بتـــــاريخ : 11/13/2008 8:02:16 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1676 1


    مطرٌ آخر الوقت

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : غسان كامل ونوس | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    أفاقت من نومها مذعورةً.. امتدت يدها بلهفة إلى صدرها، لتتأكد من وجودهما معاً؛ لم تدر كم نزّ من فحيح الليل، وعلى أية آهة يتقدم الصباح، لكنها تعلم أن الجو شتوي حقيقي، وكل ما حولها يوحي بالكآبة، ويشي بالوحشة، وينم عن القلق، ويشد الحبال ليضيق الفضاء المربدُّ، حتى ليكاد السقف يطبق على النفس.‏

    منذ أن عادت صديقتها وفاء بثديٍ واحد، وهي تعيش أوقاتاً كابوسيّة في اليقظة والنوم.‏

    لم تكن وفاء الضحية الأولى التي يداهمها ذلك المرض اللئيم في المحيط القريب، لكن الأمر مع وفاء مختلف..‏

    ***‏

    هما آخر كنزٍ يمكن أن يلفت الانتباه؛ فقد جفت نضارة وجهها، وبدأت ظلال شاحبة تستوطن ثناياه؛ وعيناها خف بريقهما وحياؤهما، وصار بإمكانهما ملاحظة كيف تستقر النظرات الشهوية والفضولية أسفل رقبتها، وتنتقل من جانبٍ إلى جانب.‏

    هذا ليس جديداً، تماماً، على من كانت في مثل سنّها، لكنها في ما مضى، كانت تنزعج بدرجة ما حين تلمح أو تتوقع حصوله، وتفكر أن على الناظرين أن يتفحصوا الرأس، وهم إذا كانوا لم يريدوا أو يستطيعوا إلى الآن النفاذ إليه، فإنهم يخسرون.. لكنها بدأت تحسُّ منذ زمن ليس بالقصير، أنها كانت هي التي تخسر، وهذا ما جعلها تنقل مركز اهتمامها إليهما: تعتني بهما، وتنشغل بمرتسميهما، وتنتقي ما يناسب ذلك من حمّالات وثياب.‏

    فإذا ما اختل توازنهما، فإن تلك النظرات ستعبرها إلى عشرات غيرها عرفن الأهمية والمكانة للأعضاء الجاذبة، وتفننَّ في اصطياد التحديق والمحدقين، كما فعلت وفاء في زمن مضى..!‏

    هي لا تشك في أن المقارنة الآن بينها وبين وفاء غير مناسبة؛ فحالُ وفاء أكثر مأساوية بما لا يقاس، إذ ستترك وراءها طفلين ورجلاً لا زال في عمر الشباب. أما هي فليس لديها ما تذكر به أو يؤسف عليه سوى أنها (لم ترَ من الدنيا شيئاً..) كما تولول أمها بلهجة مشوبة بالغضب، وهذا ما يمكن أن يبرر تلك المقارنة؛ فقد عاشت وفاء حياتها، أنوثتها، أمومتها، بأية درجة وأية مساحة زمنية، في حين يلح السؤال:‏

    هل سترى في هذا العمر شيئاً بعد؟! وهل ستنفعها انتفاخاتها الطبيعية حتى لو لم يصبها ذلك الخبيث بانتفاخاته القاتلة؟! ولكن، هل هناك بديل عن الانتظار الذي يبرر الخوف مما هو أعظم؟! ويسوّغ الوسواس منه، والانصياع للنصائح التي تدعو في كل ما تسمع وتقرأ للفحص الدوري للكشف المبكّر عنه..‏

    ***‏

    "كان الفحص طبيعياً، ملامسةٌ وتحسسٌ بحثاً عن درنات خبيثة، إلى أن غدت حركات أصابعه مختلفة، وكذلك ملامحه وأنفاسه، فضربت يده، وقمت عن الطاولة، أغلقت ثيابي وشتمته وخرجت".‏

    وهي الآن لا تشك في الحادثة التي تكررت أكثر من مرة على لسان العديدات، رغم أنه معروف في اختصاصه، لكنها تشكك في الخاتمة؛ فقد لاحظتْ شيئاً ما في ملامح محدثتها التي غزاها الاحمرار، وتهدّج صوتها ورفت أجفانها متسارعة.‏

    وهذا الأمر ليس جديداً، وليس مهماً كثيراً، بل الأهم أنها استبعدته أيضاً من قائمة الذين يمكن مراجعتهم بعد أن صرفت النظر عن طبيب آخر كان قد قال لصديقة أخرى: "أنتِ تعانين من كبتٍ يا آنسة، وسواسك ناجم عن هذا، يمكنك أن تعيشي حياتك،.. الزمن لا ينتظر، ولجسمك عليك حق.." ورافق ذلك ملامح معبّرة وحركات لها معنى..‏

    وكانت قد أسقطت من حسابها عدنان الذي عاد منذ فترة ليس بعيدة، من رحلة علمية تطاولت، وكانت سبب شقائها، إذ تركها معلَّقة بين الأمل واليأس، والوعد والتجاهل، إلى أن غرقت في طمي الندم، وهوة الخيبة، وضاعت في سراب السنين.‏

    وليس معقولاً أن تذهب إليه الآن بعد كل ذلك، وتمكّنه مما رفضتْ أن تهبه إياه يوماً، رغم إلحاحه وزعله من ممانعتها، وزعلها على زعله، وكان حساساً. صحيح أن الحالة الآن مختلفة، والغاية مغايرة، لكن الذاكرة والواقع والعيون والألسن والكرامة لا تَسمح؛ والخبيث أهون..!‏

    ***‏

    تتحرك في السرير الذي يئزّ أزاتٍ جوفاء تضيع في صحراء ملفعة بضباب أسود يهيمن حولها، ويضيّع تساؤلات وأجوبة:‏

    "لو وافقْقُهُ يومئذٍ، ماذا كان يمكن أن يحصل؟! وهل كان ذلك سيغيّر من واقع ما جرى شيئاً؟! وماذا كنت سأخسر؟! وهل أعيش الآن في بحبوحة ربح!!".‏

    تنزّ آهة عجفاء، وتغصّ مغمضةً عينيها:‏

    "كنت ربحت تجربة على أقل تقدير"!!‏

    تجربةٌ تبدو الآن عزيزة وملحة ومحرقة وعصية.. كما تؤكد كل طقوس حياتها.. تضجّ عيناها المفتوحتان بمشهد السواد المطبق:‏

    "إذن.. لماذا ألوم صديقتي إن تصرفت عكس ما صرحت به؟! أو صديقاتي اللواتي يراجعن الطبيب ذاته، دون أن يشكون أو يقلن شيئاً..؟!‏

    وماذا لو حدث معي ذلك؟!".‏

    تتوه نظراتها في العتمة التي لا زالت تحط في كل مكان.‏

    لماذا لا تذهب إلى طبيبة وتنتهي المشكلة؟! سؤال هيِّن يطوف بين الحين والآخر، والجواب ليس هيّناً، إذ إنها لا تثق كثيراً ببنات جنسها، ولا تستبعد أن تكتشف الطبيبة فيها المرض عينه، حتى لو لم يكن موجوداً، وتعمل على استئصال أحدهما أو كليهما. وإذا لم يكن ذلك، فربما اكتشفت أمراضاً أخرى في الجسم أو النفس، وهي لا تزال تذكر كلام عدنان الذي كانت تلتذ بحديثه وتسعد بتحليلاته:‏

    - المرأة أشد عداء للمرأة من الرجل، وإذا لم تصدقي، ما عليك إلا أن تراقبي عيون النساء وملامحهن عند مرور فتاة في أي مكان، وتقارني ذلك بعيون الرجال.‏

    هي لم تكن تصدق، أو لم يكن يشغلها، فأمانها معه كان يغنيها عن كل شيء، وربما يعميها..!‏

    لكن تجارب ووقائع كثيرة استرعت انتباهها، ولم تكن في حاجة للابتعاد كثيراً في البحث، فزوجة أخيها التي عاشت في البيت ذاته فترة من الزمن ضحكت كثيراً، وصوّتت أكثر في غرفتها الزوجية، كما بالغت في أعراض الوحام، وتمايل بطنها المنتفخ، وتحاول إلى الآن إبعادها عن أولاد أخيها، رغم انتقال سكناهم، وزياراتهم القليلة إليهم.. وهي لا ترى الآن في لوم أخواتها لها وتقريع أمها واتهامهن إياها بالغباء إلا انتقاماً منها لإحساسها بالتفوق والفرادة، وشماتة مبطّنة في ما آلت إليه قراءاتها وأفكارها، بينما يعشن حياتهن متزوجاتٍ مخلّفات (مستورات)..!!‏

    أما وفاء، فإنها تكفي، وحدها، للبرهان على مدى ما يمكن أن يصل إليه التنافس بين المرأة والمرأة؛ فقد كانت صديقتها الأليفة، عاشا معاً زمناً مهماً، وأسرتْ لها باهتمام توفيق بها، هذا الذي لاحظته وفاء، وكانوا في دائرة واحدة، لكن وفاء استغلّت ترددها محاولة تحرير نفسها من أوهام علاقتها بعدنان، والتخلص من أدران جحوده، وجهدت إلى أن نجحت في استمالة توفيق وإغرائه بغنجها ودلالها وفتنتها..‏

    أحست بموجة ألم مباغت "هل الآن وقت الشماتة؟! وفاء هذه تعيش الآن لحظات عصيبة وزمناً مسموماً وحياة لا تحسد على ما تبقّى منها.". ولن تشمت بها، ستحاول ذلك، لكنها لا تملك كبح جماح فكرة راودتها وعذبتها كثيراً كانت قد أفلتتها وفاء، وهي تهدهد آخر مولود بين يديها:‏

    - عليكِ أن تنتظري ترمُّلَ أحدهم كي تحظي بنصيبك..!‏

    ولم تنسَ في أعقاب ضحكة مجلجلة أن تبعد الشرَّ عن شبابها، واضعة يدها على صدرها..‏

    تململٌ شوكيٌّ وموجات انصعاق تجتاح الجسد كله، وزفرات تصوّت في الحلق الجاف..‏

    مع ذلك ستحاول جاهدةً عدم التفكير بنظرات توفيق آن خروجها من زيارة وفاء الأخيرة، والمكان الذي استقرتا فيه..‏

    امتدت يدها إلى صدرها من جديد..‏

    "هل نظر إليهما حقاً؟! أم أنه الوهم؟! هل يصح أن يفعل ذلك، أو أكثر، ولم يمض سوى أيام قليلة على حال وفاء الجديدة، هو لم يحبها كما حاول إفهامي أكثر من مرة، وحاول التكفير عن تهوّره وخسارته، لكني لم أعطه بالاً، ولست آسفة، فهل من يفعل مثل هذا الآن يستحق أن يفكّر به؟!".‏

    لكنها تحتاج أن تفكر في أية فرصة! هذا ما تضج به أبواب كثيرة لازالت مغلقة تتشهّى الطرق؛ فهي إنسان لا زالت، وأنثى..‏

    "هل أنا في حال يمكن أن أرفض فيها احتمالاً كهذا؟! إذن سيصح ما تقوله أمي وأخواتي، سأكون قصيرة النظر حقاً؛ بل عمياء كلية.".‏

    توفيق كان قصير النظر، وصار بعيده، ليس هو المهم، بل الأهم أنه لا زال فيها شيء قادر على لفت الانتباه.. وقادر على الفعل، فهل هذا ما جعل دبيباً حلواً يوقظ أشياء كثيرة من سباتها المزمن؟!‏

    تحركت راحة كفّها تتحسسهما؛ لاح طيف مجنح جميل، تجاوزت أحدهما بحلمته المنتصبة، خفقُ أجنحة عذب، علقت في الخندق بينهما، انتفضت، سقط الطيف: "يا إلهي.. سيزداد اتساع هذا الخندق، سيصبح مثل وفاء.. وفاء.. وفاء..".‏

    هدأت، ابتلعت ريقاً ناشفاً:‏

    "- آه.. مسكينة وفاء؛ هل يمكن أن أخونها؟! هل يصح أن أطعنها، وهي على فراش الموت؟! أن أطلق عليها بيدي طلقة الرحمة؟!".‏

    انقباضات وارتعاشات، تقلبات وتحركات، فتح وإغماض:‏

    "ولكن.. ألم تخني وفاء؟! هل فكرت بي وبمشاعري؟! هل حسبت أيَّ حساب لصحبتنا وصداقتنا؟!‏

    زفرة حارقة مكتومة تداخلت مع صفير الهواء في الخارج، وتحركت يدها دون شعور تصعّد فوق الثاني:‏

    - ألم تطعنّي في الصميم، وكنت جريحة القلب منكسرة الخاطر؟!‏

    هل هذا انتقام؟!‏

    وهل يمكن أن يسحب عليها أي سلاح وهي في هذه الحالة؟!‏

    تشنُّجٌ وتوتر..‏

    - لم أسلم من وفاء في قلب هذه الحالة! لاحظتُ انزعاجها من زيارتي. وشيئاً ما في عينيها اللتين استقرتا على الصدر، وحاولت إبعادي عن كل ما يقرب بيني وبين الحياة (المليئة بالغدر والخيانة واستغلال الظروف والشماتة).‏

    مع ذلك هذا ليس من أخلاقك، ولا تستطيعين تبريره حتى لنفسك، ولا تحمّل تبعاته..!".‏

    توقفت يدها بعد أن أحست بملمس القش تحت راحة كفّها..‏

    الصباح ما يزال ينسل خيوطه البيضاء بصعوبة من رداء الليل العنيد المدعم بغيوم عاقرة مقيمة منذ أيام، وانكماش الأرض تحت سلطان برودة محكمة تضاعفها رياح توالي عصفها على الأشجار، فترقص رقصاً غير منتظم، بدأ يظهر عبر أطراف الستائر المقصرّة، التي يزيد من عجزها الهواء الذي يعبر الشقوق مصحوباً بأنين مكبوت. يذكرها بما كانت تطلقه زوجة أخيها، وبتأثير لا يختلف كثيراً، كان ذاك مستفزاً، وهذا يزيد في توترها وحيدة مأخوذة، ولا يخفف من إحساسها هذا وجود أبويها في غرفة أخرى، هذا الذي كادت تنساه، ولن تذهب إليهما.. لا يمكنها أن تتنازل حتى لهما، لو كان بإمكانها مثل هذا لما كانت هنا الآن؟؟! تتغلغل البرودة أكثر في المسام المُصْلاة؛ برودة أقسى من قدرة أية أغطية على إنعاش الجسد الذي يتوق دفء مشاركة تلطّف تقشّر الوقت، وحنان لمسة تذيب برد التلهّف، وتسيل العذوبة في مسارب عطشى..‏

    - هل تأخر الأمر كثيراً وفات الأوان؟! أم إن في الآتي احتمالاً، وفي الأجواء السديمية مطراً ورعداً يطلقان الينابيع من صخورها العنيدة.. تحركت من جديد لتضم ساقيها، ولتلم أطراف الغطاء باليد الأخرى. أزيزٌ معدني منفّر، هل هذا صرير الجسد أم تمرُّد السرير الذي ملّه؟! "لو كان تحركاً مشتركاً هل كان لهذا الصوت المعنى ذاته؟! أم سيطوف حينها لحن مختلف؟! وهل سيكون هناك وقتٌ للتفكير بهذا الصوت أو سماعه، أم سيضيع في ثنايا أصوات أخرى أكثر عذوبة ومتعة.. آه.. هل يمكن أن يحدث هذا بعدُ؟!".‏

    لا زالت يدها في صدرها، تحركت، راحة كفها تسيل بليونة، تزداد حرارتها، أحست بنعومة الأصابع ولذة شغبهما، قطرات خفيفة تنقر النوافذ. ذبلت عيناها، تراخت عضلاتها المتصلبة، ونغل في الجسد دبيب مراوغ؛ الأنفاس تتلاحق، والأصابع تزداد نشاطاً وحيوية، والمسام تتفتح.. ألسنة نارية تجتاح النوافذ..‏

    (إنه يبحث عنه، يطارده خوفها) عبرت كلمات صديقتها، وطاف إحساس لم تحس بمثله يوماً، متعة أم لذة؟! رضىً أم أمان؟!‏

    هل نجح في الكشف المبكّر عنه، أم كان كشفاً متأخراً جداً عن شيء آخر.. لكنه كان..‏

    (ضربتُ يده وشتمته..).‏

    هدير عميق.. ستشتمه.. لاشك ستشتمه..‏

    هدير يتصاعد.. إنها تشتمه، توجه إليه أقذع الألفاظ..‏

    هل تحركت شفتاها بهذا؟! أم انفرجتا تحت وقع قطرات يزداد انهمارها.‏

    وهو مستمر في البحث، لا يأبه، ستضرب يده، يده اللطيفة، الماهرة، يده التي تقسو.. آه.. ستضربها.. وماذا لو ضربتْها؟!‏

    يده التي تقسو أكثر، فأكثر..‏

    النافذة تصطبغ مرة إثر مرة بلون الحريقِ، إحساس بما يشبه الألم أو اللذة، الموافقة والرفض.. لا.. يجب أن تضربها، أن تسحب نفسها منه، هي تضربها الآن، تضربها بعنف، الأبواب والنوافذ تهتز، لكنها يدٌ ماردة، يد جبارة تعتصره حتى تكاد تسحقه.. تخاف الآن إن تصرفت بشكل سيء أن ينتزعه، أو أن يبقى في يده إن سحبت جسدها وفرت..‏

    لا.. هذا غير ممكن، ستصبح مثل وفاء، ولن يعود أحد حتى زوج وفاء/ أرملها لمعاينة صدرها.‏

    وهل ستعيش بواحد فقط، فقط؟!‏

    بريق يشعل كل شيء..‏

    "لا.. لا.. هذا مستحيل.. عليّ أن أتدارك الأمر.. أن أحافظ عليهما، أن أراجع الطبيب، الطبيب المعروف ذاته، الطبيب الذي راجعته صديقتي، صديقاتي.. للكشف المبكر.. الكشف المتأخر.. عن.. عن.."‏

    يهتز البيت والسرير والجسد.‏

    - تَمَّتْ -‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()