خمسة أطباء من خيرة أطباء المدينة، قالوا وأعلنوا أنني مجنون.. لماذا تكذّبُ كل هؤلاء، وتصر على وجود مساحة كبيرة من العقل في رأسي ؟؟.. وعلى هذا الأساس، وهو أساس متين متماسك بالنسبة لك، تصر على تعذيبي، لتجعلني عبرة لمن يعتبر.. وأنا في الحقيقة، أختلف معك حول هذه النقطة بالتحديد ؟، نقطة من" يعتبر" !!.. إذ أن الجميع على حد علمي، ودون أي استثناءات تذكر، يعتبرون ويسيرون على الصراط المستقيم... فما الداعي، وما الدافع، لأن أكون عبرة... . صدقني أنا لست أكثر من إنسان مسكين، مجنون... .
ولا تجوز على أمثالي، إلا الشفقة.. لأن الشفقة على المجانين حسنة !!.. كل هذا لن يغير رأيك.. لابأس...
ياسيدي، سأدخل في لبّ الموضوع كما يقولون.. وأقول لك بالمختصر المفيد، انني كنت أنا سحبان التائه أبو الندى، مثل الكثيرين من خلق الله، لا أعرف إلا الحب والجمال والروعة... ابتسامتي ابتسامة حقيقية، تنبع من الداخل.. سعادتي سعادة متوقدة تعبر عن صدق إحساسي بجمال الأشياء.. وهي لا تشبه أي سعادة معلبة تظهر على الوجوه دون مرتكزات حقيقية.. هكذا كنت، فتصور جمال الحياة، حين تكون هكذا ؟؟..
كانت زوجتي جميلة.. أجمل مما تتصور.. رائعة، أروع من أي وصف.. وقد تهمك مثل هذه الأمور التي تتعلق بجمال النساء . هذا هم مشترك على ما يبدو عند الرجال.. صفاء هذه، أقصد زوجتي، كانت أجمل الجميلات.. ربما تريد أن تسألني عنها ؟؟؟... وحتى أختصر أقول لك، زوجتي هذه ماتت قهراً.. لذلك لا يهم أن أصفها لك كما يحلو لي.. أتدري ما معنى أن يموت الإنسان قهرا؟؟ قد تسأل عن الأسباب التي جعلتها تفطس قهراً؟؟ وسأجيب أيضاً باختصار: كل شيء حولها كان يدعو إلى القهر.. ماتت رحمها الله، وتركت لي كمّاً من المشاكل، ما كنت أعرف عنه أي شيء.. كانت المسكينة تحمل هموم الدنيا وحدها.. وما كنت أنا المدعو سحبان التائه أبو الندى، إلا الرجل الذي يعطي الأوامر، والمصروف الهزيل المتهالك، ويمضي شاعراً بنشوة الرجولة والذكورة.. المسكينة ماتت ..!! وبعدها حدث ما حدث...
كان علي، ودون مقدمات، أن أرعى تسعة أولاد.. هل تظن ياسيدي أن المسألة سهلة.. لا تحدثني عن تحديد النسل، لأن الأولاد موجودن، لا أستطيع أن أعيدهم من حيث أتوا... . أيضاً الأمر لا يعنيك، لكنه يعنيني.. تصور، تسعة أولاد... كان علي أن أعمل طوال النهار مثل الحمار، لتأمين لقمة العيش لهم.. إضافة إلى ذلك، علي أن أطبخ، وأغسل، وأكوي، وأنظف.. والأهم من كل ذلك، وهو المثير في الموضوع " أن أبتسم "... كيف تأتي الابتسامة، وبأي شكل من الأشكال يمكن أن ترسمها على شفتيك؟؟ لايهم.. عليك أن تبتسم، وإذا لم تبتسم، كما قال لي أحد الأطباء المحترمين، ستتشكل عند كل واحد منهم عقدة نفسية.. يالطيف الطف.. تصور عقدة نفسية... ولأن البلاد تحتاج، كما قيل لي بالتفصيل الممل، إلى جيل ممتلئ بالصحة النفسية.. فقد كان عليّ أن أبتسم.. و جربت ..!!
بعد مدة، لا أدري طولها أو عرضها بالتحديد، شعرت بأنني أشيخ.. الهرم دخل قاموس حياتي قبل الأوان.. أنا الذي كنت ممتلئاً بالصحة والشباب والعافية.. صرت انساناً هرماً.. اسحب خطواتي سحبا.. داخلي يبكي.. يصرخ، يتمزق.. وأنا أبتسم ..رفعت شعاراً لا أحيد عنه" ابتسم رغم كل شيء"... . شعار جميل كما ترى.. لكن الصغير المدعو أحمد، وهو أصغر من سعيد بثلاث سنوات على ما أذكر، لاحظ أنني أبتسم ببلاهة وهبل، وبرود.. عندها - أبعد الله عنك كل مكروه - تشكلت عنده عقدة نفسية.. الجيران الذين لا يعرفون إلا الابتسام، علموا.. وقامت القيامة.. عقدوا مجلساً تأديبياً، لمحاكمة المتهم سحبان التائه أبو الندى.. وصدر القرار، وهو قرار حكيم منصف لا أعترض عليه، بأن أبتسم بإشراق وود وصفاء.. هل أخبرتك أن زوجتي المسكينة كان اسمها صفاء ..؟؟ وأنني سأوضع تحت الرقابة لمدة محددة.. المهم في الموضوع أنني أخذت ابتسم بشكل جديد.. كان علي أن أنفّذ.. الأولاد كما تعلم، أولاد الوطن.. وأنا أعبد الوطن بعد الله.. صحيح أنني لا أملك شيئاً من حطام الدنيا، لكنّ حبي للوطن لا تشوبه شائبة... أرجوك ياسيدي دعني أتابع... لا يمكن أن تفهم قصتي دون سرد كل هذه الأحداث.. كما تشاء، سأنتقل إلى المهم.. كل هذه الأشياء التي ذكرتها غير مهمة... . تسعة أولاد ليذهبوا إلى الجحيم.. !!
كما قلت لك، كنت ومازلت - وإن كنت مجنوناً - مسكوناً بحب الوطن. لاتظن أنني تغيرت.. حب الوطن لا يتغير ولا يتبدل.. لكن - عليك أن تنتبه جيداً إلى لكن هذه - الحالة التي وصل إليها الوطن العربي أربكتني.. شغلتني عن التفكير بالأولاد، وهم تسعة كما أخبرتك.. صرت عن سابق إصرار وترصد، أتابع الأخبار.. وأي أخبار.. تصور هكذا أنا المدعو سحبان التائه أبو الندى، صرت مشغوفاً بمتابعة الأخبار.. وليتني لم أفعل... كل شيء كان يبعث على الأسى والاشمئزاز.. مرات عديدة بعد سماع الأخبار كنت أتقيأ.. أدخل إلى المرحاض - وهو ضيق إلى حد الاختناق - وأتقيأ.. الأولاد كلهم أصبحوا معقدين... . قلتُ:" الأخبار أهم "... . رصاص.. حرائق.. انتهاكات.. دمار.. جوع.. تخمة.. صراعات وقتال بين الأخوة.. صحت:" لماذا يحدث كل هذا "؟؟.. جاء الجواب سريعاً: " عليك أن تبتسم "...
هنا يا سيدي، قامت قيامتي، رفضت أن أبتسم، رفضت أن أرضخ لأوامر الابتسام العجيبة هذه... . عدة مرات حوكمت.. وكادت قضيتي، لأهميتها القصوى كما قيل لي، أن تنتقل لمجلس الأمن... مجلس الأمن يحكم كثيراً بمثل هذه الأمور الفردية.. ورغم ذلك - ومع خوفي وارتعاشي من تدخل قوات مجلس الأمن - بقيت كئيباً... هل أبتسم والحال وصلت إلى ما وصلت إليه؟؟.. عندها قر قرار الجميع على ضرورة تحويلي لمصح.. وجاءت التقارير لتؤكد أنني " مجنون ".. قلت جاء الفرج.. المهم: لا أريد أن أبتسم.. أتدري من حسنات الجنون، أنه يتيح لك أن تقول وأن تفعل ما تريد.. مثلاً تستطيع أن تقول ببساطة: كيف يجوز لشمعون بيريز - وكان رئيساً لوزراء العدو كما تعلم - أن يتجول في عواصم عربية كثيرة بكل حرية، وكأنه من أبناء جلدتنا أو أعز؟؟ وكيف يجوز للوفود الاسرائيلية أن تسرح وتمرح في الكثير من الأماكن العربية؟؟ وفي ذات الوقت تقصف القوات الاسرائيلية جنوب لبنان، وتقتل وتذبح أهل هذا الجنوب الصامد؟؟ ثم كيف وعلى أي أساس يصير" السلام" مع القاتل قطعة حلوى يتناولها كل واحد وهو يرقص ويهلل، وكأنه حقق نصراً مبيناً؟؟ والأنكى من كل ذلك، أن يتسابق المسؤولون، لفتح أبواب بلادهم أمام هؤلاء القتلة ..ياسيدي دم الشهداء لم يجف بعد.. هذا حرام... .
" إشارة عاجلة للمؤلف: نظرا للتطور الهائل في الاختراعات والتقنيات، وبما أنه صار بإمكاننا أن نطلع على أوراق الكاتب أثناء الكتابة، لذلك يطلب من المؤلف المدعو طلعت محمود سقيرق، وحفاظاً على شعور وأحاسيس بعض الاخوة العرب، حذف الجمل والعبارات التي تمس مشاعر سعادتهم.. يرجى التنفيذ الفوري "..
... " جواب عاجل جداً: إلى هؤلاء الواقفين على ريشة القلم، لا أستطيع ياسادتي أن أفرض على الشخصية القصصية تغيير مجرى الأحداث.. أنتم تعرفون يا كرام أن الفن فن... وحرية الفن !!..."...!!
.. إشارة عاجلة: يطلب من المدعو طلعت محمود سقيرق الاحتفاظ بقصته في الدرج بعد الانتهاء من كتابتها، مادام مصرا على زعزعة الثقة المتبادلة بين الأخوة العرب ".." جواب غير عاجل: إلى هؤلاء الواقفين على السطور.. سأفعل ما تريدون.. سأخفي القصة بعد الانتهاء من كتابتها.. رجاء ترك المجال للشخصية حتى تكمل سيرتها.. ولكم كل الشكر والتقدير والاحترام "...
..." إشارة: تابع "..
أين كنا ياسيدي.. أما قلت لك ان الأشياء تصبح في بعض الأحيان غائمة إلى حد مرعب.. تصور أنا المدعو سحبان التائه أبو الندى، المجنون المسكين، يريدون شطب كلامي... لماذا ..؟؟؟ وما الداعي إلى ذلك، ما دام كلامي كلام مجانين ؟؟...
لا بأس.. لابأس.. سأعود إلى الموضوع، أعرف أنك تغضب بسرعة، وأن غضبك يقيم الدنيا ولا يقعدها ..لكنني في الحقيقة ضعت.. ما عدت أعرف من أين أبدأ أو أتابع.. تصور خمسة أطباء قالوا انني مجنون وأنت لا تريد أن تصدق.. أظن أنني كنت أتحدث عن أطفال فلسطين.. لا.. لا.. ربما عن المجازر.. مجزرة الحرم.. مجزرة قانا... لا.. لا.. أظن أنني كنت أتحدث عن أشياء أخرى.. أي نظام شرق أوسطي جديد هذا الذي يريدون أن يقيموه ؟؟؟ هل قلت لك ان نصف الأولاد تشردوا في الشوارع.. ليس نصفهم تماماً.. أربعة أولاد فقط.. الكذب غير جائز... والمثير في الأمر أنهم أصبحوا أفضل بكثير من ذي قبل.. تصور أن يكون التشرد والتسكع عنوان صحة وعافية.. يأكلون.. يشربون... . ويدخنون أفضل أنواع السجائر المستوردة.. ينامون على الأرصفة.. يصرفون على بقية اخوتهم.. هل هناك أروع من هذا الأسلوب الحضاري.. المتشرد يصرف على بقية القوم... . سأعترف لك الآن بشيء هام.. أحد هؤلاء المتشردين، وهو ابني سامر، طلب مني أن أتزوج، وقال انه سيتكفل بكل المصاريف.. لا أعرف بالتحديد من أين يأتي بكل هذا المال.. أنت تريد أن أبتعد عن موضوع السياسة.. فماذا أقول لك؟؟ بقية الأولاد بصحة جيدة والحمد لله.. كل عقدهم النفسية حلت.. أنا الوحيد الذي بقيت معقداً في العائلة.. ووصلت إلى هذا الحد من الجنون الذي لاتريد أن تعترف به... !!
أعرف أن جملي أصبحت مفككة.. أظن وهذا أمر في غاية الأهمية، أن الكاتب أصبح خائفاً بعد الإشارات التي وردت دون سابق إنذار.. تصور أن يكتب المؤلف وهو يرتعش.. كيف تريد لكلماته أن تكون مترابطة .؟؟ حقاً لقد تطور العلم بشكل مذهل.. كنت أشعر أحياناً أنهم يراقبونني وأنا أمارس الجنس مع زوجتي.. قلت لك زوجتي صفاء كانت في غاية الجمال ..ربما وصلوا إلى أشياء جعلتها تموت قهراً.. المسكينة ذوت وذبلت مثل الوردة.. يتمتني ويتمت الأولاد.. العلم تطور بشكل مثير ياسيدي.. تصور أن تتحرك وأنت تشعر أن فوق كتفيك رقيباً عتيداً من البشر ..؟؟ كيف لك عندها أن تدوزن خطواتك.. المسألة طبعاً تحتاج إلى وقت حتى تتعود على هذا التطور العلمي الرائع.. أقمار صناعية في كل مكان.. كأنهم زرعوا هذه الأقمار الملعونة في رؤوسنا.. بيريز راح، نتنياهو جاء.. نتنياهو راح بيريز جاء.. وجه واحد صدقني.. حتى الايدز حاولوا أن يهربوه إلى البلاد العربية..
ماذا ؟؟.. ماذا تقول" كل كلامي كلام مجانين "... أصبحت تعتقد الآن أنني مجنون ..؟؟ يالسعادتي.. صدقني هذا من دواعي سروري وغبطتي.. هذا يعني أنني غير مطالب بالابتسام.. أنا المدعو سحبان التائه أبو الندى غير مطالب بالابتسام... . هذا أروع خبر أسمعه في هذا الزمان... ياسبحان الله كم أنت ودود وكريم.. أعرف أن حركاتي وسكناتي ستكون تحت رقابة تقنيات العلم الحديث.. لا يهم.. كل شيء سيكون تحت عنوان الجنون.. أرجوك، لا داعي لإرسال أحد معي.. أعرف الطريق جيداً. أتدري هناك في مشفى الأمراض العقلية كلهم مثلي... ما أجمل أن أعيش بينهم.. أرجوك ابتسم.. إياك أن تنسى الابتسام ..المكان عندنا غص بالقادمين، وما عاد يتسع... لذلك ابتسم أرجوك.. حافظ على ابتسامتك حتى لا نضطر لتوسيع المكان عندنا.. !! ارجوك ..!! ابتسم!!..
" نداء من المؤلف المدعو طلعت محمود سقيرق: الرجاء نشر هذه القصة في مكان لم يصب بالايدز الاسرائيلي.. ولكم الشكر والاحترام "..