|
الـمتـاهــة
الناقل :
mahmoud
| العمر :35
| الكاتب الأصلى :
ابراهيم كبة
| المصدر :
www.awu-dam.org
فهو يعيش كأن يدا خفيّة وتارة مرئية،تشتت معالم طريقه،وتبعد باستمرار أمامه العلامة التي تحدد هدفه.حتى لايدركه أبدا.
- مالك بن نبي -
-
ندّ صراخ استغاثة من قلب ظلمة الليل الحالكة.هرع الى الطريق الآخر.تلصّص في صمت وخطى خرساء.جاست عيناه في ظلام كثيف تعالى لهاث أنفاسه.ودوّى نبض صدغيه في سكينة عميقة.
طاش حجاه حين استبان شبح رجل قد حنا على امرأة يحاول كتمان أنفاسها وهي تتلوّى بين يديه بلا أيد.همّ أن يباغته لولا أن برز القمر من خلف سحابة.طالعه وجه دميم على قسماته آيات ضراوة ياالهي.غازي ومريم.ربّاه.ندّعنها صراخ وزئير تلاهما حشرجة.ثّم صمت أصم.انها جريمة بلا مراء.ذئب وشاة قال لنفسه:اهرب أيها الأبله.أنت تسعى الى حتفك.غازي لا مناص من الهرب.ولكن تريث.تسمّر في مكانه في ارتباك وحيرة
قتل الفتاة؟
هاج الغيظ والجنون في جنانه.شيطان الظلام.وأنت أيضا شيطان ياعرفان.افعل شيئا.يالهول المأساة.هنا تلقى القاذورات والقمامة.قهره العجز والحصر.وادركه الوهن والكلال.كبح صرخة كادت أن تندّ عنه.أيقن أنّه هالك لا محالة إن رآه المجرم.توارى في ظلمه عمياء
توتر جذعه وجحظت عيناه.حين توجّه غازى الى مدخل الزقاق،تهافت.استوى الزمان والعدم.واستوى المكان والعدم.عربد الدم في شرايينه وأوردته.ربما وقعت جريمة أخرى تحت جنح الظلام. كتم أنفاسه وشخصت عيناه الى طيف غازى.تمزّقت أمعاؤه ومثانته.انّه الآن قزم في غاية الضآلة.عرفان الآن مثل مريم ومثل ذبابة في نسيج عنكبوت.لعلّ ما رآه أحلام يقظة أو أضغاث أحلام.
انقضّ عليه غازى.انهال ضربا على رأسه.هشم جمجمته.غاص وتهاوى في عباب الشلل.سحقه العجز.أزرى به ضعفه.الزمن الآن هو نبض القلب.وهيكل المارد يدنو من مكمنه.تسمّر بلا حراك في سكينة وصمت.حجبه الظلام والاضطراب عن عين غازي.مريم أنت عاص وعاق.انها لغز من ألغاز الأرض.ساقان عاجيتان جميلتان وجسم رائق شفاف وعينان دعجاوان.ووجه كطلعة القمر أو اشعاع الشمس.ينفث السحر والافتتان في الأفئدة والأنفس.أمّا غازي.انّه حيوان أعجم.ربّ سلطان وجاه وأتباع.لكنه عنيّن.أثرى ثراء فاحشا عقب جلاء فرنسا.وشاد (فيللا) على طراز فرنسي.دارت حوله علامات استفهام جمّة.وغدا لغزا حينئذ.لكن كيف حيكت مأساة مريم؟هل هو العبث.أم أحابيل ابليس.أم مشيئة السماء؟
تفاداه.انّه أعشى أيضا.انفاسه لهاث وجثمانه هائل. جثم في مكمنه.جريمة نكراء.لن تلبث النار أن تضطرم وتتأجج.وغازي جبّار حقا.بيد أن أهل مريم لايستهان بهم.لكنك أعمى ياعرفان وأصم أيضا.لاتزجّ نفسك في حرب ضارية.
دنا من الجثّة.للموت رائحة مرعبة لكن مريم أقوى من الموت.لطيفة كاشعاع.نقيّة نقاء الأثير.عيناها جاحظتان.وغاض الدم من الخدين القانيين واندلع اللسان.دهمته أطياف الموتى.الحياة نور شعشعاني والموت ظلام.مصادفة طارئة.اصطفته دون سواه وعبث قوى الظلام أصابه في صميم كيانه.
-بربري
غادة فاتنة وحياة زاخرة تغطّ في سبات سرمدى.نهبة للديدان والصمت وطاغوت غازى.لاشك انها ضريبة الاباء.أوهنه تفكيره لن تبوح لأحد بما رأيت.أقدامه تغوص في أوحال نتنة.وقبس الحكمة وعين العقل أن تكتم الأمر.
عضّ بنانه حين ثار المه.كانت مشكاة وسنا وشعاعا.أضحت هباء وغثاء.انتابه بغتة غثيان حاد.هرع الى جحره في قبو مبنى غازى.
لكنه عنيّن.وهذا سردهشة عرفان.أنّ أنينا خافتا.هبط سلّم القبو الحجرى.لذعت أنفه رائحة عفن ونتانة.
-نحن أيضا موتى
الظلام دامس.بدت على سيمائه آيات العناء والكد.رأى جدّه بلا حراك.والنساء تلطم وتنتحب انتحابا مرّا.تحللت الجثة الى ديدان وتراب.حين تملّكه سعال كالحشرجة.طفر اليأس من الأعين.طوّقه المجرم وأعوانه.قال له:
-أنت لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم
-لا أرى ولا أسمع ولا أتكلم
-أيها الحيوان
-حيوان
-قد أشي بك
-تشي بي.رحماك
-أين برهانك؟
-لا يعوزني برهان
-صمت.اختلجت أجفانه
-حثالة من سكارى.مريم خرافة
-مريم خرافة
-وخزعبلات
-وخزعبلات
-كانت بغيّا
-بغيّا
-ايّاك أن تطلق العنان لخيالك
-ايّاى
-عرفان هو المجرم
-.......المجرم
استكان الكون.وهام همس لطيف في أحناء الفضاء.أسئلة حائرة تجول في ذهنه.بصره زائع وبصيرته عمياء.
الأناشيد عويل ونشيج.ونفث قلبه سمّا زعاما.انّه أنقاض تمحقه الأحزان والأشجان.
اختفى من مقهى (الشرق) .لعل بصره خانه أو أنّه هاجس. عاده غازى في يده لفافة ضخمة.تبّا لك أيها الأرقم.في عينيه بريق نظرة هادئة وهازئة.لامراء أن غيابه عن المقهى قد رابه.
-حمد الله على السلامة
هفوة حمقاء بدرت منه بلا وعي.لكن صفرة الأسى لا تخفى.صوته كهزيم الرّعد.أجاب بصوت وان:
-أهلا ياشيخ
صراخ استغاثة وكتمان أنفاس.وهي تتلوّى بين ذراعيه.أنت شيطان ياعرفان.ذئب وشاة.أغضى ناظريه.تناهى اليه همس صاخب عن الجريمة.
-المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص
هيكل عملاق.جلجلت قهقهته في أنحاء البيت
-لن تشقى ونحن هنا
-وعكة خفيفة.جزاك الله الخير
عيناه تنفذان الى أعماقه.آلمه شباب نيران الحنق والغيظ في حشاشته قال الأصحاب:أين توارى عرفان
قلت:لاشك انّه المرض
هذا هو جزاء العبث في جحر الأفاعي
-أنت الخير كله
أمعن في تفرسه
لابأس عليك. الليلة نراك في المقهى
أدار اسطوانة من أسطوانات أم كلثوم.لقد خلّف رائحة نتنة وأثرا لا يمحى من الرّهبة والجزع.
قال له:الحق ان دائي خطير وعضال
-هذا سخف وأنت في تمام العافية.اطرح الأوهام وعد الينا.اصطحبه غازى وثلّته الى منزل سعدى.دأب الأشقياء على الثرثرة والقصف.عين غازى لا تغفل عنه.انّه في زنزانته.يخشى من وخز ابرة السم.ناء تحت وطأة الاذلال والهوان.سعدى عاهرة.جميلة حقا.لكنّه جمال رخيص وبخس.لا يستوى في ميزان الجمال مع فتنة مريم وسحرها.
-لا تتأمل هكذا.لاشئ أقوى من الخرافة والأضاليل
المأساة والألم أقوى من كل شئ.لن تندمج قط في ثرثرة وهذرثلة الأشقياء هذه.
-انّه المرض.
ابتسم غازى.قال له:كفّ عن المماراة.قال لنفسه :انّي هالك لا محالة.انّه فطن حقا.زكمت أنفه رائحة الجنس والجريمة.تفصد العرق من مسام جسمه.علائم الشجن نمّت عنه.وعزوفه عن غشيان سعدى.سدر الأشقياء في اللهو والعبث.هنالك ذهنان يتجالدان في صمت.وعين تطارد أخرى.
انكفأ الى أعماق نفسه،بينما هاج اللغو واللفط.أتقن غازى نسج حبائله.عقب زيارة سعدى عالج اضطرابه سدى.تلاشى في أتّون الخوف والغضب والحيرة.نحن غرقى في خضمّ يم هائج:والافاق لاتنفث الاّسحائب دكناء.ونجمة الصبح علامة استفهام ولغز.وأنا مخاض تفاعل عناصر كيميائية شتّى.والفناء غايته مثلما هو غاية كل كائن لذا لاتعبأ.فقط انفر من ربقة الرّق والعبوديّة.وانفر من احابيل غازى وثلّته هذه.وسعدى ليست أطهر نساء المدينة كما قيل.والعقل أقوى من الخرافة.
اشرب الخمر من جام الخمر ولا تعبأ.لأنك عرفان.ولأنّ غازى يخشاك أشدّمما تخشاه.والخمر لسان لهب.ناهض عبودية أجيال ولاتعبأ.انّ غازى يخشى أيضا من أقباس الأحلام.مجّ طعم المرارة ولا تعبأ.
في تلك الليلة عرّج على مطعم (الزهرة) .تناول عشاءه ثّم آب الى القبو.حين هبط سلّم قبو المبنى تناهى اليه لهاث أنفاس وهمس.
قال:لابقاء لي في الحارة بعدئذ.
استلقى عند شاهد قبرها وغطّ في النوم.دهمته الأخيلة مثل أعاصير تترى.أنا أحبك وأنت تحبين غازى.وسعدى تحبني وغازى يحب سعدى.وهذا ظلم فادح.وقد يبدو ايضا ثرثرة جوفاء،بيد انّه حقيقة مريرة.
ذرف عبرات الحزن على القبر.وأدّى شعائر الحداد.وناجى طيف مريم.شدّما حزّ في نفسه موتها.واعتزم أن يثأر لها.
-تبّا له.تبّا
لم أشهد الجنازة.كنت غائبا عن صوابي.لكن المجرم احتفى بك ميتة.لن تضام شعار البراءة والطهارة وأنا على قيد الحياة.فغر القبرفاه.خرجت منه مريم هيكلا عظميا,هتف لهول مرآها.
الجمال غدا نتانة وعفونة.ومريم الآن عظام نخرة.
قالت له:لماذا هجرتني؟واألماه.أنا سعيت اليك سعي الواله أنت آثرت آثامه علي.دنس عفافك.ويلتاه.
فجأة كسا اللحم العظام.بدرت منه آهة عاوية.بدت سعدى مثل اشعاع الفجر.قالت له:لم هجرتني؟.أجاب:كان لي بالمرصاد.لكنك سعدى؟قالت:بل مريم.أمعن النظر.برز اخطبوط بغتة.أخطبوط أسود هائل.حاصره وطوّقه.ثّم امتصّ دمه.قال:لامندوحة من قتله.توارى طيف الأنثى.تناهى اليه لغط وجلبة.اشرأبّ وتنبه.جاوزه موكب المشيعين جثّة أخرى.من يدرى كيف ماتت.لعله غازى أيضا؟ينبغي ان التمس مأوى.ربما لدى سعدى.لم لا؟انّه جائع وقد ضعضعه النوم في المقبرة على الأرض الجرداء.
وبدا الانتقام غباوة وحماقة.يجب أن أتوارى واتسلل الى الحارة تحت جنح الظلام.سلطان وأعوان وجاه.وتمرّغ في أوحال الجنس والخمرة والجريمة.ثّم يدسّ عيونه وأعوانه في كل مكان.غازى حطام قلعة.وتهافت طاغوت.لن يلبث أن يهوى في أحابيل التفاهة والزراية.التهم الأفق قرص الشمس.حطّ الليل كلكله على الخلاء الذى يطوى المقبرة.لاشعاع يبدّد دجى الليل.ولا نأمة تعكّر صفاءه.استرق خطاه تحت جنح الظلام نحو مبغى سعدى.هلّلت لمرآه.لعل أحد أعوان الأخطبوط لمحه.طفقت سعدى ترنو الى أرض الشارع.لا أثر ألبتة ينّم عن مخاوفه وهواجسه.هيأت العشاء ومجلس الأنس.التهم الطعام التهاما.وشرب حتى الثمالة.اهتزّللأناشيد والغناء وقال وقد خبا وعيه:
-ليت اللذّة تدوم.خمرة كماء جهنم
غاص في حندس كثيف.قالت له سعدى:
-لم لا تنساه؟
أجاب وهو يترنّح:
-هو لن ينساني
قالت له:
-نهاجر
أجاب:
-أعوانه كالجراد.
-أنت طائش
-كنت مثال الحلم
-تأنّ وترو.في العجلة الندامة
-لن يقف الزمن.وقد شاب شعرى ووهن عظمي
-وتغدو طريد العدالة
-لاغاية لي الاّ العدالة
-دعه وشأنه
-لن يدعني وشأني
-أنت لم تعرف مريم حقّ المعرفة
-الجمال والعفاف
-بل التبرّج والكيد والاثم
-انّه الحسد والحقد
-بل الحق الصريح.سل من تشاء
-عميان وبلهاء
دهمه الأخطبوط بغتة.تلّوى وناضل أذرعه الفولاذية.قتامته واسوداده يبعثان الرّعب الجائح في الأعماق.امتصّ دمه ولثم سعدى كابوس مخيف أيقظه عند الفجر.أعدّ البن لنفسه واحتساه بتأن.تناهى الى أسماعه اذان الفجر.نفض السبات عنه.سعدى لا تزال تغطّ في النوم.كيف زجّ نفسه في حمأة الأتّون بين عربدة الشياطين ودعابات الملائكة.ثم تساءل:هل يقوى على القتل؟ أيقظ سعدى تقاسمه بنّ الصباح.قالت له:
-اهدأ وتريّث
-الى الجحيم
-انّه يشكو من السكري
-لا
-والروماتزم
بوغت ولجمته المفاجأة
-وهو عنيّن أيضا
ثّم أضافت وهي ترنو الى حثالة البن في الفنجان
-هاجر وابحث عن عمل
-نهاجر سويّا
لثمها حين تسلّل الفجر من خصاص نافذة الحجرة.واصطخبت في أسماعه أغاريد الطير ونداء الباعة.
|