بتـــــاريخ : 11/13/2008 6:48:59 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 934 0


    من الاغتراب الى الغربة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد بلقاسم خمار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

    فجأة.. وبعد ثلاثين سنة من الاغتراب.. وجدت نفسي في بهو مطار دمشق..‍‏

     

    -من أين أتيت..؟ ولماذا أنا هنا..؟‏

     

    -سألني الرجل الطويل الذي استقبلني: هل أنت فلان...؟‏

     

    -أجبته: أظن ذلك..نعم .. وتذكرته على الفور.. إنه صديقي القديم.. محمود‏

     

    فعانقني بشوق... ثم اختطف من يدي جواز السفر وأجال نظره في مرفقاته .. وقال لي: لقد تغيرت كثيراً حتى كدت لا أعرفك.. اهلا وسهلاً بك في بلدك سورية.. وافتك من يدي الأخرى حقيبة السفر، وقادني نحو اقرب سيارة أجرة، فامتطيناها وهو يقول إلى السائق: اوصلنا من فضلك إلى فندق /الفراديس/ بساحة المرجة.‏

     

    عندما انطلقت السيارة بنا، احسست انني احتضن الهواء، وأطير في حلم صاروخي عجول..‏

     

    كانت الأرصفة، والمباني، والاشجار الباسقة، ولوحات الإعلانات- على حافتي الطريق- تتراجع متراصّة مندمجة بسرعة مذهلة، فترسم شريطاً متداخلا ملونا للوحة جميلة فاتنة ، لا اذكر انني شاهدتها من قبل..‍‏

     

    أدخل محمود يده في جيبه، واخرج رسالة، تفحص بعض اسطرها، ثم أدار راسه نحوي وقال لي:‏

     

    -إذن .. لقد فقدت ذاكرتك منذ ثلاثين سنة..؟‏

     

    -نعم.. ولكنني لم أفقد كل شىء فيها.. إنني فقط، مصاب بنوع من النسيان، يستحوذ على ذاكرتي في بعض الظروف وفي حالات، ومواقف خاصة..‏

     

    -لقد أخبرني ولدك في هذه الرسالة( وأشار إلى الأوراق التي كان يحملها) عن كل شىء يتعلق بمرضك النسياني.. وقد قال لي إنك تتذكر جيداً كل الأحداث التي عشتها قبل ثلاثين سنة.‍‏

     

    - بالفعل.. فانا ما زلت أذكر-مثلا- عندما جئت اول مرة إلى دمشق سنة 1953- ونزلت في مطار المزة/ .. واذكر حتى جوانب الطريق ، كيف كانت خالية من العمران إلى حدود الجامعة بمنطقة/ البرامكة/.. أما الآن فإن الصورة تختلف تماما.. هل نحن الآن في منطقة / المزة/؟.‏

     

    -ابتسم صديقي محمود، وهو يجيب: لا.. لا.. نحن الآن في طريق جديدة.. وقد انطلقنا من مطار جديد أيضاً.. اما منطقة / المزة/ فقد اصبحت مدينة حديثة كبيرة، تضم مئات الآلاف من السكان.. وتعد من أجمل احياء دمشق..‏

     

    بدأت أفكاركثيرة، ومشاهد، وأشكال ، تتراقص متزاحمة في مشاعري، ممزوجة بأصوات والوان، وإضاءات مجهولة المصدر، تتناوب بين اللمعان والتلاشي، بين الصخب والصمت .. بين الحركة والسكون.. وأحسست بأن ذاكرتي تتشابك مع النسيان في مصارعة عنيفة وكأنهما كومة من خيوط الحرير الناعم. تحاول بمعجزة ذاتية أن تتحرر من حقل مليء بالحسك والنباتات الشائكة..‍‏

     

    -سألني محمود: هل تذكر لماذا جئت إلى دمشق..؟..‏

     

    لقد ذكرلي ولدك في رسالته سبب ذلك.. إلا أنني اريد أن سمعه منك أنت ..؟‏

     

    -في الحقيقة..لا أذكر بالضبط سبب وجودي الان ، هنا.. المواضيع متداخلة..ربما جئت لأعيد دراستي الثانوية والجامعية..فقد نسيت كل المعلومات التي كنت قد حصلت عليها، خاصة في قواعد اللغة. والمنطق، وعلم النفس.. ولم انسها بسبب المرض، وانما لعدم الاستعمال.. لقد نسيت حتى القرآن الكريم الذي كنت احفظه عن ظهر قلب منذ طفولتي.. بسبب عدم "الإستعمال " كذلك..‏

     

    وربما جئت لرؤية زملاء الدراسة، إنني اذكرهم دائما، وانا في أشد الشوق إليهم ... ولا ادري هل هم كما عرفتهم، مازالوا يطفحون حيوية ، ومرحاً وحماساً.. ام تغيّروا مثلي..!؟‏

     

    كانت السيارة تخترق وتلف ساحة مستديرة شاسعة، تتوسطها نافورة ضخمة تتصاعد أعمدة مياهها البيضاء نحو السماء، وكأنها تحاول أن تطول برج المعرض التذكاري الذي يواجهها منتصبا برشاقة وارتفاع شاهق.‏

     

    " اعادني منظر ذلك البرج الموشى بكل الوان اعلام العالم إلى بداية الخمسينات ، فتذكرت.. إنها ساحة الامويين..‏

     

    وهالني منظر الجبل الشامخ الذي يضم مدينة دمشق إلى صدره العريض ، فتحتضنه هي، وتتعلق باكتافه .. لاريب أنه جبل / قاسيون/ ولكن، من كساه كل هذه الحلل والحلي الزاهية، ومن نثر فوقه كل تلك اللآليء والنجوم..!؟‏

     

    سألت محمود.. ولكنه اشار بيده نحو بناية عالية وهو يقول لي..ها ..لقد وصلنا.../ الفراديس)..‏

     

    التف حولنا موظفو وعمال الفندق، يرحبون بكلمات حلوة، مهذبة، لم اسمع مثلها منذ زمن بعيد.. وكانت بسماتهم لاتفارق وجوههم.. فأحببت أن أعبر لهم عن شكري وامتناني لحفاوتهم بي.. فلم أجد في ذاكرتي أية عبارة صالحة للتحية.. واردت ان ابتسم في وجوههم، فامتنعت شفتاي عن الإنفراج.. فأجهشت بالبكاء..!‏

     

    -قال لهم صديقي محمود- في شبه اعتذار_:‏

     

    اشكركم..من فضلكم دعوه..إنه مرهق..وهو في حاجة إلى قليل من الراحة والهدوء..‏

     

    وقال لي : هل تصعد إلى غرفتك لتستريح بعض الوقت..؟‏

     

    -أجبته..نعم.. ولكن هل الحراسة متوفرة هنا .. تأكد من فضلك يامحمود..إنني- بصراحة- اشعر دائماً بالرعب..؟‏

     

    ضحك محمود بصوت مرتفع، وهو يربت على كتفي، ويدفعني إلى المصعد، ويقول! بالفعل إنك نسّاى..! ياأخي..! اطمئن تماماً..إنك الآن في دمشق.‏

     

    -ودّعني صديقي القديم امام باب الغرفة وانصرف.. بينما كنت اهمس في نفسي: لماذا أنا هنا..؟‏

    ولماذا في دمشق بالذات..؟ هل سأتذكر السبب

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()