بتـــــاريخ : 11/13/2008 11:48:05 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1590 0


    ضريبة الشحن

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أبو العيد دودو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    عندما دخلت عليه متهادية، نظر إلى صدرها، ثم إلى شفتيها فأهدابها السود، وقال في امتعاض:‏

    - ماذا تريدين؟ عجلي. لا أريد أن أسمع كلاماً كثيراً، فبيني وبين الكلام عداوة، وأنت تعرفين ذلك. وأعباء الإدارة كثيرة.. أعباء حياتي!‏

    وغرز فيها نظرته، فمالت برأسها، وصعدت كتفها اليمنى، وابتسمت، فشعر هو بليونة تجتاح مفاصله.. أحس براحة دافقة لذيذة. وخفت لهجته الجافة نوعاً ما وقال:‏

    - تذكرت. والورد يذكر بالرياح العاصفة!‏

    وقام يقبل يدها. تقبيل اليد عنده نوع من الحضارة. وكانت عينه تدور وتسارق صدرها النظر. وشعر بالاضطراب.. لا يدري ماذا يفعل. أيمد ساعديه ويضمها إلى صدره ويلصق شفتيه بفمها لحظة شبه سرمدية، أم يكتفي.. يكتفي بماذا؟ باللمس والمداعبة بالعينين المشتهيتين؟ لقد كانت اللحظة التي تعمقها فيها حالمة.. حلم القمر في ليلة شتوية بإضاءة حبيبته.. الأرض! كانت أريكة مكتبه الوثيرة سحابة تطير.. مثقلة بنداها الفضي، مليئة بنجومها الخاصة! ما كان أروع الدفء الذي عرفه في تلك اللحظة! الدفء في الذهن، في العصاب، في الشرايين، في الألياف، في الصدر، في الأنفاس التي كان يستنشقها وفي المسام المتفتحة للنشوة! أواه لكم خطير هو الدفء حين يمتزج بالعطر!‏

    كان قد شاهدها في الممر، فأعجبته.. والإعجاب مشاهدة! وقد دفعه هذا الإعجاب إلى ممارسة اللطف.. إلى أن يكون لطيفاً، ربما لأول مرة في حياته الإدارية. وسألها هل تريد مقابلته، فزمت شفتيها ومدتهما إلى الأمام، وكأنها تستعد لمنحه قبلة؛ ثم هزت رأسها إيجاباً، وأشار لها أن تسير أمامه في اتجاه مكتبه، فأسرعت الخطو، وسار خلفها كمن يثب.. ولأول مرة أيضاً أحس أنه يشبه التيس تبختراً وخصوبةً!‏

    وروعته جلستها أمامه. ما هذه الملاسة العذبة الشهاء؟ ما هذه المزلقة الناعمة التي أتاحتها له الإدارة؟ ولم يسألها آنئذ ماذا تريد منه.. يغدو كل كلام لغواً حين يتضح للقلب هدفه. ألم يعبر شكسبير عن فلسفة الصمت حين قال.. وفي قوله ما فيه من عمق، حين قال.. والبقية صمت! فكلما همت بالكلام، رفع يده طالباً منها أن تصمت.. أن لا تقول شيئاً، وكأنه يدعوها إلى أن تنظر إليه كما ينظر إليها. فالتقاء النظرات في مثل هذه المواقف لابد أن يتسم برخاوة قد يعقبها عنف شهي. وهو لا يحب الكلام. إنه يحرص على أن يفهمه الناس من نظرته، من حركة فمه الصامتة. وأكرم به من فم! فهو لا يبدو سوياً إلا حين يصمت! وأخذ يمتص صمتها في نهم.. حتى صمتها لذيذ عنده. الدنيا كلها تغدو شاعرية حين يلتقي الصمت بالصمت وتنفتح دنيا الأحلام العسجدية. هذا يتيح له أن يدرسها، يدرس نظراتها، حركات شفتيها. وكم يتمنى أن تكونا له قبراً دافئاً. فلن يعدم الدفء والنور مدى حياتها. وكان الصمت في شفتيها، وهل هناك ما هو أروع من الصمت؟ جمال الطبيعة في صمتها البديع. وها هي ذي طبيعة أمامه يود أن يحتوي صمتها وينعم به. نعمة الصمت لم يكتشفها الكثير بعد.. لاسيما السَّاسَة!‏

    لم يكن يبدو عليها أنها تمانع في الاحتفاظ بالصمت.. ولعلها أحست هي نفسها بأنها الطبيعة التي يتصورها في ذهنه على نحو ما. وبما أن الطبيعة تبتسم وتضحك من خلال تفتح وردها، وزهرها، وسوسنها، ونرجسها وبنفسجها، فقد ابتسمت هي أيضاً وضحكت دون أن تدري لذلك سبباً.. لعلها تذكرت أن الطبيعة حية وأن الإنسان حي في ابتسامتها.. والروح لا تتألق إلا في صمت. وتفاهم الصمت والصمت وتألقا في صمت! وكل ما تبادلاه بعدئذ من كلمات وعبارات كان أقرب إلى الصمت.. خاصة بالنسبة للذكرى!‏

    كان هذا قبل فترة ما، ترى ما الذي أعادها إليه الآن؟ إنه يريد في هذه المرة أن يصمت.. ولذلك سألها بسرعة عما تريد. ولكن ابتسامتها مست خيوطاً في ذاكرته مساً كهربياً. فانصرف عنها لحظات قصاراً، ثم عاد إليها. حقيقة هناك مشاكل إدارية تقلقه.. ينبغي أن ينتهي من هذه التي طلبت مقابلته بسرعة.. حتى يتفرغ لحل مشاكله. آه، إن ابتسامتها لتغرقه دوماً في فجوة لا قرار لها، وحسه بلا قرار أيضاً كصمته. هذه الابتسامة تربكه وتجعله في الوقت نفسه.. يشبه قطاً يتأهب للوثوب. إنها تكاد تتيمه، والنوم قد يكون حلماً جميلاً، وما به رغبة في النوم. النوم عنده يسلمه إليها.. هذا ما يرغب فيه الآن. على أن مشاكله- وأكثرها مشكلة الراهن- أحوج إليه من رغباته الفياضة.‏

    ومن ثم قرر أن يسيطر على الموقف، فتطلع إليها وقال لها:‏

    - إني أسألك ثانية ماذا تريدين؟‏

    قالت في شبه تحد.. متسائلة:‏

    - ما هذا المشكل الذي أثير في إدارتك؟‏

    لوح بيده في قلق:‏

    - أي مشكل تعنين؟ هناك مشاكل كثيرة.‏

    فنظرت إليه بحدة، ثم قالت:‏

    - أتسألني أنا أي مشكل؟ هذا تساؤل غريب!‏

    وضحكت في سخرية، فقال:‏

    - نعم. أي مشكل تعنين؟‏

    قال في ثقة:‏

    - مشكل تسرب الأسئلة!‏

    واعتلت وجهه سحابة حزن خفيفة، وقال وهو يحدق فيها بحدة:‏

    - حقاً ذلك مشكل. لست أدري كيف تسربت الأسئلة إلى الطلبة. لابد أن أبحث عن المجرم الذي سربها إلى الطلبة.‏

    وضحكت فجأة، فسألها:‏

    - مالك تضحكين؟‏

    - ولم لا أضحك؟ أجاد أنت في سؤالك؟‏

    - نعم. كل الجد. لماذا تضحكين. ليس هناك في علمي ما يضحك.‏

    - بلى. هناك ما يضحك فعلاً.‏

    - كيف؟‏

    - أنا أضحك من تجاهلك.‏

    - تجاهلي؟‏

    - أجل. أنت تتجاهل.‏

    - لم يحدث لي أن فعلت هذا.‏

    - أحقاً ما تقوله؟‏

    - ألف حق وحق.‏

    - وإذا أنا أثبت لك خطأ ما تدعيه؟‏

    - لن تستطيعي ذلك.‏

    - لن أستطيع؟‏

    - هكذا الأمر. لا يمكنك ذلك أبداً.‏

    - أتريد حقاً أن أخبرك بذلك؟‏

    - إني أريد هذا وألح عليك في ذكره بسرعة!‏

    - طيب. تريد أن تعرف كيف تسربت الأسئلة إلى الطلبة؟‏

    - طبعاً. أريد ذلك.‏

    - أ ليس من الأحسن أن أصمت.. وأنت تحب الصمت؟‏

    - لا. الآن لا أريدك أن تصمتي.. أخبريني إذن إن كنت تعرفين من سلم الأسئلة إلى الطلبة!‏

    - إذن أخبرك أنك أنت الذي سلمها إلي!‏

    - أنا سلمتها إليك.‏

    - نعم أيها التيس المخصب!‏

    - التيس المخصب؟‏

    وطفت على صفحة وعيه في اللحظة نفسها.. وتراءت له لذاذات ومتع وطيبات تفوق الوصف، وقال:‏

    - قد يكون هذا صحيحاً.‏

    قال في عناد:‏

    - هذا صحيح مائة في المائة.‏

    وشعر أن عليه أن يأمرها بالصمت مرة أخرى، فقال لها:‏

    - اصمتي الآن!‏

    قالت وهي تنظر إليه من جانبي عينيها:‏

    - أتريد أن تترحم على ذكرانا؟ ومن يستطيع العيش بلا ذكرى؟ الحياة ذكرى وحنين إلى الذكرى!‏

    - حقاً. إني أترحم عليها طبعاً. الفرصة ليست ملائمة.‏

    - كيف تترحم عليها وأنا هنا بين يديك؟‏

    فنظر إليها في اضطراب، وقال:‏

    - فعلاً. ليس ذلك في وسعي.‏

    وسحبت فستانها عن ركبتها، وقالت:‏

    - لقد أدركت إذن لماذا جئتك.‏

    قال لها:‏

    - إنك لتريدين الاعتذار عن خيانتك.‏

    نظرت إليه بشيء من الغضب وقالت:‏

    - خيانتي؟ ألا تستحي من قول كلام من هذا القبيل؟.. أنت من يحب الصمت؟‏

    - أظن أنك لم تفهميني!‏

    - وكيف أفهمك وحديثك يشبه الصمت؟‏

    - كنت أعني أنك كنت خائنة عندما أخبرت زملاءك وزميلاتك بالأسئلة.‏

    - ولم لا أفعل ذلك؟ أني أعزهم جميعاً. وكلنا نريد أن ننجح ونرفع مستوانا.‏

    - لكني أردت أن أرفع مستواك أنت فقط.‏

    - لو أني رضيت بذلك لكنت أنانية إلى أبعد الحدود.‏

    - هذا موضوع لا دخل للأنانية فيه. المسألة كرامة وحفظ الكرامة.‏

    - الكرامة.. تقول أنت الكرامة؟ دعك منها، يا صمتي! الكل يريد النجاح بلا كرامة!‏

    - لقد وضعتني بذلك في مشكل.‏

    - أنت لا تتحدث إلا عن المشاكل. لكن هذا المشكل قد حل.‏

    - لقد حل حقاً. وأرغم الطلبة على إعادة الامتحان.. إلا أنه كان مشكلاً على أية حال وأثار زوبعة من ا لانتقادات.‏

    - أنت سببها!‏

    - بل أنت! المهم أنهم نجحوا رغم.. الإعادة.‏

    - حقاً. على أية حال.. أنا لم أجئك لأناقشك في هذا الموضوع.‏

    - علي إذن أن أسألك للمرة الثالثة.. ماذا تريدين؟‏

    - أريد أن أكون الأولى.. أن أنجح بتفوق!‏

    وأطرق قليلاً، وتنفس بعمق، ثم قال:‏

    - أهذا كل ما تريدين؟‏

    وابتسمت وهي تهز رأسها وتغمز بإحدى عينيها.. بيسراها على التحديد، فقد كانت أقدر على الغمز بها، وقالت:‏

    - وأريد..‏

    - طيب.,. لك ما تريدين. هذه ضريبة الشحن!‏

    - والأمر بيدك وحدك!‏

    وصمتت قليلاً، ثم همت بمواصلة الكلام، ولكنه أسكتها بوضع يده على فمه. والتقى الصمت بالصمت!‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()