بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:34:09 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1425 0


    الـمــتاهــــــة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د.ؤ | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الـمــتاهــــــة د.هيفاء بيطار

    كــــــره أحدهما الآخر حتى أصابت كليهما أمراض جسدية، فقد استعمرت الشقيقة رأسها ولم تتركها منذ كرهته، كانت تبقى ثلاثة أيام طريحة الفراش، لاتقدر أن ترى نوراً أو تسمع ضجة، غثيان مستمر وإقياءات وصداع فظيع لايهدأ بأقوى المسكنات. هو السبب هذا ماتؤمن به. ولم يستطع الأطباء الجزم أو النفي بشأن السبب الحقيقي لصداعها العنيد، لكنها كانت تصر وتؤكد لهم أنها لم تتناول حبة مسكنة واحدة قبل أن تتعرف إليه.‏

    أما هو فقد أصابته نوبٌ حادة من خناق الصدر مذ عرفها، وكثيراً ماكان يستيقظ في الليل وهو يختنق ويسارع أطباء القلب لنجدته، ولطالما سألوه عن السوابق العائلية لأمراض القلب في أسرته، وعن عاداته من تدخين وسهر وشرب، طبيعة طعامه، كان يجيب فاقد الصبر ويقول لهم: صدقوني هي السبب، فقد كنتُ شاباً رياضياً، وحققتُ بطولات في كرة القدم حتى تعرّفت إليها. وتزوجنا، تلك المرأة النحس، التي اختنق قلبي في سمومها وحقدها. ورغم انفصالهما فإن أحقادهما ظلت تغلي، وظل كل منهما يشعر أنه مغبون، ولم يثأر لكرامته المطعونة، ولم يُعْد اعتباره أمام نفسه على الأقل، ولأن المثقفين يرفضون -بدافع الغرور ربما- اتباع الأساليب الرخيصة في الانتقام كالضرب والثرثرة وتشويه السمعة، فقد قصدا الطرق العلمية الحديثة لتحررهما من أحقادهما، لكن الطب النفسي وقف عاجزاً عن تفتيت صخور الحقد المتينة في أعماقهما.‏

    وأخيراً توصلا بعد بحث مضنٍ -كل بدوره- ودون أن يدري أحدهما بتحركات شريكه في الكره، توصلا إلى طبيب صيني كان يجري أبحاثاً على أدمغة القرود. وعلى مركز الذاكرة بالذات، وقد تمكن من اختراع دواء يؤثر في مركز الذاكرة ويجعل القرد ينسى حوادث معينة إلى الأبد. وماأن سمعا بهذا الاختراع المذهل حتى اقتحما -كل بدوره- صومعة الطبيب الصيني ورجواه أن يقتل -بدوائه الرائع- من ذاكرتيهما ذلك الجزء الذي يحتله الآخر، كانت هي السبّاقة، ورجت المخترع أن يقتل تلك الخلايا في دماغها التي تسجّل ذاكرتها معه، وأن يمحو صورته وصوته وحركاته، وحاول الطبيب أن يُفهمها أنه لم يتأكد بعد من نتائج دوائه، وأن آثاراً جانبية خطيرة قد تنجم عن استعماله، وأنه يجرّب على قرود وليس على بشر، وأن أي دواء يجب أن يخضع لتجارب سنوات طويلة قبل أن يطبّق على الإنسان، لكنها بكت بحرقة وأسهبت في شرح مأساتها، وأكدت للطبيب أن مصيرها الانتحار فيما لو لم تتحرر منه، وذعر المخترع من منظرها ونصحها باستشارة أطباء نفسانيين. ضحكت وهي تجيب: لقد استشرت أشهر الأطباء النفسيين وعجزوا عن إطفاء أحقادي على هذا الشيطان المُتنكر بهيئة رجل، لقد دمرّني صدقني، إنه سبب استقالتي من عملي، فقد بلغتُ بسببه حداً من الإرهاق جعلني عاجزة عن التركيز في أبسط الأمور.‏

    طلب إليها الطبيب مهلة يومين ليفكر، وليحضر دواءه للاستعمال الإنساني قال إنه سيجري بعض التعديلات على الدواء كي لايسمم جسمها، وحين احتجت قائلة: ولِمَ الانتظار يومين؟‏

    أجابها الطبيب فاقد الصبر: لأنك إنسانة ولست قردة.‏

    وفي مساء اليوم ذاته الذي غادرت فيه المعذّبة صومعة الطبيب، اقتحم عزلته شاب منهك يكاد يختنق من الزلة التنفسية، وزرقة شديدة تصبغ شفتيه وأظافره، قال له: انقذني أرجوك. سمعتُ أنك تقتل أجزاء من الذاكرة، حررني من تلك الساحرة المجرمة، وحين همّ الطبيب أن يطلب الإسعاف، أسرع الشاب يقول له: لاتطلب الإسعاف، لقد عجز الأطباء عن مداواتي فمرضي سببه تلك المجرمة. وتجمّد الطبيب يتأمله برعب وهو يشهق طالباً الهواء، والهواء لايبلغ قصباته المتشنجة بالحقد، وأعطاه إبرة مهدئة وأسرع يبحث في صومعته عن أسطوانة أكسجين. لكن الاسطوانة كانت فارغة للأسف، وبعد ساعة ارتاح الرجل، وقد أخذ يشرح للطبيب مأساة مرضه الذي عجز الطب العادي والنفسي عن شفائه منه، وفجأة انتفض الطبيب وسأل الشاب: هي -المجرمة- هل تشكو من مرض ما؟‏

    ردّ الشاب: المجرمة تدّعي أني سببتُ لها الشقيقة.‏

    وخفق قلب الطبيب وارتجف فزعاً وقال: وماسبب أحقادكما، انفصلا وابدأا حياة جديدة.‏

    ردّ الشاب: نحن منفصلان منذ سنوات، لكن الحقد ينهشنا دون رحمة، لقد دمرّتني وشوّهت صورتي أمام الناس، كانت السبب في طردي من نادي كرة القدم، وتململ الشاب فاقداً الصبر، ولماذا نخوض في الأسباب، وماذا يفيد أن أحكي لك كل خلافاتنا.‏

    ستعاودني النوبة صدقني. مايهمني الآن -وانهمرت دموعه- أن أقتلها، أقصد أن أنساها، أرجوك أن تقتل خلايا ذاكرتي التي تخصّها، أرجوك.‏

    منظر رجل يبكي بحرقة يؤثر بشدة، وعده الطبيب أن يعمل جهده وأن يراجعه بعد ثلاثة أيام.‏

    حارَ الطبيب الصيني كيف يتصرف، لكن حب المغامرة ومغريات تطبيق اكتشافه جعله يجد مئات الحجج ليبرر لنفسه تطبيق الاختراع الجديد على ضحايا حقد لايشفى إلا بقتل خلايا معينة في الذاكرة، فليجّرب، ووجد نفسه يضحك حتى دمعت عيناه وهو يتساءل: ماذا لو التقيا عندي.‏

    بعد يومين حضرت الشابة مبكرة ساعتين عن موعدها، كانت ضحية نوبة شقيقة قاسية، قالت للطبيب: آه، أتمنى لو تنفك دروز جمجمتي ويطير دماغي من خلالها. وارتمت على سرير الاختبار منهكة وقد أغمضت عينيها هرباً من النور رغم أن الضوء كان خافتاً.‏

    ومن منظرها اليائس عرف الطبيب أن كل محاولاته ستبوء بالفشل في إقناعها بالعدول عن تجريب الدواء قال لها: حسناً سأسألك بعض الأسئلة، فأجيبيني عنها قدر الإمكان وبلا انفعال.‏

    قالت: أرجوك، أعطني الدواء، وأرحني من عذابات لاتطاق.‏

    رد مؤكداً: اطمئني سأعطيك الدواء، لكني أحتاج بعض المعلومات البسيطة.‏

    سألها: منذ متى تعرّفت إليه؟‏

    ردت وهي مغمضة العينين: منذ سبع سنوات، كنتُ أحضر مباراة كرة قدم، مع صديقة لي، ذهبت معها مجاملة فأنا لا أطيق الرياضة، ومن بين آلاف المتفرجين التقت عيوننا، التقط نظرتي، والتقطت نظرته، وتوّهمنا أنه الحب.‏

    سألها الطبيب: هل كان لاعباً؟‏

    -أجل، كان لاعباً مشهوراً.‏

    سأل الطبيب بصوتٍ رخيم: ألم يكن حباً إذاً؟‏

    ردت بعصبية والشقيقة تجلدها كل لحظة: لا، كان كُرهاً.‏

    -وما الذي جذبك نحوه؟‏

    ضحكت بسخرية: عيناه السوداوان اللامعتان، لقد احتواني بنظرته، وأشعرني أنه لايرى سواي من بين آلاف المتفرجين، لم أكن أعلم أن عينيه هما عينا الشيطان وأن ذلك اللمعان فيهما هو لمعان الشر.‏

    -حسناً إهدئي، لاتنفعلي أرجوك.‏

    -أرجوك يادكتور، الغثيان يشتد، أكاد أتمزق من الألم.‏

    -حسناً، حسناً، أدخلي رأسك الآن في هذا الجهاز. تأملتْ جهازاً ضخماً بحجم تلفزيون كبير فيه فجوة تتسع لرأس كبير، تساءلت بدهشة: ماهذا؟‏

    شرحَ لها الطبيب أن هذا الجهاز يبين له أجزاء الدماغ بالتفصيل ومكبّرة مئات المرات وأنه تمكن من التوصل إلى مناطق الذاكرة وتحديد خلاياها، وقتل بعضها، وبذلك يمحو ذكريات معينة إلى الأبد.‏

    أدخلت رأسها في الجهاز، ورغم أن ذعراً كان يضاف لصداعها، وبعد أقل من ربع ساعة طلب إليها الطبيب أن تُخرج رأسها من الجهاز، فأخرجته، ولم تتمالك نفسها أن صرخت من الفرح:‏

    -دكتور لقد اختفى الصداع!‏

    سألها الطبيب بقلق: ولاعب كرة القدم، هل يزعجك، هل..‏

    تحوّل وجهها إلى علامة تعجب وهي تقاطعه قائلة: عمن تتحدث يادكتور؟‏

    ضحك الطبيب وهو يحس بنشوة اختراعه وقال لها: حسناً، لقد شُفيت من الشقيقة ومن أحقادك، لاتنسي أن تزوريني كل شهر مرة لأطمئن على صحتك، ولأراقب آثار الدواء عليك. ولا داعٍ لأذكرّك بأن تحتفظي بسرية الموضوع.‏

    ردت بسرور: بالتأكيد يا أعظم مخترع في الدنيا.‏

    محته نهائياً من ذاكرتها، وعادت تمارس حياتها منطلقة ناجحة، اختفى الصداع، وانهزمت الشقيقة.‏

    وفي اليوم التالي جاء دور الشاب، تمدد على سرير الاختبار ذاته، كان مزرقاً يطلب الهواء. وصرخ مستنجداً: أرجوك يادكتور أسرع، ماذا تنتظر!‏

    ردَّ الطبيب بهدوء: حسناً لاتتسرع، ستشفى، عليك أن تجيب بدقة عن بعض أسئلتي.‏

    قال وهو يجاهد في استنشاق الهواء: وماهي؟‏

    -منذ متى تعرّفت بها، وكيف؟‏

    ردّ: منذ سبع سنوات، كنتُ أشهر لاعب كرة قدم، ولأن القدر الغادر شاء أن ألتفت لأراها، تصوّر، أحسستُ أنني أرى ملاكاً، كانت بيضاء رقيقة، عيناها خضراوان ساحرتان، شعرها أشقر ناعم طويل، هكذا كنتُ أتخيّل الملائكة، لم أكن أعرف أن الشيطان يتنكر بهيئة امرأة جميلة، ولكن ارجع لكل الأديان يا دكتور، ترى كيف كان الشيطان يتخذ شكل امرأة فاتنة، لقد دمّرتني، كانت السبب في طردي من الفريق، وفي إدماني الكحول... أرجوك يادكتور أشفني. أحس أني أختنق.‏

    طلب إليه الطبيب أن يدخل رأسه في الجهاز وشرح له آلية التأثير كما شرح البارحة لشريكته في الحقد، وبعد أقل من ربع ساعة أخرج الشاب رأسه من الجهاز، كانت شفتاه ورديتين، وصدره يتنفس بانتظام وهدوء، وكانت كل علامات السعادة واضحة على محياه.‏

    سأله الطبيب: كيف تشعر؟‏

    ردَّ: لقد شفيت من خناق الصدر، أحس أنني ممتاز‏

    سأل الطبيب بقلق: وتلك المرأة الأشبه بالملاك، صاحبة العينين الخضراوين والشعر الأشقر. حملق الشاب إلى الطبيب وسأل دهشاً: أية امرأة يادكتور؟‏

    أطرق الطبيب مدارياً ابتسامة النصر، ودّع الشاب، وهو يذكره بضرورة زيارته كل شهر، ويذكره بأهمية الاحتفاظ بسرية الاختراع.‏

    تتابعت الأشهر بسلاسة وصفاء، كسماء صافية لاتشوبها غيمة، انساب الزمن منبسطاً سهلاً، ربيع أبدي عاشه كل منهما، قتلته وقتلها بطريقة حضارية، وتحررا من سرطان الحقد.‏

    بعد سنوات عاد نجمه يتألق كأشهر لاعب كرة قدم. ورجعت هي إلى عملها نائبة للمدير العام في أضخم شركة لتصنيع أغذية الأطفال.‏

    وذات يوم دعاها المدير لحضور المباراة الأولى التي سيشترك بها ابنه البكر، خجلت من أن تقول له إنها لاتطيق الرياضة، كان عليها أن تُجامل المدير.‏

    وجلست في الصفوف الأمامية إلى جانب المدير وزوجته، ومن بين آلاف الحضور، التقت عينان خضراوان كعيني ملاك، بعينين سوداوين تشعان بريقاً آسراً وانطلقت شرارة تحوَّلت إلى ابتسامة وشبه وعد!!‏

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الـمــتاهــــــة د.هيفاء بيطار

    تعليقات الزوار ()