بتـــــاريخ : 11/13/2008 11:12:25 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1011 0


    تمثال بلا رأس

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : عبد الحميد بن هدوقة | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    قرأت ذات يوم إعلاناً عن مسابقة في القصة القصيرة، خاصة بالكتاب المحترفين، بمناسبة ذكرى الحرية...‏

    كانت الجائزة الأولى عبارة عن تمثال يقام في أكبر حدائق المدينة لصاحب القصة الفائزة.. وكان موضوع المسابقة :‏

    " تصوير حياة كاتب في عهد نظام تعسفي ".‏

    فكرت : الكتابة حرفتي، القصة القصيرة لا تكلف جهداً ذابال، كما لا تأخذ من وقتي جزءاً كبيراً يضر بأعمالي الأخرى..‏

    طبعاً، كنت أدرك صعوبة الموضوع: ليس من السهل على كاتب مثلي يعيش في مجتمع ديمقراطي، يتمتع بكامل حرياته، تصوير مجتمع يسود فيه القهر والاستبدادّ!‏

    تخيلت أولاً، أنه لكي يحيا كاتب في مجتمع تحت نظام تعسفي ما، لابد أن يكون أما انتهازياً وإما وصولياً، أو لا يعرف من معاني الكتابة إلا الحروف كيف ترسم، مثل: "أ" يشبه العصا، "ح" يشبه الركوع، الخ.... أما ماتؤديه تلك الحروف، إذا اجتمعت في كلمات وجمل، من معاني الحرية، فهو منه براء.‏

    قضيت يومي حائراً مضطرباً قلقاً، أبحث عن شيء لا أدري ماهو، تخيلتني كامرأة تريد أن تحبل وتلد مولوداً يشبه ممثلاً سينمائياً عشقت صورته...‏

    كان الموضوع إذن صعباً حقاً، ولذلك اختير للمسابقة!‏

    خطر ببالي في لحظة عابرة، أن الكتابة في موضوع مثل هذا، ينبغي أن تنزل كلماتها على صاحبها نزولا، كالوحي!‏

    شقّ عليّ الأمر، من أين الوحي، بل وحتى الالهام أن ينزل على كاتب بسيط مثلي؟ لا سيما أن الزمان المحدد للمسابقة لا يتجاوز أسبوعاً.‏

    وفي الليل، وليالي الحالمين خصبة، حلمت أني أعيش في هذا المجتمع ذي النظام الاستبدادي الفظيع، كما ميّزت ملامحه المسابقة!‏

    رأيتني سائراً في طريق مظلم، لا أدري من أين أتيت، ولا إلى أين أنا ذاهب، كمالو أنه اجتث من مخي جزء الخلايا الخاص بكل ما يتعلق بمثل أسئلة : "من أين؟! وإلى أين"؟!‏

    إذا بصوت يأمرني في ذلك الظلام:‏

    - قف! ماذا تحمل في يديك؟... ماهذه الزجاجة؟‏

    - زجاجة حبر، وهذا قلم، وهذه أوراق..‏

    - هيّا معي !‏

    - من أين أتيت بهذا الحبر، ألا تدري أن تهريب الحبر ممنوع؟ وضعته في زجاجة خمر، لماذا؟ أتحسب أننا أغبياء؟‏

    - حاشا...‏

    - اسكت .. لا تقاطعني، ماذا تعمل بهذا الحبر..؟‏

    ينبغي أن أقول له الحقيقة، هي وحدها التي تخفف من ويلات هؤلاء، لو كذّبت لأدرك في الحال كذبي، ولاسيما أنني لا أحسن الكذب..‏

    - أجب، ماذا تعمل بهذا الحبر؟‏

    - أكتب...‏

    أدهشه جوابي! خفّض صوته قائلاً:‏

    - تكتب! تكتب ماذا؟‏

    ارتسمت على جبينه خطوط متوازية، وهو ينظر إليّ نظرات يكاد الاستغراب يتشّكل منها في علامات تعجب متتالية!‏

    - هناك إذن من يجرؤ على الكتابة في هذا البلد! أنت رجل طيب! حدثني : ماذا تريد أن تكتب؟‏

    - أوه ... ليس شيئاً هاماً : ضحكات رأيتها في عيون طفل، سنابل قوية تغطي الحقول، تنظر إلى السماء، جداول تتحدى العطش والجفاف، فتيات مزّقن لباس ليلهن الطويل، ليلبسن مكانها الفجر، أكواخاً تحرق لتدع المكان لعمارات تنظر إلى المستقبل، وأشياء أخرى ... ثم...‏

    - غريب! غريب!.. تريد أن تكتب هذا في هذا البلد، وأنا حيّ! ثم ماذا؟‏

    - لاشيء..‏

    - ثم ماذا؟..(بعنف)‏

    - ثم هربت بين يدّي الكلمات من سياقاتها.‏

    - ماذا، ماذا؟ هربت الكلمات ؟...!‏

    - أوه، الأمر بسيط: كلمات حلم لم يعش طويلاً، عيناي كانتا جد صغيرتين، والحلم كان جميلاً! ثم....‏

    - ثم ماذا ؟‏

    - ثم عصفت عاصفة، أظلم الجو، انمحت الآفاق.... مكان الأكواخ بنيت مساجد للمحرومين..‏

    بدل السنابل غرست الزهور، الفيلات الجميلة، كانت في حاجة إلى مساحات للزهور، لا إلى القمح. الفتيات ألبسن ثياب ليلهن الطويل، وفصّلت لهن أخرى من أزمنة لا يعرفها أحد! أبعد المستقبل عن الطريق، ليبقى الأبد أبدياً... وعندئذ...‏

    -عندئذ ماذا؟‏

    - عندئذ أفرغت الكلمات من مضامينها، الماضي كان في حاجة إلى كلمات جديدة تنطق باسمه، وعندئذ...‏

    - وعندئذ...‏

    - صودر الحبر الذي يكتب المستقبل...و...‏

    - طريفة قصتك! من أين اشتريت هذا الحبر؟ هل هناك سوق سوداء لبيع الحبر؟‏

    - لا، تركه لي أحد الرفاق، لم أشتره..‏

    -أهاه! أحد الرفاق! أين ذهب..؟‏

    - أعدم..‏

    انبسطت ملامحه، أخرج علبة التبغ وناولني سيكارة..‏

    - لا أدخن، شكراً..‏

    - تكتب ولا تدخن!؟‏

    أشعل سيكارة ثم وقف .خطا خطوات في قاعة الغرفة الضيقة، جذب أنفاساً من سيكارته ثم عاد إلى المكتب، سحق السيكارة سحقاً عنيفاً في المرمدة، وقال:‏

    - أتدري أنك أضعف من هذه السيكارة..؟‏

    لم أجبه، واصل:‏

    - بزّتك تدل...‏

    - على ماذا تدل؟‏

    - على الـ.. وظيفة..‏

    - البزة هي جنسية الرجل يا غبي! فهمت ؟‏

    - فهمت ..‏

    قام من جديد خطا، خطوات أخرى، وعاد إليّ:‏

    - اكتب!‏

    - ماذا أكتب ..؟‏

    - أكتب : قلما..‏

    - قلما..‏

    - اكتب : منجلا..‏

    -...‏

    - اكتب : مطرقة‏

    -......‏

    - اكتب: ورقة مالية...‏

    - ورقة مالية ..‏

    - اكتب : بندقية ..‏

    - بندقية ..‏

    أخرج من جديد علبة السكائر وقال :‏

    - ماذا تمثل هذه الكلمات..؟‏

    - بالنسبة لمن؟‏

    - بالنسبة إليك ؟‏

    ماذا أقول له ؟ إنه لاشك يستدرجني إلى شرك:‏

    - تمثل ... تمثل توزيع العمل..‏

    - ها، ها، ها!... توزيع العمل! (بعنف): أنت غبي، غبي! هذه الكلمات تمثل أسياداً وعبيداً! جذب أنفاساً متتالية من سيكارته، ثم سحقها في المرمدة كالمرة السابقة، وسأل:‏

    - من هم الأسياد..؟‏

    - لست أدري..‏

    - ينبغي أن تدري، هنا لامحل للجهل، سنعلمك، وقبل ذلك لابد أن تجيب عن سؤالي :‏

    - من يرمز إلىالأسياد في هذه الأشياء؟‏

    - ا.... القلم..‏

    - أنت يقينا غبي..‏

    أظلمت الدنيا في عينيه، وهجم عليّ كالوحش:‏

    - خذ أيها الغبي! خذ ...خذ!...‏

    ***‏

    آه... رأسي! رأسي !..‏

    لماذا أنا هنا أحس رأسي تصدع! ماهذا الدهليز المظلم؟ ماهذه القضبان؟ وهل أنا في كابوس؟ وهذه الروائح القذرة.... أشعر بالاختناق، عطست! يبس حلقي ولساني، الأفكار فقدت الحركة في ذهني، الصداع، العطش، الصرخة لا تخرج من حلقي، أقوم، أضرب على قضبان الحديد، أضرب بعنف، لماذا أنا هنا؟ صدى الحديد جاف .الدهليز لا هواء به .. إني أختنق!..‏

    أضرب القضبان مرة أخرى : لماذا أنا هنا؟‏

    يقبل شرطي :‏

    - ماذا تريد؟‏

    أجيبه، لكن الكلمات تخرج بلا صوت، أشير إليه : عطشت! لماذا أنا هنا؟‏

    يفتح الباب الحديدي، ينظرإليّ ويبتسم، يأخذ زجاجة الحبر، يفتحها، يضع فم الزجاجة في فمي :‏

    - اشرب! هها... ها... ها!...‏

    أدفعه، يدخل فم الزجاجة بعنف في فمي، أحاول صده مرة أخرى، لاأستطيع، يداي ورجلاي مقيدة، يفرغ الحبر في فمي، الحبر يتحول إلى لامات - ألف متتالية: لالالالا...‏

    تنزل لامات - الألف إلى معدتي! اختنق بلامات - الألف! أختتنق بالحبر يقرقر في حلقي!‏

    - أشرب حبرك لتتعلم! اكتب به أحلامك السخفية في بطنك!‏

    يأخذ الورق، يا إلهي! ماذا يريد أن يفعل؟‏

    - شراب بلا أكل لا يليق! الحبر في حاجة إلى ورق! ها، ها، ها! ( يضع الورق في فمي بعنف): كلّ! اكتبه سنابل في حلقك!‏

    اختنق! أتنفس بمشقة، الورق ملأ فمي، ولا أستطيع نزعه.‏

    - لابد أن تأكل، لتتعلم، لا تتعجل، لنا الوقت كله، والمكان كله! هاهاها!‏

    اشعر بالغثيان، بالسقوط، مايريد أن يفعل أيضاً، هذا المتوحش!‏

    - بلا قلم لا تستطيع الكتابة! أليس كذلك؟ هاها ها!‏

    آه! ... آه..! مزّق دبري! آه!...‏

    - لابد أن يدخل، أن يتلاقى بالحبر والورق، أن يكتب في ظلام أمعائك أحلامك الغبية !‏

    - آه.. آه.. ماذا يريد أيضاً؟ آه، آه! إنه يركلني :‏

    - خذ! خذ!‏

    آآآآآآه ! أمعا ئئئئئئئئـــــى !‏

    ***‏

    كم مضى عليّ من وقت وأنا مرمي هكذا على الرصيف؟ أين أنا؟ ما اسم هذه الممر الضيق؟ رموني هنا... الكلاب! لا أستطيع القيام، رموني مقيداً، لكن أين أنا؟ هاهو ذاك جامع على اليمين! أسمع وقع خطىً مقبلة، هذا شخص آت إليّ! يبدو أنه ..."البزة جنسية"!‏

    لاشك أنه الإمام أو المؤذن، هاهو ذا ينحني عليّ، إنه رجل طيب، رجال الدين أناس طيبون! هاهو يرى إلى جانبي زجاجة الحبر، يقوم مذعوراً! يبصق عليّ ويبتعد بسرعة!‏

    كم مضى من الليل الآن؟ هاهو ذاك ضوء المسجد يضيء، قد يكون الفجر قريباً، هاهو صوت المؤذن ينطلق، لكن المؤذنين يؤذنون بلا فجر!‏

    مضخمات الصوت تعطي للأذان رهبة قيام القيامة!‏

    أسمع خطى متعثرة، أرى شبحاً مقبلاً، لقد رآني، هاهو ذا يقف على رأسي، يرى الزجاجة، يرفعُها، يتأملها: فارغة! يقربها من أنفه، ثم يبعدها عنه، يتأملها لحظات، لا أتبين جيداً ملامح وجهه. يضع الزجاجة على الأرض، ينحني عليّ:‏

    - ما هذا!‏

    - لا أستطيع النطق، أحرك أمامه يدّي ورجلّي المقيدتين، يخرج مدية من جيبه، يقطع الوثاق، أوف! نجوت! يساعدني على القيام، لكن لا أستطيع في كل مرة أحاول، أحس بالأرض تجذبني إليها بعنف! يساعدني مرة أخرى، أستجمع كل ماتبقى في من طاقة، أقف .أستند إليه، جسمي مفكك، أحاول بكل مافي إرادتي من إصرار جمع أوصالي، يدرك الرجل ما أبذل من جهد، يسحبني سحباً، هاهو ذا نور خافت، نقترب من النور، أوهو يقترب منا، لست أدري، أرى حانة!، نقترب من الباب، أشباح منحنون على الطاولات! الأذان ينطلق مرة أخرى:..‏

    "حيّ على الفلاح!"‏

    إنه أذان العشاء أو أذان الفجر؟ لعل الأذان الأول للمغرب وهذا للعشاء؟، الليل مازال طويلاً، الحانة لا تفتح أبوابها في الفجر!‏

    كم قضيت وراء القضبان؟ ساعة؟ ليلة؟ سنة؟...‏

    أرى الحاناتي يهز رأسه لصاحبي محيّيّاً، يجلسني هذا إلى طاولة في إحدى الزوايا، يتجه بعد ذلك إلى الحاناتي فيصافحه، ثم يلتحق بطاولة أخرى، يجلس إليها ثلاثة أشخاص.‏

    أرى الحاناتي، الساقي، الشرب، كخيش من فحم! خارج الحانة لايرى شيء ماعدا أضواء الجامع، هاهو النادل يأتيني بزجاجة نبيذ! انقطعت عن الخمر منذ سنوات، وها أنذا أجدني معها وجهاً لوجه! أأشرب أم أمتنع؟ "أكون، أولا أكون؟"، لو امتنعت لرموني في الشارع لوجدت نفسي وجهاً لوجه أمام الجامع الذي رفضني!‏

    الحانة احتضنتني والجامع رماني! أشرب اذن، ليكن ماشاءته هذه الظروف اللعينة! أفرغ الزجاجة في ألمي! جرعة أولى، ثانية، ثالثة... فرغت الزجاجة! أضعها على الطاولة.‏

    أتأملها إلى جانب زجاجة الحبر! كلتاهما فارغة تنظر إليّ، أرى أحلامي تنتقل من زجاجة الحبر إلى زجاجة الخمر!، لساني يتحرك بكلمات قديمة، نسيتها تماماً!‏

    - يا ساقي! لساني يتحرك والصوت لا يخرج! أدق على الطاولة، يلتفت الساقي وبعض الزبائن إليّ، أشير إلى الساقي أن يأتي بزجاجة أخرى ينظر إليّ، يبدو أن حياتي ليس فيها ما يبعث على الثقة! أشير إليه مرة أخرى، ينظر إليّ باستخفاف، أضرب على الطاولة بعنف! صاحبي يشير للنادل أن يلبي طلّبي‏

    ***‏

    أرى النبيذ في الزجاجة كوكباً درياً، تجمّع فيه ضوء آلاف السنين! أرى نوره ينتقل إلى رأسي ثم يعود، ذاهباً آيباً كشعاع أو كتيار كهربائي متناوب!، رأسي يثقل بوزن الأرض، لكن روحي تخف! زجاجة الحبر، تنظر إليّ بفراغها، وزجاجة الخمر ترنو إليّ بامتلائها! أملأ رأسي بروح هذه وبموت تلك، الشعر يتحول إلى سكر، والسكر يتحول إلى شعر! شعاعان متعاقبان وأتذكر:‏

    - "القلم"،‏

    "المطرقة".‏

    "المنجل"،‏

    "الورقة المالية" ،‏

    "البندقية"،‏

    "الأسياد والعبيد"...‏

    - يا ساقي! الصوت لا يخرج! السكر والشعر ... في زجاجة الزجاجة!‏

    كأنها كوكب درّي! الزجاجة!‏

    رأسي نشف ..‏

    لساني جف..‏

    نضبت من كليهما الكلمات، وبقيت ذكريات الكلمات ذكريات ضحكات عيون طفل، ذكريات أحلام متلألئة في عيون فتاة، ذكريات حقول قمح قبل أن تتحول إلى فيلاّت، ذكريات عمارات ظننتها تبنى مكان الأكواخ. ذكريات إنسان يساوي الإنسانّ بقايا حلم قديم ...‏

    يا حارس الحامة، والليل طويل!‏

    العلم ليس أحجاراً إنما بناة الأحجار..‏

    يا حارس الحامة، أكواخ المحرومين لا تراها العين!‏

    "القلم - المطرقة- المنجل- الورقة - المالية - البندقية- الأسياد والعبيد!"..‏

    أقسم بكلمات الألم تتحول إلى شعر، بأكواخ القصدير تتحول إلى ثورة، بالحرمان يصنع المتفجرات بالمتفجرات تصنع الحرية في كل مكان، بضحكات طفل، بأحلام العيون التي تتشوف إلى المستقبل، أن لا يخدم القلم الذي أدمى مقعدي مالا ولا بندقية!‏

    الزجاجة تحترق في رأسي، لكن رأسي لن يحترق! لن أبيع كلماتي! بقايا الحلم ستنبت أحلاماً جديدة، خذوا مكاني في الأرض إذا شئتم، فسأسكن الزّمن!‏

    ***‏

    وأفقت من الحلم! والحلم كتب القصةّ والقصة نالت الجائزةالأولى!‏

    ياللسعادة! أصبحت من الخالدين! أقيم لي تمثال من مرمر، في أكبر حديقة بالمدينة! ياللسعادة! قلمي غلب بندقية الشرطي! أصبحت من الخالدين.إن الدموع تغالب مآقي على السيلان، عبرات السرور تسيل. سيلي أيتها الدموع. أصبحت من الخالدين.أصبحت تمثالاً من مرمر!‏

    لو كان لي أبناء لأريتهم تمثال أبيهم! لجعلتهم يستخلصون العبرة، من حياة كاتب وهب قلمه لسلطة وطنه!‏

    لو كانت لي زوجة، لأقمنا حفلاً مشهوداً، أدعو إليه كل من يمسك بندقية، ليروا بعيونهم خالداً من الخالدين! بل لدعوت إلى هذا الحفل حتى شرطي الحلم!‏

    سأزور الحديقة في أول فرصة. ترى كيف نحتنى النحات الايطالي؟ لكن لا يهم. قالوا إن هذا الايطالي صنّاع عظيم..لاينحت إلا تماثيل العظماء!‏

    أمر عظيم! لاشك أنه كتب اسمي في سجله إلى جانب أسماء من نحته للعظماء! إنني أشعر بالسعادة تفيض في نفسي وتغمر البشر! كم هو جميل أن يشاهد المرء خلوده وهو حي! إنها الحروف الهجائية، الحروف التي تكتب الألف والواو والحاء. ترسم الوقوف والركوع! لو كنت نحاتاً لنحتّها حرفاً حرفاً، وبنيت بها حدائق من نور!‏

    إنني سعيد، سعيد! وددت لو يعرف الناس جميعاً سعادتي! خسارة، لا أستطيع أن أقول للناس: أنا هو الذي صنعوا له تمثال الحديقة! لكن لو أقول لهم ذلك لوصموني بالجنون.الناس لا يحبون رؤية الحقيقة عارية. يحبونها مكسوة بأثواب " أرلو كانية" زاهية، ليسهل عليهم استساغتها، لو قلت لسكان الحي مثلاً : أنا فلان الذي يسكن بالدار رقم كذا، بنهج كذا أنا الذي نجح في المسابقة، وقد أقيم له تمثال... لكان قولهم في أحسن الأحوال: غيرمعقول! فلان نعرفه، يسكن حقيقة حيث ذكرت، ويشبهك في بعض الملامح، لكننا لم نسمع أنه سابق وأنه نجح، وأنه أقيم له تمثال! نحن نراه صباحاً ومساء، عند الخضار، عند الخباز، في محطة الحافلات، فكيف يقام له تمثال؟ حتى لو فرضنا أنه نجح، فلايقام له تمثال، نحن نعرفه!..‏

    لا.. لا... لاأصرح بسعادتي لأحد، ولو قتلتني!‏

    امتزج هوسي بأحلامي، صرت أسمع نفسي: مرة نغماً موسيقياً يملأ الفضاء عذوبة وحناناً ومرة أراني روحاً نورانية في سماء ملكوتّي، بنفسجي الآفاق، مرة أحسني تحولت إلى حب صاف، عذب يسسيل جداول في كل القلوب، ... مرة .... مرة .... آه، آه ..!‏

    إن سعادتي لتعظم حتى لتكاد تتحول إلى ألم! ولاأستطيع النوم ولا اليقظة المستمرة.‏

    ***‏

    - من فضلك، أين يقع التمثال الذي أقيم هنا حديثاً..‏

    - هناك على اليمين!‏

    لحسن الحظ لم يعرفني، لاشك أنه لم يتأمل التمثال جيداً. لم ترتسم الصورة في ذاكرته بعد..‏

    ...............‏

    ها أنذا أقترب من تمثالي! قلبي يشتد خفقانه، أكاد .... يغمى عليّ! لأتماسك، إنه انفعال ويمر....‏

    تماماً أنا! لو جئت عشية عندما يكثر الزوار لعرفوني، انه أنا تماماً! تماماً، ماعدا السواد! هو أسود وأنا... لكن لا يهم، لست عنصرياً، هو أسود جامد في مكانه، وأنا أبيض متحرك، الحركة هي الفارق الوحيد بين سواده وبياضي! كم هي جميلة بسمته المرمرية! إنني أحبه، أحبه! أحب صورتي المرمرية الباقية على صورتي البشرية الزائلة، كم هو جميل! لن يقصّر النحات الايطالي، انظروا ياأبنائي الذين لم ألدكم إلى أبيكم الخالد! الدموع تملأ عينيّ! تأملوا يا أبنائي أباكم الذي تزوج الكتب بدل أمكم، فلم تولدوا ولم تسعدوا بالحياة، وبهذه اللحظات العظيمة مع أبيكم! انني أبكي! لحسن الحظ ليس هناك أحد يراني.‏

    هاهما فتاتان مقبلتان، أمسح دموعي، لا ألتفت أليهما، ربم تعرفتا عليّ، هاهما توقفتا، إنهما تنظران إلى تمثالي، إنهما تتأملانني في المرمر!‏

    - متى جيء بهذا القرد الحجري إلى هنا؟‏

    ياللعينة! أنا قرد حجري! لا أستطيع حتى الرد عليها، صاحبتها تضحك:‏

    - ها ها ها! إنه يشبه القرد تماماً! صدقت .‏

    اللعينتان! الفاجرتان! السفيهتان! اللقيطتان! الللللللللـ..... يا كلمات السباب والشتم والقذع تعالين إلى مساعدتي، تعالين!‏

    إنها تجر صاحبتها من يدها وتقول :‏

    - دعينا من هذا الصنم!‏

    - انتظري حتى أقرأ ماكتب على القاعدة...‏

    - وماذا تريدين أن يكتبوا؟ يكتبون مايكتب عادة على القبور!‏

    آه... آه... الخبيثتان! العانستان! هاهما تمضيان...‏

    إلى الجحيم! إلى ... إلى .. إلى "السيدا"! نعم، إلى " السيدا" !‏

    أرى الدنيا تظلم في عينيّ! مازلت لم أسبّع بعد، وإذا بألسنة القذارة ترمى عليّ نفاياتها!‏

    - "أنت ترى الدنيا تظلم وأنت تمشي، وأنا الذي أقيم هنا، جامدا، أبكم، أسمع الشتائم العلانية والسرية، ولا أتحرك، ماذا أقول ؟".‏

    انـ... انى أسمع كلاماً.... لا لا، هوس، أنا في حالة غير طبيعية، هوس، هوس! إنه الإرهاق واليقظة المتواصلة.... ظننت أن التمثال يرفعني، أنا غبي، وأحلامي غبية!‏

    - " كأنك لم تسمعني! انظر إليّ، أنني أنت! لماذا فعلت بي هكذا؟ كنت حراً طليقاً أسكن أحلامك وأوهامك، فصيّرتني حجراً! لماذا، لماذا؟"‏

    إنه هو، التمثالّ إنه يتكلم! لاشك في ذلك! إنني أسمع حديثه وأحس ألمه بكل ذرات وجداني!‏

    - " لو لم تبحث عن " الخلود" الزائف لبقينا بعيدين عن الأعين الساخرة، نحيا في سلام! لبقينا نجري وراء أحلامنا وأمانينا اللذيذة سعيدين، نبحث عن المغامرة، في مستقبل متجدد أبداً.‏

    نعين من في حاجة إلى عون، نهوّن شقاء الدنيا على البائسين، نجري جداول الأمل أمام كل من أيبس روحه العطش الطويل، والعذاب الطويل، لماذا كل هذا؟ لماذا.؟.."‏

    إنني أشعر بالأرض تغوص في نفسها تحت قدمي!‏

    - " اقلعني من هنا، أرجوك! لاتتركني هكذية، سخرية للساخرين ."‏

    إنه يتألم، إنني أحس ألمه يعصر روحي عصراً ذريعاً!‏

    - " إن لم تستطع قلعي، حطّم راسي حتى لايبقي جزء واحد منه! اتركني تمثالاً بلا رأس، لا أحد يعرفني، أرجوك، أرجوك! لا تدع جزءاً واحداً منه، حتى لايقول متفرج: " قطع أنفه" ..أو " سقطت لحيته"، حطّمني! حطّم على الأقل مايعرف... أنني أنت! ألا تثور لكرامتك؟ أتهون عليك شخصيتك لهذا الحد؟ كسّر رأسي كما تكسر زجاجة تسقط من سكير! لايهم مايبقى من التمثال بعدَ ذلك، أرجوك! هاهي ذي فأس هناك، خذها، لا تخف!‏

    ....................‏

    - أنت مجنون، مجنون! تخرب الآثار الوطنية! مجنون، مجنون! هيا معي!‏

    - إنه رأسي يا سعادة الشرطي! كسرت رأسي، أقسم لك!‏

    - أنت مجرم، تخرب الآثار الوطنية!‏

    - اقسم لك، إنه رأسي، ياسعادة الشرطي! كسرت رأسي، دعني أفهّمك، إننا في بلد ديمقراطي...‏

    - اسمعوا أيها الناس! يتحدث عن الديمقراطية، هذاالمخرب المجنون!‏

    - ارجوك، لحظة فقط..‏

    - اسكت! اسكت يامجرم!‏

    ***‏

    وهكذا .... منذ أن دخلت هذه الدار اللعينة التي يسمونها "دار إعادة التربية"، وأنا أحيا حلمي الأسود بلا انقطاع! ألف مرة ومرة حكيت للطبيب قصتي، لكنه في كل مرة يربت على كتفي ويقول : " أعرف ذلك، أعرف ذلك" !..‏

    ***‏

    قال لي أحد الزائرين من زملائي الذين لم ينخدعوا بالكلمات البراقة : " إن تمثالك مازال قائماً بالحديقة، لكن بلا راس!"‏

    ليته سقط!...

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()