يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم}.. آية 106 من سورة النحل. وتشير هذه الآية إلى تغليظ جريمة من كفر بالله بعد الإيمان لأنه عرف الإيمان وذاقه ثم ارتد عنه إيثارا للحياة الدنيا على الآخرة فكان جزاؤهم غضب من الله وعذاب عظيم وحرمان من الهداية ووصمهم بالغفلة وانطماس القلوب والسمع والإبصار. وأنهم في الآخرة هم الخاسرون وذلك لأن العقيدة لا يجوز أن تكون موضع مساومة وحساب للربح والخسارة، ومتى آمن القلب بالله فلا يجوز أن يدخل عليه مؤثر من مؤثرات هذه الأرض، فأن للأرض حساب وللعقيدة حساب ولا يتداخلان. وليست العقيدة هزلا وليست صفقة قابلة للأخذ والرد، فهي أعلى من هذا وأعز، ومن ثم كان هذا التغليظ في العقوبة والتقطيع لتلك الجريمة واستثنى القرآن من ذلك الحكم الدامغ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، أي من أظهر الكفر بلسانه نجاة لروحه من الهلاك، وقلبه ثابت على الإيمان مرتكن إليه مطمئن به. ولقد لقي المسلمون الأوائل في مكة من أنواع وألوان الأذى مالا يطيقه إلا من نوى الشهادة و آثر الحياة الأخرى و رضي بعذاب الدنيا عن العودة إلى ملة الكفر والضلال، وقد روي أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر روى ابن جرير بإسناده عن أبي عبيده محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادو. فشكا ذلك إلى النبي ، فقال النبي : كيف تجد قلبك؟ قال مطمئنا بالإيمان. قال النبي : (وإن عادوا فعد) فكانت رخصة في مثل هذه الحال وقد أبى بعض المسلمين في أن يظهروا الكفر بلسانهم مؤثرين الموت على لفظه باللسان. كذلك صنعت سمية أم عمار، وهي تطعن بالحرية في موضع العفة حتى الموت، وكذلك صنع أبوه ياسر، وبل وحين ذهب رسول الله ليبشرها بتلك الرخصة كان جوابها أن قالت: (والله يا رسول الله لا أدنس لساني بكلمة الكفر بعد أن ظهره الله بكلمة التوحيد والإيمان). ولقد كان بلال رضوان الله عليه يفعل المشركون به الأفاعيل حتى ليضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمروه بالشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول: أحد. ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسلمة الكذاب: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فيقطع منه عضوا من أعضائه ثم يعيد عليه السؤال مرة أخرى وهو ثابت على قوله لا أسمع فلم يزل به حتى قطعه إربا إربا حتى أجهز عليه. وذكر الحافظ بن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذيفة السهمي أحد الصحابة رضوان الله عليهم أنه أسرته الروم فجاءوا به إلى ملكهم فقال له: العرب أن ارجع عن دين محمد طرفة عين ما فع فقال: إذن أقتلك. فقال: أنت وذاك. قال فأمر به فصلب وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى. ثم أمر به فأنزل. ثم أمر بقدر وفي رواية بقرة من نحاس فأحميت وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح. وعرض عليه فأبى فأمر به أن يلقى فيها فرفع في بكرة ليلقى فيها فبكى فطمع فيه ودعاه. فقال: إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله، وفي رواية أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أياما ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما أنه قد حل لي ولكن لم أكن لأشتمك في. فقال له الملك: فقبل رأسي وأنا أطلقك. فقال له: تطلق معي جميع إساري المسلمين. فقال: نعم. فقبل رأسه فأطلق جميع إساري المسلمين عنده. فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ قام عمر فقبل رأسه رضي الله عنهما. وحينما اشتد البلاء والعذاب على خباب بن الأرت لأن مولاته كانت تعذبه بالنار فلما اشتد الأمر عليه ذهب إلى رسول الله وقال يا رسول الله: ألا تدعوا لنا ألا تستنصر لنا؟. فغضب وقال: ان من كان قبلكم كان ليمشط أحدهم بالأمشاط الحديد ويوضع المنشار فوق رأس أحدهم فيشق نصفين ما يصرفه ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الركب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون. وأنزل الله قوله تعالى: {ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}. وفي قصة الرجيع لما أرسل النبي رهطا من الدعاة مع قبائل عضل والقارة وغدروا بهم في الطريق وفزع الدعاة إلى أسلحتهم يقاتلون بها وقتل منهم عاصم وصحبه واستسلم للأسر خبيب وزيد ابن الدثنة وعبد الله بن طارق وخرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم لأنهم قاتلوا مع رسول الله في بدر. وحاول عبد الله بن طارق الإفلات منهم فقتل أمام زيد فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه واجتمع الناس حوله ومعهم أبو سفيان وقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمد الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحد كحب أصحاب محمد محمدا ثم قدم فقتل. وأما خبيب فقد اشتراه عقبة بن الحارث ليقتله بأبيه فلما خرجوا بخبيب ليصلبوه قال لهم ان رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، قالوا: دونك فاركع فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما ثم أقبل على الموت وهو ينشد ولست أبالي حين اقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ثم قال: اللهم أحصهم عددا، وأقتلهم بددا، ولا تغادر أحدا، ذلك لن العقيدة آمر عظيم لا هوادة فيها ولا ترخص، وثمن لاحتفاظ بها فادح ولكنه ترجحه في نفس المؤمن وعند الله. وهي أمانة لا يؤتمن عليها إلا من يفديها بحياته وهانت الحياة وهانت كل ما فيها من نعيم أمامها، فعلى أصحاب العزائم تقوم الدعوات وتثبت دعائمها لا على أصحاب الرخص الذين لا يحتملون قسوة الحياة. والله الهادي سواء السبيل.