بتـــــاريخ : 11/13/2008 7:19:22 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1603 0


    مزاح ثقيل

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد بلقاسم خمار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

    ليست هناك شجاعة اعجازية مطلقة.. وما من كائن حيّ الا ويحمل في أعماق جذوره بذورا للضعف والخوف..‏

     

    هذه الحقيقة الجلية، لايصدقها ولدي الصغير ولا يعترف بها.. إنه يعتقد اعتقادا جازما بأنني أقوى وأشجع مخلوق في العالم، وأنه ليس لإمكاناتي البطولية حدود، خاصة في ميادين القتال والمصارعة، ومواجهة الكوارث والأخطار...!‏

     

    وعندما يغمرني ولدي بنظرات التقدير والاعجاب.. ويواجهني بسؤاله المعتاد.. بابا.. طبعا أنت تغلب هذا العملاق.. أنت تصرع تلك الطامة.. أنت تسبق ذلك الحصان.. البرق...! عندما يواجهني هكذا .. فإنني في كثير من الأحيان أوافقه في زهو، وكبرياء.. ليس لأنني مغرور، ولكن حتى لا أزعزع ثقته بي ، ولا أعرضه لعقد النقص التي قد تصيب طفلا ما، نتيجة لخيبة أمله في شىء ما...‏

     

    ويظهر أن ولدي قد بالغ كثيرا في تمجيد شجاعتي، واحصاء مناقبي وبطولاتي الوهمية، والتي لاحصر لها.. فأنني مثلا أستطيع أن أتجاوز بسيارتي كل السيارات أمامي، ولو أدى الأمر إلى السير فوقها أو تحتها.. وأغلب كل ما عند الجيران من رجال، وأقهر كل أبطال/ الويستيرن/ وأصرع الفيل، وأهزم الضرغام بضربة واحدة.. وحتى / كلوندايزر/ وأمثاله.. يكفي أن أوجه له لكمة صاروخية ، فاقضي على خوارقه التافهة.‏

     

    وان شجاعتي المطلقة هذه ، ليست من تصورات ولدي فقط .. بل كل أخوته كانوا قد عبروا لي ولمدة سنين طويلة ومتتالية، عن نفس الايمان والتصور، مما جعلني الآن.. وبصراحة- أشك في امكانياتي الذاتية، وأتخيل أحيانا، أنني بالفعل بطل الأبطال.. إن العادة وليدة التكرار كما يقولون.. ولذا فأنني بحكم/ التعود/ يبدو أن شجاعتي نادرة، وليس لها مثيل ..! طبعاً لم يسبق أن أختبرتها في أي موقف عملي.. ولكن ما المانع أن أكون- ولو نظريا- بطل الكون...! ان كل من هم تحت مسؤوليتي يخافون من بطشي.. وكل ما عند الجيران هم شيوخ وعجزة مسنون، وأطفال صغار.. وبالتالي لاأخافهم..‏

     

    وحتى لوصادفني أسد في طريقي.. ربما .. أراوغه، وأباغته.. واشبكه فجأة بجناحي برنسي.. وأصعد بخفة فوق ظهره، فأضغط برجلي على ابطيه، وألف زندي على عنقه .. وأعصره.. هكذا.. أعصره.. أعصره بقوة- حتى أكسر عنفه.. وأكتم أنفاسه...‏

     

    أحسست بالهيجان ينتابني.. وبحركات تشنجية تمتلك أصابع يدي.. تسارعت نبضات قلبي وتلاحقت أنفاسي.. كنت بكل جوارحي أعيش معركة ضارية مع أسد.. كدت أسمع عظام رقبته، وهي تطقطق بين قبضتي الفولاذيتين، وكان العرق يتصبب من جبيني عندما أفقت من أحلامي العدوانية بسبب حادثة مثبطة للعزائم وقعت خارج محيط غرفتي، وداهمتني من بعيد كما يداهم سرب من النحل الغاضب ، صلعة انسان غافل..‏

     

    كانت داخل المطبخ ، تقف أمام المغسل، تنظف أواني الأكل،.. وبدون تحذير أو انذار، أنطلقت تردد أغنية قديمة لأم كلثوم/ على بلدي المحبوب.../ كانت في صوتها بحّة متحشرجة، وفي لحنها نشاز مقزز.. يجعل السامع يظن أنها تسخر في غنائها ، وهي جادة في تقليد أم كلثوم/ كوكب الشرق/ مع أن الحقيقة هي العكس وهو ما ينطبق على الكثير عندنا ممن يعتبرون أنفسهم أهل الفن..!‏

     

    أنزعجت إلى درجة الصدمة، من تلك الصرخات المتصاعدة من المطبخ مع روائح البصل والثوم، وضعت كفي على أذني.. حاولت أن أعود إلى معركتي مع الأسد وأدعه يفترسني وينقذني.. أردت أن أرفع صوتي وآمرها بالصمت.. وجاءت الفكرة.. صممت أن أضع حدا لذلك التجاوز بواسطة مزحة ثقيلة الوزن..‏

     

    قمت من غرفة الجلوس.. حافي القدمين، تسللت نحو المطبخ ماشيا كاللص على رؤوس الأصابع، محاذرا أن أثير أي أنتباه..إلى أن أصبحت خلفها تماما...‏

     

    جمدت في مكاني .. أوقفت تنفسي.. واستمرت هي في غنائها المزعج . غافلة عن الشبح الذي يقف بالرعب خلفها.. كادت الضحكة أن تفلت مني.. أنتظرت بفارغ الصبر حتى أنهت مقطع الأغنية..كان الموقف يتطلب تصفيقات حارة من طرف الجمهور، لو كانت أم كلثوم هي التي تغني.. ولكن الوضع يختلف.. ففي ذلك الوقت بالذات صرخت بغتة وبعنف في صميم أذنها: هائل..:‏

     

    أهتزت المسكينة إلى فوق..ثم هوت بسرعة نحو الأرض .. وهي ترتعش ذعرا، وتصيح.. كأن ثعباناً قد لسعها.. تكسرت بعض الصحون والفناجين .. أندلقت المياه اللزجة فوق الآجور... حاولت أن تقوم فانزلقت.. نكست على عقبي هاربا.. فرحا متشفيا.. أكاد أقع من شدة الضحك.. توقعت مكروها .. فلزمت الصمت بدون مبالاة..‏

     

    كانت الضجة قد أثارت انتباه الأطفال فتراكضوا يتدافعون من أماكن مجهولة نحو المطبخ.. طرقت سمعي همهمات مبهمة.. وبعد هنيهة.. رأيت طفلي الصغير يتقدم نحوي بتردد.. وفي نظرته ذبول.. قال لي بعتاب: بابا.. ماذا فعلت بماما .. إنها تبكي.؟ فأجبته كّأي بطل منتصر: من يغني كثيرا.. يبكي أخيراً.. وأحسست ببعض التأنيب الغامض.‏

     

    مرت تلك الحادثة بدون خسائر مادية معتبرة.. ولم تخلف أي عطب جسمي، وحتى آثارها المعنوية المسيئة لم تدم طويلا، إنها لم تكن سوى مزحة ثقيلة، تظهر أنها بريئة!‏

     

    ومرت الأيام ، ولم يجل بخاطري أن الخوّافة تخطط للانتقام وأنها ستفضحني أمام أبنائي الذين يعتقدون بأنني أقوى وأجشع رجل في العالم.‏

     

    كان الفصل شتاء عندما عدت ليلا من العمل إلى المنزل.. وكعادتي في جلّ أيام عملي، أعود مرهقا متوتر الأعصاب، ليس بسبب كثرة الأعمال، بل لأنني لا أجد ما أعمله في مكتبي،.. إن كل المهام التي كان من المفروض أن أستمر في انجازها يوميا.. هي معلقة نتيجة لمشاكل خارجية، هي بدورها معلقة.. وهكذا أقضي أغلب أوقاتي مشدود البصر بمصباح السقف الكهربائي، مشغول الفكر بين الفراغ والانتظار، إلى أن يحين موعد انصرافي فاهرع كبقية الموظفين إلى منزلي وما أكاد أصل غرفة الجلوس حتى ألقي بجسمي أفقياً فوق فراشي الخاص.. لاستريح من عناء العمل .. وكلل الأيام المتشابهة ورهبة سلالم العاصمة الشاقولية.‏

     

    كانت الماكرة قد دست في ثنايا فراشي لعبة مطاطية منتفخة - كنت أشتريتها للأطفال- موصولة بمزمار جني الصوت.. على شكل كلب.. فما أن أرتميت بثقلي فوق الفراش حتى صاح من تحتي ما يشبه العواء الحاد، فانتفضت مرتعدا كمن أصيب بمس كهربائي عنيف، وقفزت مذعورا فزعا، ولم أدر كيف وجدت نفسي واقفا بعيدا عن فراشي، شارد العقل كالمعتوه.. كانت الأم وأطفالها يملأون الغرفة بقهقهات هيستيرية متواصلة تثير الاشمئزاز.. صرخت فيهم بغضب: اخرسوا.. شتمت الجميع، أسمعت الماكرة أن دمها ثقيل جدا، وان ما يجوز لي لا يجوز لها.. وأنها تجهل تماما قواعد المزاح ، والاكيف تصطاد لحظة تعبي لتستغل توتر أعصابي، وتسخر مني أمام الأولاد... حاولت بكل ما أملك من عبارات الردع الجارحة أن أبرر موقفي من سرعة فزعي.. أعلمتهم أنني عندما كنت طفلا ، كنت بين أندادي، من أعظمهم شجاعة وأقواهم ثباتا في مواقف الصمود والتصدي.. وكنت ممن يدقون الاوتاد بين المقابر في الليالي المظلمة... لم أكن أعرف خوفا أو تهيبا .. أما في هذه المرحلة، وقد كبرت ، فقد صرت سريع التأثر، شديد الحيطة، نتيجة لما بلغته من كمال العقل، ونضج التجربة ، لذلك فأن طيراني العمودي من الفراش.. عندما نبهني مزمار اللعبة.. ما هو في الحقيقة سوى رد فعل لما أتمتع به من ذكاء، وشدة حذر...‏

     

    كنت أثرثر كالمحموم.. لم يستطع ولدي الكبير أن يكتم قهقهة تهكمية خبيثة .. فلفظها من حلقه كسعلة ديكية.. كنت ما زلت أرتعش.. حملت حذائي ورجمته به فأخطأه، وأصاب شيئاً ما فأحدث قرقعة نحاسية، أزداد توتري إلى درجة الاحتراق.. عولت على استعمال السلاح الأبيض.. فهرب الجميع من الغرفة.. كانت أسناني تصطك عندما رأيت نفسي منتصبا وحيدا كالبطل المهزوم... كان ريقي قد جفّ.. بلعت الهواء .. راجعت نفسي.. أحتقرتها.. لعنة الشيطان بدون مبرر..‏

     

    كظمت غضبي.. وجلست.‏

     

    عندما جمعتنا طاولة العشاء الكسكسي... كان الجوّ مازال مشحونا برائحة البارود.. كنا صامتين.. كان الأطفال لايرفعون أعينهم عن صحونهم.. وكنت غير متأكد من سبب ذلك... هل هو الرهبة من سطوتي أم هو مقاومتهم للضحك لو نظروا نحو وجهي المتهجم. وأنا مكشر الأسنان، أمضغ بسرعة كالأرنب وأحيانا أبتلع اللقمة بلا مضغ فيشرئب لها عنفي كالديك الذي يهم أن يصيح.. ثم يكون لها صدى مكتوم، كصوت سقوط حجر في قعر البئر...؟‏

     

    كان منظري بصفة عامة مثيرا للضحك وهذا بكل تأكيد... فعندما ركزت انتباهي نحو وضعيتي وتابعت حركاتي الداخلية والخارجية.. لم أستطيع أن أتحكم في وقاري المصطنع.. وبدون مقدمات أنفجرت ضاحكاً من نفسي، راشا بما في جعبتي من طعام مكبوت فوق رؤوس الجالسين.. وقد جاءت تلك القهقهة الجنونية في وقتها المناسب.. حيث توالت انفجارات مضغوطة متداخلة، وتطايرت حبات الطعام كالبرد فشرق من شرق.. وفرغاصا من فر .. ولم نستطع أن نعود إلى حالتنا الطبعية الابعد صعوبة كبيرة وتردد طويل..‏

     

    بعد انهيار جدار الثلج.. أشرقت الوجوه بابتساماتها الجميلة..‏

     

    فأضاءت زوايا الدار، وعم الفرح العميق قلوبنا.. فأحسسنا كأننا نلتقي لأول مرة بعد غياب وأشواق.. وكان الجميع يحيطونني بحبهم عندما قال لي ولدي الكبير:‏

     

    -بابا ألا تغضب لو طلبنا منك شيئا..؟‏

     

    - طبعا لا أغضب.. تفضل .. قل..‏

     

    - نطلب منك أن تحكي لنا حكاية عنك، عندما كنت طفلا صغيرا..‏

     

    -أية حكاية تريدون ..؟ ان طفولتي مليئة بالحكايات‏

     

    - نريد.. حكاية الأوتاد التي كنت تدقها بين المقابر في الليل.. قال ذلك بجدية صادقة، فأجبته بارتياح:‏

     

    آه.. حكاية الأوتاد.. أو/ الموثق/ لامانع عندي.. أستمعوا ياأبنائي ...؟‏

     

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()