بتـــــاريخ : 11/13/2008 8:03:26 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1068 0


    النقّالة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : غسان كامل ونوس | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    لسان معدني يتحرك مع ارتجاج الباب، ولسان لحمي عاجز عن الحركة في فم مُقَشَّش. الحفر والنتوءات تدغدغ السيارة المتحفزة للانفعال بهزّات متواصلة غير منتظمة، تناسب حال السائق المنتشي بأغنيات تتعالى من مسجلة أمامه، والذي يشرع صوت سيارته البومي عند كل منعطف، أو آلية، أو كائنات، فيسارع بعضهم للوقوف، وربما يذكرون الله، ويدعون بالشفاء، ويترحمون؛ رغم أن الأمر لا يستحق! هل كان السائق على هذه الحال حين حصل معه ما حصل؟! إذن لا غرابة في ذلك؛ فلو ينقصف نصف السيارة لا يمكن أن يحس به؛ ضحك سعد كثيراً وهو يروي الحادثة تلك مرات، لكنه الآن لا يستطيع الضحك، وشر البلية ما يضحك حقاً..!‏

    ***‏

    اللسان يتحرك داخل حلقته المعدنية بتواتر مرعب، عينا سعد معلقتان به، عليه أن ينبه السائق، لكن ما بينهما فاصل محكم، ووضعية استلقائه لا تساعده. يحاول أن يصيح، لازال لسانه منعقداً؛ لسانه الذي صانه كثيراً ولم يفده ذلك في شيء.‏

    النقالة تهتز، يترجرج جسده فوقها، تحاول يداه التمسك بالحواف؛ الأمر لا يستحق كل ذلك. لو كان يستطيع الجلوس لجلس جوار السائق، أو لذهب في أية سيارة عامة؛ لو كان أخبر أحداً من أصدقائه لكان إلى جواره الآن. لكنه خجل، والأمر لا يستحق، كما أكد له الطبيب.‏

    "إذا كان لا يستحق حقاً، لماذا العملية؟!".‏

    تنقبض ملامح الوجه، يشتد تمسكه بالحواف:‏

    (عملية؟! وتذهب وحدك إلى المشفى؟! إن اسم العملية لوحده كفيل ببث الرعب في نفسك؛ عملية: تخدير، وغيابٌ عن الوعي، وشق، ورتق، وإنعاش! وماذا لو لم تفق؟! ماذا إن تحسست من التخدير، أو نسي شيء من بضاعة الطب في داخلك؟!).‏

    "لا.. لا.. مستحيل! هل هذا معقول! أنوّم ولا أفيق وحيداً؟! هذا خطأ، خطأ قاتل ارتكبته بحق نفسي".‏

    يهدأ قليلاً:‏

    "لماذا لا يكون التخدير موضعياً؟! الحالة خارجية، والمشفى حديث ومنظم؛ فلا خوف من شيء؛ مع ذلك، لو كان معي مرافق. لكان أمسك لي هذه النقالة الشيطانية على الأقل!".‏

    تراوده ابتسامة شحيحة: "اقترحت على السائق أن يربطها. قهقه عالياً:‏

    - ونربطك أيضاً..!‏

    ثم ضرب كفاً بكف، بينما كنت أتمدد فوقها وصاح:‏

    - ليس هكذا؛ رأسك إلى الأمام!‏

    - لا.. هكذا أفضل؛ في هذه الوضعية أكون قريباً من الباب، يمكنني أن أراقبه جيداً.‏

    - لو حصل معك ما حصل لحمدان، ستأتي على رأسك:‏

    (وصلت إلى جناح الإسعاف مطلقاً الصوت المرعب، تراكض المناوبون والمرافقون والمرضى القادرون أو أسرعوا إلى النوافذ، أسرعت إلى الباب الخلفي، قلت لهم: استلموا! لم أنتبه إلى أن الباب مفتوح، نظرت إلى داخل السيارة؛ لا نقالة ولا من يحزنون!! انعقد لساني واضطربت، ولم أدر ما أفعل، ثم انطلقت بالسيارة بأقصى سرعة، راجعاً على الطريق ذاتها).‏

    يضحك ضحكاً كأنما خارج من أعماقه: (على بعد كيلومترات كان حمدان يعرج حاملاً النقالة تحت إبطه!).‏

    كان يتحدث بانشراح غريب دون أن يعطي بالاً لقلقي:‏

    - ماذا لو انقلبت النقالة؟! أو كانت سيارة وراءنا مباشرة.. أو.. أو.. ليتني وافقته؛ السقوط على القدمين أهون منه على الرأس! لكن.. لا.. هكذا أفضل؛ يمكن أن أستقبل الأرض بيدي، وأحمي رأسي.‏

    قال مداعباً: (لماذا تمسك بالنقالة بهذا الشكل؟! منظرك كمن يتعلم السباحة على فراش أو خشب).‏

    حقاً، يشبه ذلك، حدث معي مثل هذا".‏

    ضحك سعد، ثم ناست الضحكة:‏

    "لقد انقلب الفراش، ولولا صديقي الذي يجيد السباحة، اختنقت من الماء المالح، لو سبحت هذه النقالة في الهواء، أو انقلبت قبل أن تنقضّ على الأرض، من الذي ينقذني؟!".‏

    ***‏

    القضية لا تستحق، لست أول من يصاب بهذا، أو تجرى له هذه العملية. كثيرون سبقوه، وكثيرون ينتظرون دورهم كما يقول توفيق الذي صارت مؤخرته على كل شفة ولسان، كما كان يصرح دائماً، ويؤكد: لقد دخلت مؤخرتي التاريخ! ويستطرد: تاريخ هذه المؤسسة على الأقل. ونمَّ عن بعض المقربين من المديرية أن المدير قال: ليتهم اقتطعوا لسانه بدلاً من مؤخرته، وربما سنتكفل نحن بذلك..!‏

    لتوفيق لسان سليط لا يستقر في فمه، يقول ماله وما عليه، والجميع يحسبون حسابه، لكنه هذه المرة تمادى رغم أن القضية لا تستحق، بضع إصابات من بين مئات العمال والموظفين لا تشكل وباء أو كارثة، ولا يترتب عليها أية مساءلة. فقرار التغيير جاء بناء على المصلحة العامة: (هل يمكنني مراقبة كل الناس؟! وكيف إذا حدث أمرٌ طارىء، ألا تحدث كارثة؟! الكراسي الخشبية لا تسمح بالنوم، إنها تلزمهم السهر والتيقظ، وتبقيهم في حال انتباه قصوى؛ الآن أستطيع أن أنام مرتاحاً!!).‏

    ***‏

    "حين تبدأ الشمس انحدارها الغربي. أحس أن خيوطاً من الحزن تبدأ بنسج خمار أصفر على وجهها، يحمر رويداً قبل أن يلقي بها في البحر.. وهو ما يشعرني بالانقباض، منذ أن كان الليل غابة ظلمة كثيفة مديدة موحشة. وكنت أحس أن مغادرة القرية في مثل ذلك الوقت، حيث يبدأ الناس بالعودة إلى بيوتهم، وتبدأ القرية بضمّ أجنحتها، ولملمة أطرافها، استعداداً لخلاصها اليومي المأمول، تحمل شجناً مضاعفاً وأسفاً وندماً وقنوطاً. وكنت أفضل السفر في الصباح حيث الكثيرون مسافرون، وإن كان لا يطول. مدى سفر بعضهم اليوم منذ الصباح ونحن ننتظر هذه السيارة: (كانت تجرى لها عملية!)، حاول رئيس القسم التخفيف من مرارة انتظاري: (اشكر ربك أن عمليتها بسيطة كعمليتك؛ أما السيارة الأخرى فهي في العناية المشددة؛ أبعدك الله عنها.. وأبعدنا!).‏

    فهل هذا سبب آخر لاكتئابي؟!‏

    ولماذا السيارات الصحية مريضة، والسيارات الأخرى حديثة تتناوب قرب بيته- بيتها، وكل شيء آخر حديث؟!‏

    لو كانت هذه هي المشكلة الوحيدة في هذه المنشأة الهامة لهان الأمر!".‏

    خبطة قوية، اصطدم رأسه بحافة النقالة، تحسس بيده مكان الوجع، وبدأت أصابعه تتحرك على الجلد:‏

    "كان شعري كثيفاً يحسدني عليه رفاقي، ويحاربني من أجله مدربو الفتوّة، ليس من أصلع في أسرتي؛ شعري بدأ يتناثر، الهباب يملأ أنفي، لم أعد أميز الروائح، عيناي تجعدتا من السهر والنوم في غير أوانه، ما أقسى أن تسهر والناس نيام؛ ليس سهراً لمسامرة النجوم وتأمل القمر، كما في أصياف قديمة، ولا لمشاوير العين البعيدة ومرافقة الدّراسات، سهر متواصل عنيد، ضجيج وأصوات آلات وأبخرة، أسهم وأزرار ملونة، وانتظار طارئ يتربص بعينيك آن تغفل، وبمصيرك حين يسرقك السهو، وبأمانك حين يراودك الشرود. قبل التحول الكبير، وفي الحالات العادية، كان ينام بعض عناصر الوردية، وآخرون يناوبون، ولم تكن مشكلة. أما الكراسي التي حلت فتحتاج لكي تتوازن فوقها إلى يقظة مستمرة، وحذرٍ متوثب.‏

    كما هي الحال في هذه النقالة.‏

    آه.. الكراسي اللعينة، سبب بلواي الحالية. قالوا: لسان توفيق كان السبب، هناك تأكيدات على السرية، وأنا أمسكت لساني!".‏

    (هي ليست السبب الوحيد..!‏

    أنت لم تكن مضطراً للورديات، يمكنك العمل صباحاً؛ تذهب مع الذاهبين وتعود مع الآيبين؛ لكنك رغبت بهذا النظام. تركته مرات وعدت إليه، لماذا؟! حوافزه كثيرة؟! تعويضاته أكثر؟! أنت قلت بلسانك: إن كل ميزة لا تساوي ربع ما يصرف من تعبٍ وسهر وعمر! إذن؟! غيرك ملزم بهذا النظام؛ شهادته ووظيفته! وأنت مخيّر؛ مع ذلك طلبته: أساعد في تربية الأولاد؛ الزوجة موظّفة، يمكن أن تبقى معهم أياماً قبل أن يحين موعد الوردية الصباحية التالية.‏

    كان هذا سبباً مشروعاً، أما الآن فقد كبر الأولاد.. وذهبوا إلى المدارس، فما الذي يُلزمك بعد؟!‏

    - نعم، هناك من يلزمك؛ ولكنك لا تعترف..!).‏

    اللسان لا زال يتقلقل، والأفكار لا تتوقف:‏

    (هذه الارتجاجات والاهتزازات أثرت على تفكيرك، فصرت تهذي..‏

    جارتك المصون، نعم تلك الجارة المميزة؛ أنتما في الحارة فقط: زوجها موظف وهي غير موظفة، هي لا تحتاج إلى وظيفة، فإمكانية زوجها تغني.‏

    أما أنت، فتحتاج راتب زوجتك الذي قد لا يكفيها ثمن ملابس ومصاريف انتقال. مع ذلك، فهذا يريحك من قلق انتظارها لك، والنقّ والشكوى منك وإليك. أنت لم تخجل من زوجتك أو زملائك، إذ لم تخبرهم. أنت خائف من أن يصل الخبر إليها!.‏

    لم يحدث شيء معها، وربما لن يحدث؛ لكن ما بينكما استطاع خلخلة توازنك، وتحريك الدم الذي خلته تجمد في عروقك. أما زوجتك فمنشغلة بوظيفتها وأولادها، وجارك مشغول بعلاقاته واجتماعاته وحساباته.‏

    إنها فضيلة الورديات وبلواها..‏

    حدقت غير مصدق ما ترى وتسمع: موسيقا هادئة، وجسد يتمايل عبر النافذة المفتوحة والستارة الشفافة؛ ظننتها الخادمة، كنت على الشرفة المقابلة، تحركت مبتعداً، وحين عدت كانت الموسيقا صاخبة، واستطعت أن ترى قطع ملابس وأشياء أخرى تتطاير.. حسبت الأمر عابراً رغم حديث زوجتك، لكنه تكرر، صار برنامجاً صباحياً حيث لا أحد في الحارة سواكما.‏

    امتنع عنك النوم، تغضّنت ملامحك، زوجتك لاحظت ذلك، زوجتك التي تنام طوال الليل، وما تيسر من النهار، وأنت متخصص في السهر. قدرات وحيوية تخبو، إذ تساومك زوجتك عند كل اقتراب، على أمور شتى، ويمتصها المعمل والورديات، هذا النظام البائس، النظام الماتع؛ كنت تبرر: التنوع جميل كل يومين برامج جديد، لكن تعب المراقبة وساعات الجلوس الطويلة هدّتك، أتعبت عظامك، وشوّهت مؤخرتك، أخفيت ذلك عن زوجتك التي فرحت لسماحك لها بالنوم دون طلبات، ولم تفكر في الأمر طويلاً، هي بعيدة عن كل ما يجري في هذا العالم، وغريبة وباردة وساذجة، مع ذلك فهي تتحمل مسؤولية الكثير مما أنت فيه. فهل تلومها أم تشكرها؛ أخبرتك بنفسها كيف دخلت إلى جارتها ظهيرة أحد الأيام، فتحت لها الخادمة، وأدخلتها غرفة داخلية، دهشت حين رأتها مع بعض صديقاتها متسمرات أمام شاشة صغيرة، وحدثتك عن قرفها وخروجها بعد قليل إذ شعرت بالغثيان، والحاجة إلى الإقياء..‏

    هي التي لفتت انتباهك، حرضت فضولك، وأثارتك، فرحتَ تراقب البيت لتتعرف على صاحبته العابسة العنيدة، فكان ما كان. المشهد مثير يستحق كل تعب..).‏

    ارتاح خده على إسفنج النقالة المريح كإسفنج المقاعد التي كانت:‏

    (أنت معتاد على هذا الملمس، ومعتاد على سرعة استسلامك للنوم فوقه، وفراشك الزوجي يشبهه؛ فراشك الذي صار شوكياً لولاها! لم تقترب منها، ولم تبتعد عنها، هي معك في الليل الطويل، والنهار الطويل؛ تتراقص أمامك على العدادات والمؤشرات، وأنت متوتر قلق، متعلق بها خائف منها ومن زوجها الذي يستطيع أن يقذفك خارج هذه المنشأة خارج هذه الحارة، خارج الحياة، رغم أنه من عمرك ومستواك، لكن لديه الجرأة والحيلة والرغبات والإمكانيات المبسوطة كل البسط، وأشياؤك مغلولة إلى عنقك..!). انسدل جفناه، تراخت يداه، وهن الارتجاج كأن الأرض استوت. هل اقترب من المدينة؟! هل انتهت الحفر والمطبات..‏

    اللسان كان لا يزال عالقاً في الحلقة حين نظر إليه، اطمأن إلى أن الباب مغلق.‏

    عاد خده مرتاحاً على الإسفنج الدافىء.‏

    الاهتزاز يلطف، وموسيقا تصاعدت من مكان ما.. وحركة جسد يتمايل: تطايرت الثياب وأشياء أخرى، عذبت اللحظات، هو لم يشاركها الرقص، ولن يشاركها الآن، فليستمتع بمشهد عزيز قريب، وبعدها.. وبعد..‏

    تسارع الإيقاع، ارتفعت وتيرة الأغنية، قهقهة تتعالى. عينان تتابعان ظلالاً تتمايل، إيقاع الجسد يتزايد، الجسد الذي يشف حتى لم يعد يميزه..‏

    صوت بومي صاعق.. ارتجاج قويٌّ يدوّي، ولسانان ينفلتان بإيقاع واحد..‏

    -تَمَّتْ-‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()