|
الاستقالة
الناقل :
mahmoud
| العمر :35
| الكاتب الأصلى :
د. هزوان الوز
| المصدر :
www.awu-dam.org
لن أتراجع عن تقديم استقالتي، ورئيس التحرير لن يتأخر في قبولها، فمنذ اكتشاف الخطأ الذي بسببه فزت بمسابقة القصة القصيرة وتوظفت بالجريدة، ولم تمض سوى أربع وعشرين ساعة على تصريحي بأن ذاك المسؤول لا يمت إلي بأية قرابة حتى بدأ رئيس التحرير يكيل لي عبارات مرصعة بالغباء وقلة الفهم، وبأني لن أصبح صحفياً ما دمت أملك هذا الدماغ الناشف، وأن لا علاقة لي بفن القصة القصيرة، رغم اعلانه مرات عدة فيما سبق: أني القنبلة الصحفية القادمة، وأنه يرشحني لمنصب تشيخوف العرب في القصة القصيرة، حتى الابتسامات والتحيات الغزيرة التي كنت ألاقيها من موظفي الصحيفة انسحبت واحتل مكانها تجهم مفاجىء، ما ذنبي إذا كان رئيس القسم المالي يريد أن يتدبر لابنه الغبي بعثة خارجية لدراسة الطب أوالهندسة. ولقد طلب وساطتي في ذلك لدى أحد المسؤولين الذي اشترك وإياه في اسم العائلة، ظناً منه وكما كان يعتقد الجميع أن ذاك المسؤول هو أحد أقربائي الأصلاء . من الأفضل أن أسلك الطريق الثاني فأتخلص من روائح المسلخ ومخلفاته، وأفاجىء بائع القطع الكهربائية بحيث لا يتمكن من الهرب، فلابد من جحز بطاقته الشخصية وتقديمها إلى المسؤولين في وزارة الزراعة، أو على الأقل أخذ اسمه وعنوانه، ولابد من افهامه بأن قدميه مع قدمي بالفلقة، وأن الليرات التي حصل عليها ستكلفه الكثير وأنه غشاش وخائن.
أوف.. أحس بأن أمعائي تصدأت ورأسي سينفجر كالبركان، والمدينة تبلع دون اهتمام حبوب المخدر، تنطق بالرعب والهلوسات، أين أنت يا براءة؟ أين أنت يا غزالة المدينة؟ مدينتنا المتخمة بالشوارع الضيقة والخمارات والمقاهي و.....و.... ، ما كان على أبيك أن يتزوج أمك، ما كان عليك أن تدرسي وتذهبي إلى الجامعة، ما كان عليك أن تكوني جميلة، ما كان عليك أن تمشي على الرصيف، قلت لي غير مرة أن ذلك الثور يطاردك بسيارته الفارهة اللامعة، ويسمعك أكثر العبارات تهذيباً، كان يريدك أن تكوني احدى السبايا تسهرين معه في أفخم ملاهي المدينة، لكنه وجدك صعبة الترويض، فانتقم على طريقته، سيارته الفارهة اللامعة اجتازت الحاجز الرصيفي وصدمتك وأنت تسيرين على الرصيف في طريقك إلى الجامعة، وأنت يا فائز، يا صديق التسكع والأرصفة اللامنتهية، مازلت أحفظ كلماتك التي كتبتها في قصاصة قبل انتحارك (ممنوع أن أتكلم، ممنوع أن أنظر، ممنوع أن أعبر، ممنوع أن أحب، ممنوع أن أكتب، ممنوع أن أقرأ، ممنوع أن أدخن، كل شيء ممنوع، والكرة الأرضية تدور وأنا لا أزال في مكاني).
رئيس التحرير، رفض أن أكتب عنك يا براءة، وعنك يا فائز، قال لي: تكتب ما نطلبه منك فقط. نعم يطلبون أن أغطي الاحتفالات، وما أكثرها، حتى أحسست بأن مدينتنا لا تملك إلا المناسبات، أمن الضروري احتفال وزارة الزراعة بعيد الشجرة؟! لماذا لايتركون الشجرة وشأنها؟ والمصيبة أن وزاراتنا ومؤسساتنا اعتادت في احتفالاتها على مآدب الطعام، فمأدبة العشاء التي أقامها وزير الزراعة في أحد الفنادق، ودعا إليها كبار موظفي الوزارة وزوجاتهم لن تسمن أو تغني عن جوع بالنسبة للشجرة، فالمدعوون تحلقوا حول طاولات مستديرة الشكل، وضعت عليها كافة أنواع اللحوم.. من لحم غنم ولحم جمل، ولحم بقر ودجاج وأرانب، كما وضعت أطباق من اليبرق والملفوف والكوسا والباذنجان المحشي والسبانخ والأرز وكافة أنواع المشروبات، باختصار.. ضمت الطاولات كافة المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية وذلك تعبيراً عن انتاج الوزارة!!.
وكالعادة تقدمت من السيد الوزير، ضغطت زر آلة التسجيل، طلبت منه الادلاء بكلمة إلى صحيفتنا في هذه المناسبة، ابتسم وابتدأ الكلام، استغرق حديثه ربع ساعة، تكلم عن كل شيء إلا عن الشجرة وعيدها، سامحني يا أبا محجوب.. لم أسأل المسؤولين عن السبب الذي أدى إلى مرض محصولك، ولا أدري لماذا تراجعت في اللحظة الأخيرة عن سؤالهم، هل هو الخوف من تعكير مزاجهم وعواقب ذلك أم أن الدعوى التي وجهها إلي رئيس المكتب الصحفي في الوزارة إلى احدى الطاولات أنستني السؤال، وإذا كان محصولك جيداً ووافراً فهل تأمل خيراً من لجنة التصنيف؟
وصل مسامعي حوار بين رجلين ينتظران باص النقل:
- فرفش يا عم.
- خير؟
- في الجريدة يقولون أن عدداً من السفن المحملة بالمواد التموينية وصلت المرافىء.
- كلام جرايد.
وقعت العبارات الأخيرة في نفسي مثل (الط..) التي قذفني بها بقال حارتنا عندما هددته بأني سأكتب عنه لأنه يرفع أسعار البضاعة على هواه. على أية حال الخطأ ليس خطأه ما دامت دوريات التموين تزوره بين فترة وأخرى لتشرب الشاي وتأخذ العمولة، وفي مثل هذه الأوضاع التموينية ستكون بعض السلع كالبطاريات بحكم المفقودة من المحلات، ولن يجدها المواطن إلا عند بائعي الأرصفة بأسعار مضاعفة.
هه.. سامحك الله يا جارتنا نظمية لماذا تغيب زوجك أمس عن البيت، ولماذا لم يأتك الطلق إلا قبل ثلاث ساعات فقط من ذهابي إلى الفندق لتغطية الاحتفال؟
اسعافك إلى المشفى والاطمئنان عن صحتك بعد العملية وضعني في حالة ارباك حتى أني نسيت تجريب المسجلة، ما حصل حصل، ولكن ماذا يريدون مني في وزارة الزراعة؟
لن أتراجع عن تقديم استقالتي، فالمشكلة أنك ترى الخطأ ولا تستطيع ازاحته، عليك أن تتعامل معه وأنت في غاية البهجة والسرور.
صدمني فتى نسي أن ينظر أمامه لأن عينيه التصقتا بجسد فتاة.
ابتعت صحيفة من إحدى المكتبات، فتحت صفحة الأخبار المحلية، قرأت في الزاوية اليمنى بالخط العريض (احتفالات وزارة الزراعة بعيد الشجرة)، استفزني الخبر فيما تبقى من أشيائي الجميلة، شتمت بيني وبين نفسي الشجرة وعيدها والذين احتفلوا بها، فالورطة التي أوقعتني بها كبيرة، فعندما عدت مساء أمس بعد الاحتفال إلى مبنى صحيفتنا الغراء، وشرعت في تفريغ شريط التسجيل، كلمة السيد الوزير لا يمكن تأجيلها، ويجب نشرها في العدد الصادر في الصباح، أصبت بالخيبة، آلة التسجيل لم تلتقط أية كلمة من حديث السيد الوزير، فالبطاريات عاطلة ومضت فترة طويلة على صناعتها، إنه وزير وليس أي شخص آخر يمكن تجاهل حديثه، أحسست بأني أسقط من جبل عال، أو أغرق في بحر عميق دون أن يدري بي أحد، شعرت بالجدران تزحف نحوي لاهثة، وأنفاسي المحمومة تلامس وجه الجدار الصفيق، نزفت كل صبري لحظة يأس مقيتة، تقيأت شجاعتي على حين غفلة وانهرت كبنيان متداع.
أسرعت إلى رئيس القسم المناوب، أخبرته بما حصل، هدأ من روعي، تمتم: (لا توجد مشكلة ليس لها حل)، وطلب أن أتذكر أية جملة من كلام السيد الوزير كي نتساعد في صياغة الحديث من جديد، حاولت مراراً لكن دون جدوى، فما أتذكره أن السيد الوزير تكلم عن كل شيء إلا عن الشجرة وعيدها، شتم الامبريالية والصهيونية، نادى بالتضامن العربي، رفع أسمى آيات التهنئة، بينما الشجرة التي تغتال هذه الأيام لصالح الأسمنت نسيها تماماً.
أغمضت عيني فترة من الزمن في محاولة لاستجماع ما تبقى من قوتي الضائعة ومنتظراً قدوم علاء الدين ومصباحه السحري، لكنهما لم يحضرا.
استنجدت مثل أمي بالخضر ولكن دون جدوى. وأنت يا يوسف يا صديق العصافير مكسورة الأجنحة حاولت استحضارك في ذاكرتي علك تساعدني ولكن لم يصلني إلا توبيخك المعتاد: (أنت جبان، لا تقوى على البدء، تعاطفك مع المحرومين والمقهورين لا يكفي، يجب أن تقرن أفكارك بكتاباتك وتصرفاتك).
نظرت من شرفة مكتب الجريدة، فشاهدت عبر نافذة أحد بيوت البناء المقابل رجلاً يضاجع امرأة، الرجل فوق المرأة، والمرأة فوق الرجل، القبلات المحمومة، ووصلني صوت مذياع يغني الليل المكبوت. أغمضت عيني ثانية، فرأيت فيما رأيت، رأيتك يا براءة، رأيتك يا غزالة المدينة تتقدمين نحوي، أخذتني إلى صدرك، قبلتني وقلت: ها قد وهبتك رحيقي.. فتزود به في رحلتك القادمة.
وقبل أن أكلمك اختفيت بسرعة.
عدت إلى رئيس القسم المناوب، بلغته فشل محاولاتي، حدق بوجهي طويلاً، رفع سماعة الهاتف، أدار القرص، تحدث مع أحد موظفي قسم الأرشيف، طلب منه عدد الصحيفة الصادرة بتاريخ الغد من صحيفة العام الماضي، انتابتني موجة من الفرح.. حيث باتت مهمتي سهلة، نقلت الخبر حرفياً من صحيفة العام الماضي، أرسلته إلى المطبعة، وقبل الخروج من مبنى الصحيفة، داهمتني موجة من الخوف في أن تكشف اللعبة، فكرت بالعودة إلى رئيس القسم المناوب لسؤاله عن العواقب فيما لو كشف الأمر، لكن شيئاً ما دفعني للخروج من مبنى الصحيفة، وابتدأت موجات القلق والوساوس تساورني، سألت نفسي: هل يكتفون بتحويلي إلى الأرشيف مثلما فعلوا مع عبد الهادي، أم أنهم لن يكتفوا حتى بالطرد؟
كان هذا السؤال داعياً لموجات القلق والوساوس بالانتشار في مساحات أوسع، فأكثر ما يخيفني هو تأويل الأمور، وجريانها في مجرى آخر غير مجراها الطبيعي، عندئذ يجب أن أداوم في دوائر أخرى، وتبدأ عملية السين والجيم ولا تنتهي، والخوف شعور طبيعي ويمكن أن يغدو خلاقاً، لكن نحن سكان العالم الثالث للخوف عندنا نكهة خاصة، له طعم خوازيق السلطان العثماني.
مررت بشرطي يشخر داخل محرسه، اجتزت موكب مراهقين تقيأتهم أحشاء أقبيةٍ ناعسةٍ وراحوا يرقصون فوق الأرصفة، آه يا براءة.. أين سهرات الأصدقاء الجميلة، وأصابعك تلعب بأوتار الغيتار، وصوتك يصدح بأغنيات فيروز، لماذا لم تعد أصابعك تداعب الغيتار؟ وهل السيارة حطمت صوتك الفيروزي مثلما فعلت بساقيك؟.
لاحقتني كوابيس مرعبة، كأنني مسؤول عن جريمة قتل، يطلب مني شيء ما لا أعرف ماهو.
تذكرت أسئلة صديقي يوسف:
- هل انتهى طموحك عند تغطية أخبار الاحتفالات؟
- أنسيت محاولاتك في كتابة القصة، أم أن شبكة الدولار لم تعد تحاصرك؟
حقاً لدي شهادة طويلة عنه يجب أن تكتب، يجب أن تكون لدي فسحة لأستطيع مسك قلم ودفتر فلا أتركهما قبل عدة أعوام، يجب أن أكتب عنك يا براءة، وعنك يا فائز، وعنك أيتها العصافير مكسورة الأجنحة.
هل انشقت الأرض وابتلعت بائع القطع الكهربائية؟ كل يوم ينشر بضاعته على هذا الرصيف وفي هذا المكان، المدينة يخيم عليها اللون الرمادي، الناس يتدافعون نحو الباص المكتظ وكأنه يوم الحشر، وأطفال كالعصافير توزعوا بيع الصحف وأوراق اليانصيب وصناديق البويا ومسح زجاجات السيارات، بحثت بعيني عن بائع القطع الكهربائية في الرصيف المقابل فلم أعثر عليه، سألت بائعاً للسندويش بجواري عنه.. فأجاب بأنه لم يأت بعد، سألت نفسي: لماذا أبحث عنه، هل تعمد بيعي بطاريات عاطلة. وإن تعمد ذلك فماذا أنا فاعل معه؟ وهل هو الوحيد الذي يغش هذه الأيام؟.
متعب حتى العظم، أعياني البحث فتابعت سيري كجندي مهزوم باتجاه وزارة الزراعة.
هذا الصباح استيقطت مبكراً، فتحت عيني، يا لهاتين العينين الرهيبتين، لم يسبق لي أن رأيت مثل هذه النظرة الحادة والعميقة، كانت تطلب مني شيئاً، بل وتتهمني إن لم أعطها ذلك الشيء، وجهي تسمر أمام وجهه، وتعلقت عيناه بعيني، عرفتهما، إنهما عيناك يا براءة، وعيناك يا فائز، إنهما تطلبان مني ثأراً.
اندلقت خارج المنزل.. متوجهاً إلى مبنى الصحيفة كي أقدم استقالتي، قابلت رئيس التحرير، رفض قبول الاستقالة قبل التوجه إلى وزارة الزراعة لاستطلاع الأمر، فقد اتصلوا قبل قليل يطلبون حضوري. وصلت باب الوزارة وسؤالان يترددان في ذهني، هل اكتشفوا الأمر؟ وإن اكتشفوه ماذا ستكون العواقب؟ لكن استقبال مدير مكتب الوزير أسقط كل وساوسي، وذكرني بالتهليل والترحيب اللذين حظيت بهما لدى دخولي للمرة الأولى مبنى الصحيفة لاستلام جائزة مسابقة القصة ، حتى المراسيم التي واجهتني في مكتب رئيس التحرير هي ذاتها في مكتب السيد الوزير، ففي كلتا الحالتين قدم إلي ظرف مختوم، المرة الأولى لبراعتي في كتابة القصة القصيرة!!! والمرة الثانية كما قال السيد الوزير:
(مكافأة على جهودك المضنية في تغطية أخبار الوزارة).
أين أنت يا براءة؟ أين أنت يا غزالة المدينة؟ تعالي ودثريني بمعطفك الأبيض، تعالي.. تعالي.
|