بتـــــاريخ : 11/5/2008 6:45:15 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1972 0


    الكتابة حاجة داخل القلب

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | المصدر : www.balagh.com

    كلمات مفتاحية  :

    من صور تراود أحلام يقظتي، هي صورة الأفواه المتعلقة بالكلام المدفون، عنوة في الصدور، بدأت علاقتي بالكتابة. ومن غربة قرأت لها، في ما بعد، صورة في أدبنا الحديث، صغت سؤالي الذي قاربت به النصوص.
    الصورة الأولى هي لذاك الصندوق الصغير الذي رأيته، طفلة، يخرج من دارنا الكبيرة المفتوحة على السماء. سألت أمي:
    ـ لماذا لم تخبئيه في خزانتك؟
    بكت أمي ولم تجب. فاتهمتها بالخضوع، واتهمت أبي وعمي بالتواطؤ مع الرجال الذين حملوا أمين خارج الدار كي لا يعود أبداً إلى سريره بقربي.
    وهي، أيضاً، لذلك الرجل كنت أراه يحز بأظافر يده لحظات موته فوق كلس الجدار. كان كمن يرغب في إخراج صمته الطويل قبل أن يودع الحياة، أو كان كمن يرغب في التعبير عن لا جدوى الكلام في زمن صار فيه الانسان ينتقل من قمع إلى قمع، ومن مذلة إلى مذلة.
    أما الصورة الثانية فهي لأشخاص وجدتهم يتحولون في الحكاية العربية من أبطال مفترضين إلى شهود فعليين على واقع يتفتت أمام أبصارهم، ويسقط تحت وطأة دمار طاغ، وعام، تلتبس فيه هوية القاتل والضحية، فيغيب العدو خلف قناع الصديق، وتتبدد المعاني في التصادم العبثي.
    حاجة بدأت الكتابة.. بلا عبادة. كانت داخل معابر جسدي، قلقاً يبحث عن معنى المكبوت بشكل علامات حزن فوق وجه أمي، وخربشات فوق ذلك الجدار.. كانت نافذة صغيرة نثقبه ونطل منه على البحر، على أفق أبعد من الجدار الذي مات أسفله الرجل بعد أن رسم عليه سره.
    حاجة في القلب.. تأخرت عبارتها عندي لأن القمع كان إرثاً مضاعفاً بالأنوثة في بلادي.
    ويوم توسلت الحرف بدا لي سبيلاً إلى معنى. أعربته فيه، فنطق بغير لغته، بغير ما كان يقول.. لأن المعاني حين نعربها في التاريخ تختلف لغتها. وإلا بقي الحرف يصرخ: احفظوا نهاري كي أضيء ليلكم. حرروا مكبوتي كي أنتقل بكم إلى حلمكم.
    وقد أسمع مَن يقول: ليس للكتابة حين تقول قلق القلب، وحلم يقظة الذاكرة، أن تأتي، كما هو النقد، قولاً عن قول، أو لغة ثانية. أي دراسة تكتب عن الكتب بدل أن تكتب عن الحياة، لأنها بذلك تفقد لهيب الأعماق وعلاقتها الحية بقرائها.
    ولعلي أقول ان بإمكاننا أن نضع المرايا قبالة المرايا دون أن نخنق قلق القلب ونقفز فوق حلم يقظة الذاكرة، على أساس ان مَن يقرأ الكتب ليكتب عنها، إنما يقرأ أيضاً الحياة خارج الكتب، وان الكلام على لغة أولى ولغة ثانية هو، في نظر العلم، أمر لا يخلو من وهم، لأن مَن يكتب عن الحياة يقرأ أيضاً في الكتب عنها، وان ثقافة المكتوب ليست تالية على ثقافة الشفوي، ومَن يكتب عالم الحياة إنما يكتبه من ثقافة يتداخل فيها الشفوي بالمكتوب، وان مَن يقرأ في الكتب يشارك أيضاً في كتابتها.
    هكذا، فأنا حين ملتُ إلى الكتابة عن الكتب، كنت أحاول أن أجعل المرايا تقرأ المرايا وتكتبها. وتدخل المرايا في المرايا، مرايا الكتب، مرايا المعاش ومرايا الحكايات عنه، المرجع الحي في حركته وديناميته ومتغيراته، ومرايا اللغة في محمولاتها الايديولوجية من جهة، وفي تفكيكها لهذه الاديولوجيات ولتشكلاتها ا لدلالية المختلفة من جهة ثانية.
    تقرأ المرايا وتكتبها في مساحة إبداعية مشتركة، قوامها المعرفة المميزة بلغتها وخطابها.
    كانت الكتابة بالنسبة لي، وما زالت على مساس بسؤال يخص حياتنا وزمننا المسروق منا. كانت سؤالاً عن ذلك المكبوت، وعن تلك الغربة لصورة انسان في الذاكرة وفي الكتابة الأدبية.
    كانت سؤالاً عن حياة، وواقع، هما أشبه بزمن معلق بين ماض نعجز عن تفكيكه وتزمين النير من عناصره، وبين مستقبل يهوي حلمه كلما رفعناه فوق أرض فكرية نكتشف متأخرين، رخاوتها.
    والسؤال هذا هو حوار مع أجوبة تضمرها الكتب، أو مع أسئلة تثيرها الكتب. وفي هذه الحركة، وعلى حد هذه الفاعلية، والتقاطع، بين الكتب وقراءتها، تبدو لي الدراسة النقدية فعلاً نشطاً معنياً كما الكتب، بالحياة.
    الدراسة النقدية، كما فهمتها ومارستها، سعي لنقل القراءة من الاستسلام للخطاب الأدبي-الثقافي إلى الحوار معه، ومن التلقي السكوني لمرسلاته إلى معاينة هذه المرسلات، والتبصر في دلالاتها، وذلك من منطلق واقعنا، وموجبات حياتنا فيه.
    وهذا لا يعني تشكيكاً في ما يقوله الأدب، بل بغية أن تتمكن القراءة، كما الكتابة، من المساهمة المشتركة في تكوين بنية الثقافة، وبلورة متغيرات الحياة.. وحتى يصبح بمقدرونا الكلام على ممارسة ديمقراطية، فعلية، في مجال الثقافة، وعلى تقدم في مجال بناء الأوطان.
    إن مسألة هذا التدخل بين الكتب والحياة، أو بين الكتابة والقراءة، هي في وجه هام منها، مسألة معرفة ينتجها الخطاب الأدبي ومعايير الجنس الأدبي. معرفة يلذ لنا أن نتوسلها بمداركنا كلها. ربما للكشف عن معنى المكبوت الذي نعي أو لا نعي، عن معنى المقموع الذي تعذبنا سطوته، أو الذي ألفنا واستسغنا.. هي معرفة نلوذ بها نقدياً ضد خطاب ثقافي يرحب، مواربة، بالشعوذة، أو يجعل من لغتها ترميزاً يبسطه بخوراً على أعتاب مَن يمحو تاريخنا، ويستأثر بكدنا، ويجني لترفه ثمار ما نزرع، ويدوس بقدمه الواحدة براعم الأمل في قلوبنا.
    من المعلوم ان الأدب، كما الفن، ليس خطاباً يدعي لذاته حرية تصوير حقائق ما نعيش ونشهد. والكلام حي يرتقي إلى مستوى الإبداع لا يعقل أن يكون فقاقيع صابون تعوضنا عن الكبت ثرثرة، وعن حقنا في الحياة قناعة بالحرمان منها، بل هو (الأدب كما الفن) بناء عالم على مستوى المتخيل، من أهم معانيه في تاريخنا الحديث، إضاءة الشق المظلم من واقعنا، وبلورة وعي بمأساة الانسان المقموعة حريته، والمغرّب عن ذاته وهويته ووطنه.
    ولئن كان الخطاب الثقافي-الأدبي هو، بالنسبة لنا، نحن أبناء هذا العالم الحضاري القديم الذي يسمونه متخلفاً، الخطاب الإنتاجي الأكثر إمكاناً وفاعلية، نسبة إلى حقول الإنتاج الأخرى، فإن الحوار النقدي، لهذا الخطاب، هو يطرح السؤال المشترك بين الكتابة والقراءة والحياة. يطرحه على معنى الجمالي ومعياريته، وعلى علاقة الجمالي بالمعرفة التي ينتجها.
    تختلف ولا شك سبل إنتاج المعرفة، وتتنوع جماليات الخطاب الأدب. لكن، يبقى الانسان، باعتبار تاريخه وواقعه وحلمه، محورها.
    ويبقى من ثم السؤال:
    كيف يمكن لهذا الانسان أن يمتلك وعياً نيراً يحاور به مرآة حياته؟
    وهل هو واجد في الخطاب الثقافي-الأدبي هذه المرآة؟
    وما هو المنظور الذي يمكن لهذا الحوار أن ينطلق منه؟
    كانت الكتابة مرآة لصورة أناس من أهلي قرأت فيها، حين قرأت الكتب، صورة لانسان عربي مسحوق.
    كانت الكتابة حاجة في دمي تنتقل داخل القلب من طرف إلى آخر كي تأخذ من الهواء ما تستمر به الحياة.
    كانت الكتابة حاجة بحجم الخلية التي تمسك الروح، وصارت حاجة بحجم الكون الذي يضيق، عند الكتابة، عن أحلام هذه الروح.
    كانت في مكان حدود البيت والوطن، وصارت إلى مكان أوسع من كل بيت ووطن.

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()