بتـــــاريخ : 11/13/2008 8:24:08 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1035 0


    شــــخصـية وســــتة مـؤلفـين

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : سامي حمزة | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    -: لم يكن حول المائدة البيضاوية غير مقعد واحد فارغ، فارتميت عليه وأنا ألهث وأمسح العرق عن وجهي. عمَّ القاعة صمت بعد لغوٍ، ونظرات متباينة موزعة منوعة، توحدت فيها إشارة تعجب مقترنة باستغراب من بعض الزملاء الذين وصلوا قبلي إلى قاعة الاجتماع الملحقة بمكتب السيد رئيس قسم "الدراما".

    أسقطت من اهتمامي تلك النظراتِ المبهمةَ منها والصريحة. ونظرت باهتمامٍ إلى رئيس القسم، وفي عيني اعتذار مبطن، لكنه أغرق نفسه بما بين يديه، للحظة أحسست أنه غير آبهٍ بي، ولم أستأ لذلك، بيد أنني لم أرضَ ألا يكترث بي إلى هذه الدرجة، غمست إحساسي هذا بشعورٍ نما في داخلي للتو، بأنه لعمق طيبته اختلق لحظاتٍ مفرغة من حبِّه لأساليب اللوم والتأنيب والتقريع، وأطال النظر في الأوراق التي تحجب وجهه أحياناً، ولأنه أغرق نفسه بما لا يشير إلى أية حالةٍ تنذر بشيءٍ سيقفز من فمه للتو، وجدت متسعاً لأتنفس الصعداء، وألبست وجهي وعيني نظرة ناطقة صوبتها إلى الزملاء أقول لهم فيها: لا يكن أحدكم غيوراً على الأمر أكثر من صاحبه. فها هو ذا السيد رئيس القسم كَحَملٍ وديع طيب السريرة قد خيَّبَ رغباتكم المحمومة العطشى المتشهية سماع طلقات اللوم والتأنيب والتقريع، وهي تنفلت من بين شفتيه لتردمني وتغمر أية محاولة لاتقائها.‏

    رمقني أولهم شزراً، وابتسم آخر لا مبالياً، والثالث أفهمني أنه يسخر، وهزَّ أحدهم رأسه مقدراً الظرف القاهر الذي جعلني أصل متأخراً.‏

    كل ذلك حدث خلال بعض الدقيقة، فانتبهت إلى نفسي متلبساً بفرحةِ الوصول بعد خمس دقائق فقط عن موعد الاجتماع. أسدلت كُمَّ قميصي على ساعتي، وأهملت نظرات الزملاء الذين تكهربهم عداوة "المهنة" المستفحلة غيرة وحسداً مكبوتتين.‏

    ركزت نظارتي على أنفي، وعلقت نظرتي بمحيا رئيس القسم، ورسمت على وجهي ما يؤكد أنني أتابعه باهتمام منذ انتهاء الاجتماع المنصرم، وهأنذا مشدود إلى ما يتبرعم على شفتيه المزمومتين أبداً. التقت نظرتي بنظرته، فدفعت ابتسامةً إلى شفتي، وأكدتُ على نفسي ألا أزيغ البصر، فوجهت البؤبؤ إلى البؤبؤ، وأسلت بينهما جدول معزّةٍ وإعجابٍ" وشعرت أنه شرب فاستطاب الشراب. -هنا تذكرت ما كنت أداريه عن رفاق الطفولة خجلاً، وهو أني حفيد صياد كان يرافق مشاهير الصيادين البيروتيين الذين كانوا يأتوننا غير طامعين بغير "التقويص" على العصافير، وعلى رأسهم "فيلمون وهبي" فيعودون مترعين بعصافير وزارزير وبطٍ وحمامٍ وأرانب وثعالب-. الآن أُحِسُّ بالإفادة مما كنت أخجل منه سابقاً.‏

    -: حسناً. طلقة -بل- لفظة وحيدة نبستها شفتا السيد رئيس القسم ثم زمَّ وضمَّ وقلَّبَ وبلل شفتيه، وها نحن قد شغلنا -مثل كل مرةٍ- بتلك التعابير والحركات المبهمة التي تسبق قوله أول كلمة تخص العمل، ثم تتلوها كلمات مقتضبة لا تكاد تفي الفهم، ما لم يكن أيٌّ منا قد تابع ما قاله في أول اجتماع حول الموضوع ذاته. هذه فهمتها عنه، لذا كنت أسجل آخر ما تكرم بقوله في الاجتماع السابق، فأربطه بأول ما يقوله في الاجتماع الذي نحن فيه، فلا تضيع عليّ أية حلقة من سلسلة أفكاره التي لا يعيدها، ولا يكرر شيئاً منها.‏

    ضغط على زر جرس بجانب يده اليسرى -إذ كان أعسر- عقبها دخل "السكرتير" ودون أن يلتفت رئيس القسم إليه، هزّ رأسه وحركه نحو اليمين، وزاول تقليب الأوراق التي وضعها أمامه، ولم تمضِ لحظات حتى دخل الرجل الذي حاورناه واستعرضناه ودرسنا أفكاره مراراً بعد أن قال لنا رئيس القسم: هذه هي الشخصية التي ستتناولونها.‏

    ثم ترك لنا فرصة للتأمل وتوجيه الأسئلة وتدوين الملاحظات، إلى أن استنفدنا كل ما يهمنا، يومها مضى الشخص هازاً رأسه، ساخراً أو مستغرباً أو حائراً، لكنه بدا أنه يستهجن ما يجري، ويرأف بنا كأنه يقول عنا: مساكين!.‏

    نقر رئيس القسم على الطاولة، وقد شدَّ حاجبيه بعضهما إلى بعض، حتى بَدَوا كأنهما حاجب واحدٌ يشبه المدَّ فوق ألف، وقال: السيد المنتج سجَّل علينا تأخيراً سيؤثر سلباً في ميزانية العمل، لذا احسموا الأمر.‏

    وصوّب نظره نحو أولنا قائلاً: هات ما لديك أستاذ أسود.‏

    همهم الأسود وتمايل على مقعده، وفتح مصنفه، وتحركت شفتاه ليقول. وقبل أن يقول شيئاً، لا بأس أن أقول: إننا مكلفون نحن المؤلفين الستة، أن نكتب عملاً درامياً، عن شخصية اختارها رئيس القسم بعد أن شاور رئيس قسم "اليجوز واللايجوز" وما يتلاءم مع المطروح، والذي ليس عليه محذور، وما لا يمس الظالم والمظلوم والسائل والمحروم، والقاضي والمحكوم، والأمير والوزير، والعاشق والمحبوب، والذهب والمذاهب، والجشع والمرتشين، والغدر والقَدَر، والثأر والانتقام، والأَيْمان، والرقص والطرب، والحسب والنسب، والدم وابنة العم!!‏

    تباعد الأسود عن بعضه، وأفرد مساحةً لشحوم وسطه، ومَسّدَ شاربيه ثم قرأ:‏

    1-: في إطار صراعٍ كامن كالجمر في الرماد، يكون البطل منضبطاً ملتزماً بدوامهِ، يأتي قبل الجميع، ويغادر بعدهم، يبدي انكساراً لرؤسائه، وتواضعاً لمرؤوسيهِ، يشرب الشاي المهيّل، ولا يعرقل عمل مراجعيه، لكنه لا يبت في أية معاملة إلا بخروج الروح، يتبول كثيراً، ولا يترك مكتبه إلا لهذا السبب، يكلم مراجعيه وهو ذاهب إلى دورة المياه معتذراً، ويعود وهو يكمل كلامه، يمتدح كرمهم، ويلمح إلى حاجته، يدعو بالخير للجميع ولا ينسى نفسه.‏

    -: من هم مراجعوه؟.‏

    -: عاديّون لا شبهة من أي نوعٍ على أيٍّ منهم، كلهم من ذوي "البيك آبات" اليابانية، والمحركات المائية التي تغرف الماء من الآبار ومجاري الأنهار. زرّاع مكافحون، هذا ما يصرحون به، وفي واقع الحال لا أحد منهم يعمل أو يفهم شيئاً في الزراعة، فلكل منهم أُجراء جفت المياه في مناطقهم فأتوا يستزرعون أراضي غيرهم فيحصلون على حصصٍ مقابل خبراتهم في رعاية الخضار.‏

    بعد فترة يبدأ السهر خارج منزله، وحسب أقوال زوجته تتدهور أحواله النفسية، وتتحسن أحواله المالية، يُصاب بالأرق ورجفان اليدين واحمرار العينين وهو يكدس الأوراق النقدية في صندوق ورثه عن جدته لأبيه.. يبدو مرهقاً حيث يقضي وقته في الوظيفة، ويمضي وقتاً أطول في مكتب الاستقامة الذي افتتحه باسم زوجته حيث يسيّر المعاملات التي عرقلها في مكتب الوظيفة، وكل شيءٍ بثوابه!.‏

    تبدو عليه حالات من الذهول والهيام، إلى أن يشاع قرب زواجه من ابنة رئيسه في العمل، بعد أن أصر على أن تهجر الدراسة، وخضّب شعره الأشهب بصباغٍ فاحمٍ نصحه به صديقه الصيدلي، وهذا ما أثار حفيظة زوجته وغيرتها، فنشرت غسيله على الملأ، فافتضح أمره.‏

    صاعقة شرخت هدوء بيته، إلا أنه سرعان ما لملم الأمر، وقد تأبط عدة رزمٍ نقدية أخذها -ثمن فنجان قوة- لأحدهم، ويخرج من عنده بعد ساعة نظيفاً بريئاً؛ بل مظلوماً، ليرفع دعوى على مستهدفيه الذين حاولوا تشويه سمعته الناعمة كالحرير!.‏

    ولا يطول الوقت حتى يطلق أم أولاده، عاقداً نكاحه علناً على ابنة رئيسه الذي يضيف مكرمة إلى مكارمه فيأبى أن يقام حفل الزفاف في أي مكان عامٍ، فـ"دارته" الواسعة ذات الطبقتين، وحديقتها الفسيحة تفي بالغرض، وتشرّف المدعوين مهما علت مقاماتهم. وتشع الأضواء، وتنهال الهدايا والتهاني وابتسامات المجاملات من أصحاب المصالح المعلقة في مكتب الوظيفة، وكانت هديته لعروسه مكتب الفتح والتيسير الذي افتتحه باسمها بمباركة من والدها.‏

    -: لحظات ليست قصيرة تلك التي قضاها رئيس القسم وهو يسند فكه السفليّ على كفيه اللذين شكلاً صحناً لبطيخة نصف ناضجة، ثم أشار بإبهامه وطرف فمه للرمادي أن يقرأ ما لديه.‏

    فقال الرمادي:‏

    2-: شفافُ البشرةِ، تكاد ترى باطنه وأنت تنظر إليه، جرحٌ عميق مازال أثره واضحاً على قسمٍ من جبينه وبعض خده الأيمن، حادث قديم تعرض له فذهب بنور عينه اليمنى، يغطي عينيه بنظارةٍ سوداء، لا يتخلى عنها إلا وقت ينام، وفي الحمام.. يتولى إدارة مالية، يُسهل معاملات المتنفذين، ويأكل لحم أكتاف من لا ظهر لهم، ينصب على النصابين، يمنح القروض لمن يمنحه هدية نقدية غالباً، وعينية أحياناً، مجامل يلبي الدعوات، مقامرٌ، يكنز ما جناه، وينفق من حساب من دعاه، ولكل قرضٍ رسمٌ، وعلى كل مبلغ حسمٌ، حازم صارم في معاقبة مرؤوسيه. ولأنه يحب السهر، فقد وضعه بعض الخبثاء موضع هدفهم، فيتحينون ليلة يكون فيها ضيفاً على أحد زُبُنِهِ ضمن حفلةٍ أقيمت في مكانٍ راقٍ بمناسبة ليلة رأس السنة، ويكون مدعواً مع حرمه، أما ابنتهما الوحيدة، فقد تركاها تبيت ليلتها عند جدتها لأمِّها "ست زبيدة".‏

    في تلك الحفلة يتصدر مائدةً عامرةً، تقابله زوجته، وحولهما الداعي وبعض الأصدقاءِ رجالاً ونساءً، حتى إذا أزفتِ الساعة وأشار عقرباها إلى اللحظة الفاصلة الواصلة بين عامٍ انصرم وعامٍ أطلَّ.. أُطفئت الأضواء وعمت الضوضاء، ثم أُعيد النور، فابتسم من تجهم، وتجهم من ابتسم، ذاك على أمل قادم، وذياك على زمن مضى من عمره.. والضوضاء تخف وتخفت، وتقدم النادل من شخصيتنا، همس وهو يشير إشارةً خفيفة إلى مكان الهاتف‏

    -: آلو.‏

    -: كل عام وأنت بخير خميس بك.‏

    -: كل عام..!. من أنت؟.‏

    -: فاتني أن أكون معك، قلت: لا تفوتني التهنئة ولو بالهاتف، خميس بك.. أعتذر عن عدم تمكني من تقبيل وجنتيك، بمناسبة عامٍ جديدٍ من عمركم المديد.‏

    -: من أنت؟.‏

    -: ولو.. ألم تعرفني؟‏

    -: لا.. قل من أنت.‏

    -: صديق. لابأس، أكمل سهرتك، وغداً ستفاجأ أنني لم أنسك.‏

    أغلق الهاتف. وعاد خميس وحرمه إلى بيتهما مع خيوط الصباح الأولى، ودخلا غرفة نومهما يكملان الاحتفال الذي لا يتكرر في العام غير مرة!‏

    كان يأبى تلبية رغبتها باقتناء الحلي الذهبية، وهو القادر على درعٍ من الفضة مصفحاً بالذهب، يستحيل على العيون اختراقه إلى مفاتنها التي ناور طويلاً للحصول عليها، فقد تنكر لوالده الإسكافي واقتلع نفسه من جذورها، وداس بحذاءٍ ثمنه خمسة آلاف ليرة على جذوة القيم، لأجل أن تكون ابنة طبيب الحمل بالأنابيب وأمها الأمازونية، زوجة له، عمه الطبيب هذا الذي جعل نصف محدثي النعمة الذين لن يتركوا خلية لا يستهلكونها كلياً في الرغبة المتأججة بالتهام نصف البشرية، يعيدون تشكيل ذواتهم في خلفٍ ينوب عنهم في العمل على نيل ذاك الكم الهائل من إناث البشر!.‏

    أما هو فقد كان ألمعياً، يتفاخر، ويدعي أنه خُلق ليكون ضابط شرطةٍ، لكن الحادثة التي أودت بعينه حرمته من تلك الأمنية التي لا تصل إلى مرتبة الحلم، وأفرحت المنحرفين الذين كان سيوقع بهم!.‏

    ها هي المآذن ترفع نداء صلاة الظهر، وعلى الباب وقفت " ست زبيدة " تحتضن حفيدتها وتقرع الجرس، والهاتف ما برح يرن منذ وقت غير قصيرٍ. تحركت زوجته، واستيقظ على مداعبتها، هبّت نحو الباب، وهبَّ نحو الهاتف. استقبلت والدتها وابنتها بالقبلات، وكان قد رفع سماعة الهاتف مغمض العينين -بل الأصح مغمض العين- فأتاه الصوت عبر سماعة الهاتف.‏

    -: خميس بك، لِمَ لا ترد منذ ساعة؟!. لا تشغل بالك، كل ما في الأمر أنني رغبت في أن أؤكد لك أني ما نسيتك. انظر حولك وستجد أني وفيت بوعدي.. كل عامٍ وأنت بخيرٍ خميس بك.‏

    -: أيُّ وعد؟!!.‏

    -: ولو خميس بك.. هدية رأس السنة.‏

    -: هدية!. أية هدية هذي التي فلقتني بها؟!‏

    -: انظر حولك، تجول قليلاً في منزلك، ولابد أنك واقع عليها، فقد أكرمناك كما تكرمنا.‏

    يغلق الهاتف ويهيم في غرف المنزل باحثاً، رافعاً النظارة عن أرنبة أنفه. شاكاً بذكائه الذي خلّصه مرات من براثن التفتيش.‏

    يضع النظارة ويتهالك على أقرب مقعدٍ في الردهة واضعاً إبهامه في فمه والسبَّابة على صدغه، فيبدوان كمسدس بيد راغب في الانتحار.‏

    -: ماما أين التلفاز؟‏

    وحماته تسأل: هل بعتم "الفيديو"؟.‏

    صاحت زوجته: أين آلة التسجيل؟.‏

    هبَّ من مكانه مرعوباً. رافعاً النظارة السوداء عن أرنبة أنفه، وراح يبحث في الخزانة فلا يجد ما تركه فيها من نقودٍ، وتحضن الزوجة رأسها بكلتا يديها باكية: لا وجود للسجادة.. ولا ثيابي الداخلية!!.‏

    ضرب رئيس القسم شفته السفلى بسبَّابته وقال: هات ما عندك أستاذ ليلكي.‏

    وقف خضر ليلكي، وابتلع ريقه عدة مرات، وهاهي حنجرته ترتفع وتنخفض. كم يرعبه السؤال، وكم يربكه أن يطلب إليه الإدلاء برأيٍ، أو أن يعبر عما لديه، ربما كان صادقاً حين يقول: يا جماعة، اقرؤوني، فهذا أفضل لي ولكم من أن تسمعوني.‏

    لكنه الآن في فخٍ لا سبيل له إلى الخلاص منه، فالسيد رئيس قسم الدراما ينقر بإصبعه على شفته، وعيناه تسبحان في المجهول، كما يفعل حين يريد أن يستمع.‏

    حرَّضت خضراً على الكلام، فقرأ:‏

    3-: ما لدي إيجاز وافٍ.‏

    رجل خمسيني، يُظهر غير ما يبطن، أصفر الوجه دون علَّةٍ، فاحم الشعر، حليق الذقن، كث الشاربين، لا يتكلم إلا نادراً. يوهم مَنْ حوله أنه من الدمثاء الذين يسمعون أكثر مما يتكلمون، والحقيقة أنه لا يتكلم لمعاناته من علَّة نطقية تجعل كلماته تركب بعضها بعضاً، ويسبق آخرها أولها، وتجنح بعض الحروف فتزدحم في أنفه ضالةً طريقها من فهمه، يداري عقد النقص المتشابكة في داخله تشابك سيرته الشخصية المختلطة إحباطات وتشرد وطفولة تعسة وتربية بيتية سائبة ودراسة غير منتظمة، إلى أن يسعفه الحظ فيستزلم، يعالج المشكلات بقبضته القوية، ويترقى من عاملٍ بسيط يقدم الشاي والقهوة لصاحب "الكراج" وزبنه، إلى معاون سائق حافلة، ثم كبير "قبضايات" الكراج، ثم نائب صاحب "الكراج" ومعاونه العام... ومن هنا ينطلق إلى تسلم مهمة التسويق السياحي -وهي سمة العقد الحالي- وأضحى نظيف اليد من الرشوة النقدية، لا يساوم ولا يقبل الولائم، يأنف، يرفض، لا يتنازل، يصبّر زوجته أن ترضى الآن بالمتاح، لتنعم بكل ما لا يخطر لها على بال، بعد أن ينتهي من غسل حاضره من أدران ماضيه، وخاصة لقبه الذي كان "أخو حفته" ليصبح "أبو حلا". هاقد استتب له الأمر، وأضحى كبيراً أكثر مما كانت زوجته تتصور، وبأسرع مما كانت تتوقع. الهاتف لا يهدأ، وغرفة الضيوف لا تفرغ، والمطبخ قائم لا يقعد، والدسم والزفر رائحة تنفحها شقتهم إلى كل بيوت الجيران. السمك والشواء والسمن العربيُّ والتوابل واللوز والجوز والصنوبر. زهقت هذه الحالة، فصارت تطلب الكباب والمتبل والموز و"الويسكي" بالهاتف. كانت ذات (صنان ولَّخَن ودَّفْر)، فأمست مالكة أكبر محلات العطور في المدينة!.‏

    كيف حدث هذا؟. كل ما في الأمر أن الرخصة لأية منشأة لها علاقة بالتسويق السياحي لا تعتبر مشروعة ما لم تخرج من بين يديه حاملة توقيعه، وتوقيعه البدائي البسيط ذاك، يعني ثلث المنشأة باسم ابنته الثيب، أو ابنه صاحب ثلة "السلبطة" ولكم أن تتصوروا الحيثيات؛ سيدي رئيس القسم الموقر.‏

    لم يعلق رئيس القسم بكلمة.. استدار قليلاً نحو زميلنا فهد الأزرق، الذي ما صدق أن تأتيه تلك الإشارة حتى انهال قائلاً.‏

    4-: ثبت فساده، وفاحت رائحة جيفته، وزكمت الأنوف تطاولاته، واستاء منه حتى حُماتُه، فاقترحوا تنحيته حفاظاً على كياناتهم، لكنه تحداهم وأهمل رغباتهم، وتشدق بما أخرسهم إذ قال: السفينة.. إما أن تغرق بالجميع، وإما أن أفوز بقبطنتها. وسافر مدة يومين ومعه مليونان، وعاد خالي الوفاض، دفعها هناك، وهنا هللت هدلة زوجته واضعة عوداً في عين الحسود، فقد ثَبَتَ في مكانه كالأمر الواقع، قَدَرٌ لا سبيل إلى دفعه، فأخذ يصول ويجول، يحشو فم "فلان" وينبش جيوب "علتان"، يرمم متراً فيسجل كيلو متراً، ويبّدل جلدة صنبور فيسجل شبكة ريِّ حيٍّ.. أجوف، ثعلب، كذوب، متغطرس أمام (اللاحول لهم)، مدّله عند من يلقمهم، يسهر ليلة الجمعة في حلب، ويعود ليتحدث في النقد والأدب، يهدم البيوت ويقطع أشجار التوت، ويتعطر برائحة "البنكنوت". انتهى سيدي رئيس القسم.‏

    ضحك رئيس القسم فتضاحكنا، ربت على كتف زميلنا الأزرق فغرنا؛ هدأ فهدأنا، وعاود الضحك فاستضحكنا، ثم صمتنا حين أشار إلى زميلنا زهران الصفراوي، فتدافع الصفراوي بجثمانه ولسانه ولهاته، حتى كادت حباله الصوتية تشنق كلماته، لفرط ما انفعل؛ حباً ورغبةً بأن يستأثر بالعمل، هَمْهَمَ منوّساً عينيه، قابضاً ومرخياً، مقلصاً ومفرداً، ضاباً وفالشاً عضلات عنقه وما بين الحاجبين والصدغين. قال زهران الصفراوي.‏

    5-: يتستر بشهادة بحجم إمارة "موناكو"، فارغة المضمون خالية المكنون، جعلته يدعي المعرفة والثقافة، والحقيقة أنه غير قادر على إبداع جملة نثر، أو بيت شعر، لا يميز بين السيكا و"الجيكا"، ولا فرق لديه بين الحوارية واستجواب الشرطة، يقطع وعوداً ولا يفي بها، يدغم الخطأ بالصحيح، يكتم ما يجب البوح به، ويبوح بعكسه، مغترٌ بنفسه، يعامل أصحاب الأقلام بفوقية، جعلته في أعينهم دون ما يريد. رغوة طائفة. وظّف أولاده تحت إدارته، وأبقى تحت تصرفه أبواب الأقسام الأكثر مردوداً، وزرع في كل قسم أحد أقاربه، إنها فرصته، يعرف أنه لا شيء إن بات خارجها. يدرك ذلك في قرارة نفسه، ويعرف أنه تسنم جملاً ليس له، لذا لا يتوانى عن استغلال كل ما عند الجمل من صبر، يتعشى قبل العودة إلى البيت، وفي الصباح يُفرغ ما في جوفه فيكفي ألفي جُعل!. وحين تعرض منزله للتهدم إثر زلزال، هرب بشهادته وهام في الشارع ناسياً زوجته تحت الأنقاض وهي التي شقت له الطريق نحو الأضواء!. وفي الطريق صادفته دورية تتصدى للكلاب الضالة الشاردة، ولأنه لم يكن يحمل بطاقته الشخصية، حملته معها وهو يصرخ محتجاً أنْ هذه شهادتي.. انظروا. ضحك أفراد الدورية، فقد كان بلا هوية، وشهادته خلبية.‏

    بعد أيامٍ عرضوه داخل قفص في حديقة الحيوان، ومنادٍ يصيح: تعالوا انظروا.. كلب يدعي أنه إنسان!. لم يطل الصمت، فقد قطعه رئيس القسم قائلاً لي: وأنت؟.‏

    قلت:‏

    6-: كتبت عشرات الصفحات عن شخصيتنا المقترحة، إلا أنني للتو فكرت أن ألغي ما كتبت، لأجعل من اجتماعنا هذا والاجتماعات السابقة، وكيف أن كل واحد منا قد تناول الشخصية برؤيا خاصة، لبّ الصراع الدرامي بيننا نحن الكتّاب حول شخصيتنا، آمل أن يتكرم السيد رئيس القسم والسادة الزملاء منحي هذه الفرصة.‏

    زمَّ رئيس القسم شفتيه، وصمت طويلاً.. وكلنا ننظر إليه وننتظر منه أن يدعم أحدنا. خمسة منا ستخيب آمالهم، ولا أظن أننا سنغبط السادس. التفت رئيس القسم إلى شخصيتنا وسأله: أي منهم وصل إليك؟‏

    قال: لا أحد منهم، وكلهم.‏

    ذهولٌ عمنا، وصمت خيبة لفّنا، وقد أخذتنا حيرة، بعضنا وقف محتجاً، وأحدنا هَمَّ بتمزيق ما كتب، لولا استدراك رئيس القسم: حسناً.. فلتكن شخصيتنا مثل زهر النرد ذي الوجوه الستة، تناولوه جميعكم مشتركين في وضع السيناريو والحوار، لنبدأ التصوير خلال شهر.

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()