنوات، وتشكو من أنها أكلت أولادها في بطنها، وكل الناس يعرفون شكواها! وهي تريد الآن أن تتزوج.. فزوجها.. دخيلك أنا... أقصد اطلب من جماعتنا.. من الأساتذة أن يخلصوا المعهد منها.. أن ينجحوها! وفي هذه الحالة يكون نجاحها زواجاً لها! لا أطلب منك غير هذا المعروف.. أقصد طبعاً هذه المساعدة. أبوها من أحبائنا الأعزاء!‏

    - سيدي المدير! أنا أدخل في الموضوع مباشرة، عندي ابن أخي، أخرج من المدرسة بشكل لم يكن متوقعاً، يبدو أن من هو أشطر منه استولى بماله من وساطات على علاماته ومكانه في الصف الأعلى. فلي رجاء بخصوصه. حاول أن توظفه هنا.. أن تجد له أي عمل في المعهد. ولك خير الجزاء... يعز علي أن يضيع مثله.. فهو عزيز العائلة!‏

    - أنا من مناصريك.. قلت لك هذا منذ البداية، وأنا لا أزال عند كلمتي، لست ممن يخون كلمته، والرجل يلزم نفسه بكلمته، أنا من هذا النوع. لذلك أريد مفتاح مكتب ما، أراجع فيه محاضراتي في يومها..وأضع فيه أشيائي أيضاً. الأستاذ شيء بأشيائه، بكتبه، بأدواته وما يتبعها، بصراحة.. أنا لا أريد أن تتلقفني وتتقاذفني الممرات والدهاليز المظلمة، ينبغي أن يكون للإنسان احترامه، ويجب أن تصان كرامته!‏

    وكان الطيب في كل مرة.. يعد ويهز رأسه بصورة آلية، وفي أعماقه كلمات، وجمل وأصداء تدوي ويخلف بعضها الآخر: فهمتني ها! أبوها من أحبائنا! فهو عزيز العائلة! الأشياء أستاذ بشيء.. بل الأستاذ شيء بأشيائه! وحين ينتهي الدوي نوعاً ما، يهز رأسه بشكل أسرع ويجيب في أعماقه أيضاً:‏

    حاضر، ياسيدي، فهمتني ها! اطمئن، عيني فدى لأحبائنا وأحباء أحبائنا! وهو كذلك، نحن نرحب بعزيز العائلة! حقاً، حقاً، أنتم شركاء في التعيين الوزاري، والأمر.. وزاري! وأهلاً بكل وزاري من.. بعيد!‏

    وتوزع المعينون المكاتب المتوافرة، وبقيت الوعود الأخرى معلقة. ولم يكن منها ماهو مستعجل سوى وعد واحد. فقد جاءه الربيع ذات صباح لم يكن نيراً بالنسبة إليه، وطلب ماوعده به سابقاً، فاعتذر الطيب عن عدم وفائه بوعده، فقد شغلت المكاتب القليلة كلها، وبقي بعض المعاونين الإداريين بلا مكاتب، غير أن الربيع لم يفهم ذلك أو هو لم يرد أن يفهمه، فثار به ثورة عارمة و... أرسل سيلاً من الكلمات الجارحة.. وكأنه لا يعي مايقول. فانصرف عنه الطيب متألماً وغاضباً في الوقت نفسه، فهو لم يكن يريد أن يفقد مودته بهذه الصورة من جهة، وكان يأمل أن يفهم وضعه المتأزم ويتكيف معه من جهة أخرى.. فقد كان يلتقي معه في أكثر من جانب وفي أكثر من فكرة. ولكن الإدارة تخلق العداوة.. وتقتل الميول. وكيفما كان الأمر فقد كان للثورة والغضب مايسوغهما من الجانبيين، فمن وعد وفى، ولكن في.. ظروف طبيعية!‏

    ومرت أسابيع أخرى والطيب لا يعرف عن وظيفته في المعهد شيئاً محدداً.. ولم يكن يدعى إلى أي اجتماع.. فهو غير موجود بالنسبة إلى الجانب الآخر من المؤسسة.‏

    وإذا حدث له لقاء عابر مع مسؤول في الحاشية.. وسلطة الصائب تسمح بالعديد من الأحشاء.. وكانت في ذهنه كلمة الحواشي. ولكن اللسان.. لسانه سبق.. فما من حاشية بينها تمتاز بالرقة! إذا حدث له مثل هذا اللقاء وسأل... قيل له أن.. انتظر! تربع في مكتبك واسترح.. نحن نزودك بكل شيء عند الضرورة. لابد أن يكون السير.. ضرورة! وليست لنا الآن أية ضرورة، الضرورة تأتي وحدها، فلا معنى للبحث عنها في دائرتنا... وهي التي تأتي إليك في مكتبك!‏

    ولم تأتِه الضرورة في مكتبه، ولكن المشاكل أتته تترى، كانت إحداهما قاصمة الرأس.. لا الظهر! فقد كانت له زميلة، عينتها التجربة.. تجربتها في المكتبة، ولكنها صارت زميلة بين عشية وضحاها بقدرة الضرورة على الأغلب!‏

    جاءت إليه وطلبت منه رخصة الغياب، لتستفيد منها في أمر من الأمور العلمية، فوافق على ذلك استجابة لرغبة.. الربيع، الذي كان قد ساندها في ذلك. ووقَّع الأوراق دون أن يتأكد من محتواها.. ولم يقرأ منها سوى ما كتب أعلاها، وكان يؤكد ماقالته له شفوياً، وماكادت الأوراق تصل إلى المدير، حتى جاءت الضرورة إليه ركضاً! فقد دعاه المدير، وراح يؤنبه، وهو يهز يديه كلتيهما في وجهه، قائلاً:‏

    - كيف توافق على رخصة الغياب ورخصة الخروج... من غير موافقة الصائب؟‏

    فقال له:‏

    - ليست لدي تعليمات في هذا الأمر.‏

    - ليس لديك تعليمات؟‏

    - أجل. لقد قال الصائب.. إن في إمكاني أن أتصرف.. أن أقوم بالمبادرات، هذا ماكان يعنيه. والموافقة نوع منها!‏

    - مبادرات دون موافقتي أنا؟‏

    - موافقتك فوق جميع الموافقات، فالأوراق بين يديك الآن ومن حقك أن ترفض.‏

    - من حقي أن أرفض؟ طبعاً من حقي أن أرفض، ولكن لماذا وافقت أنت.. لماذا؟.. ماهو عذرك؟‏

    - لا عذر لي.. ياسيدي، سوى أنني لا أصلح للإدارة.‏

    - لا تصلح؟ أنت لا تصلح؟‏

    - نعم. وقد قلت هذا للصائب!‏

    - هذا كلام يستطيع أن يقوله أي شخص آخر إلا أنت!‏

    وابتسمت أعماق الطيب.. على النقيض مما يتطلبه الموقف، وصاح داخله.... يامصيبتي! ثم تساءل:‏

    - إلا أنا؟‏

    - نعم .. إلا أنت!‏

    - كيف؟ لست أفهم!‏

    وأسند ظهره إلى كرسيه، وقد ظهرت الجدية على ملامحه، وقال:‏

    - لست تفهم؟ سأفهمك.‏

    - طيب ، فهمني، ياسيدي! أنا معترف بأني أخطأت، فهمني!‏

    ونظر إليه المدير بحدة:‏

    - تريد أن تفهم الآن!‏

    - نعم أليس ذلك من حقي؟‏

    - تقول.. من حقك؟‏

    - أعتقد ذلك!‏

    وأصبحت ملامح المدير أكثر جدية، وقال:‏

    - هل تعرف ماهو حقك؟‏

    - ربما. إني لا أدري ماذا تفهم منه أنت في هذه اللحظة بالذات.‏

    - ماذا أفهم منه؟‏

    - حقاً لكل إنسان رأيه في الموضوع الذي يخصه.‏

    - أتريد أن تفهم أو تريد أن تتفلسف؟‏

    - لم يسبق لي أن درست الفلسفة، ياسيدي! أنا بعيد عنها كل البعد. لا أريد أن أفهم، وكلامي هذا مستوحى من واقعي!‏

    - وهل تعرف ماهو واقعك؟‏

    - طبعاً. واقعي أنني مدير لمعهد لم أسع إلى تولي شؤونه.. وأنني أخطأت وتجاوزت حرية التصرف في كل شيء!‏

    - حقك وواقعك أنك لا تصلح أن تكون مديراً.. ولا حر التصرف!‏

    - ذلك هو ماقلته أنا نفسي منذ البداية.‏

    - لو لم تقل هذا آنذاك لما عيناك في منصب المدير!‏

    - لست أفهم مرة أخرى.‏

    - ولن تفهم. هذه ضرورة الوظيف!‏

    - مادمتم هكذا على يقين بأنني لا أصلح للإدارة، فإني أطلب الإعفاء من هذه اللحظة.‏

    - ليس هناك إعفاء من اللحظة!‏

    - أقصد، ياسيدي، الإعفاء من الإدارة!‏

    - أفهم هذا، لكنك لن تعفى من منصبك في الإدارة.. وفي الوقت نفسه لن تعفى من خطئك!‏

    - إذن.. علي أن أنتظر حكماً صارماً.. الإعدام مثلاً ‎.. على نحو ما!‏

    وارتخت ملامحه، وتخللتها ابتسامة باهتة، وقال:‏

    - هناك ضرورة المهمات الكبريات.‏

    ونهض عن كرسيه، وقال في حزم:‏

    - سأنقلك إلى جانبي!‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()