بتـــــاريخ : 11/17/2008 6:50:02 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1376 0


    سعدية

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : رياض خليل | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة سعدية رياض خليل

     

    سعدية

    البدر يبتسم باستحياء، يرش فضته على جبين سعدية. تأبطت ذراعه، شبكت أصابع أكفها الدافئة بأصابع كفه الفولاذية.

    -

    قال أسامة: أنت زوجتي منذ أول الدهر، وستظلين إلى الأبد.

    قالت: ومع ذلك الاصول هي الأصول..

    قال: حبنا أقوى من كل المبادئ والأعراف والأصول.

    قالت: والناس يا أسامة؟!

    قال: مالنا ولهم. كلها ليلة ويكون عقد الزواج قد تم. من سيعرف؟

    قالت: أموت بحبك..

    قال: بعيد الشرّ...لا تلفظي هذه الكلمة...أرجوك ياسعدية.

    قالت: أنت تاج رأسي، ومنى عيني.. أسامة... معك أحس أني لا أملك نفسي. لا أستطيع أن أرفض طلباً لك. معك أصبح بلا إرادة، ولا عقل، فدتك نفسي.. ياحبيبي...ولكن أرجوك...لا تطلب مني هذا..

    قال: كلانا شخص واحد، أنت مليكتي. سيدة قلبي، ومؤنسة روحي، ياجنتي وسعادتي..

    قالت: حسبك...النسيم يسمعنا...قد يشي بنا.. والقمر يختلس النظر إلينا، انظر...إنه يبتسم كطفل مشاغب.

    نظرت إلى وجهه. رأته ينظر معاتباً.سألته:

    لاتستعجل ياحبيبي... غداً زفافنا..

    -

    هل غرت من القمر؟

    -

    ثقتي بك بحجم القمر والدنيا. أنت لي تماماً... أنا واثق من نفسي ومنك واثق من حبنا الراسخ كالجبال، التي لا تزحزحها الريح ولا العواصف آه..ياسعدية...أتمنى أن أغفو وأفيق، فنصبح زوجين... زوجين حقيقين، تحت سقف واحد. غداً سأريك ياسعدية...

    -

    أتهددني؟ قالتها مازحة..

    -

    ياوردة عمري....

    ***

    ...

    في صدر المكان قبالة ساحة الرقص... صفت طاولات مغطاة بأطباق وأوعية الطعام والشراب.

    بدت سعدية كالجوهرة وسط الحفل، وإلى جانبها يجلس أسامة. يتداولان عواطف الحب بصمت بليغ.

    المدعوون يرشقونهما بعبارات التهنئة والثناء والود، وكانوا يحسّون بهما. كطائرين يوشكان أن يقلعا... ويرتفعا من شدة الفرح.

    بدت أم سعدية مكتئبة... وعلى وجهها مشروع بكاء ناقص. وعيناها تصارعان الدمع. بينما أم أسامة كانت لا تتوقف عن الرقص والزغردة...

    كانت الزّفة لا نظير لها، وكان حب أسامة وسعدية حكاية مكتوبة على الدروب والأشجار والليالي الوديعة، وجبين القمر الولهان. عندما أوشكا أن يدخلا غرفتهما، صاحت أم أسامة:

    توافد المدعوون. وغصّ المكان الفسيح حول البيت بالناس. أطفال وشباب وكبار ونسوة، ثلاثة طبول تقرع بشدة، وحلقة من المحتفلين تشكلت، حلقة من الرجال والنساء... تشابكت أكفهم، وراحوا يرقصون بضراوة، والقرباطي مسعود تنتفخ أوداجه، وهو يعزف على المزمار "المجوز" ومزمار القرباط الآخر المعروف بفتحته الواسعة أيضاً، تولّى العزف عليه قرباطي آخر.

    -

    ابق رجلاً يا أسامة. ارفع رأسنا عالياً...لا تخذلنا يابني. رمق أسامة أمه وحماته، قال، وهو يتبختر كالديك:

    -

    كانت سعدية نهباً لمزيج من مشاعر الخوف والقلق والسعادة، وتبرعمت على ثغرها ابتسامة غامضة.

    أغلق أسامة الباب، وغابا عميقاً داخل الغرفة المخصصة، بينما بقيت ثلة من النسوة: قريبات وصديقات أم أسامة وأم سعدية، ينتظرن الفرج خارج الغرفة.. ويتلهين بتداول الملاحظات والتعليقات على العرس والعروسين.

    طال انتظارهن بعض الشيء. أكدت ذلك إحدى النسوة فاكفهر وجه أم أسامة، وشعرت بالإهانة. كانت واثقة دائماً بفحولة ولدها. سماته كلها تفصح عن رجولته. وفكرت أم أسامة متشككة: "لن يخذلنا...لكن...لقد تأخر فعلاً... الله يسترنا" أم سعدية ضاق صدرها، ولم تعد تحتمل الصبر. إنها تنتظر "العلامة". روحها صارت في أنفها فلم تتمالك إلا أن قالت لأم أسامة: "دقي الباب...حثيه استعجليه". قالت امرأة: " نريد العلامة يا أم أسامة"..

    وبقيت أم أسامة... تلوك غيظها بصمت، ولم تجد ماتردّ به عليهن. ارتسم الوجوم على الوجوه، أم سعدية تطلق من صدرها زفرة طويلة مرتفعة اللحن، كأنها زفرة قطار. اقتربت أم أسامة من الباب.. حاولت أن تظفر بحرف.. بكلمة... بهمسة... بصوت. عبثاً كانت محاولاتها... ضربت كفاً بكف دون أن تحرك فمها، انتحت جانباً، وقرفصت.

    لا عليكما...سترون.

    ***

    لم يكن الليل داخل الغرفة... يشبه ذلك الليل، الذي كان يحرسهما على الدرب الوحيد، ولم يظهر البدر الأنيس، الهواء كان راكداً... هامداً كجثة.

    نيران العار تلدغ أسامة. أسامة العاشق...الواثق بحبيبته ثقته بنفسه...أسامة الولهان يحس أن آلاف العقارب تطبق على قلبه الطري. السم يسري في الجسد.. يتفجر كالبركان.

    بدأا ملاكين...طائرين... شفافين...متلألئين...عزفا أوبرا الحب مارسا طقس الحياة... بفصولها وألوانها. امتزجا. ذابا في إيقاع راقص نشوان. أكلا التفاحة... وشما عبير الجنة.

    خمد البركان قليلاً، سعدية استمرت تغلي سعادة هانئة مطمئنة. لكن أسامة شعر بمرارة الحنظل في فمه، خمن أن التفاحة معطوبة، مدوّدة. صحا من سكرته، عاد إلى عقله المزود بذاكرة غير مرنة. تحسس الأشياء مرات ومرات. يئس. لم يجد ثمة لوناً أحمر. شعرت سعدية بتغيراته المريبة... انتقلت تلك التغيرات -بالعدوى- إليها انتشرت في جسدها، سرت في أوصالها، وانعكست في وجهها وعينيها قلقاً وخوفاً وفضولاً:

    -

    ماذا حدث لك..ياحبيبي؟

    -

    صمت...

    -

    إنك تخيفني يا أسامة.. يانور عيني.... ونبض قلبي

    -

    أرجوك أتوسل إليك...أخبرني...ماالأمر...ماذا حدث لك؟

    وبقي أسامة مذهولاً... وزادته عبارات سعدية استغراباً ودهش، بدت سعدية وردة نضرة تفتحت على يديه.. وجه سعدية يقول لو كان للبراءة اسم آخر، لكان سعدية!! إذن؟ أيهما الأصدق؟ الواقع؟ أم الوهم؟!

    وفكر أسامة " لعله الحب يعمي قلبي وعقلي.. ما أراه هو الصحيح لن أكذب عيني...وحواسي".

    تململت سعدية وتكورت على نفسها، وشدت الغطاء، لتستر جسدها الطري المرتعش. تمزقت في عينيها صورة أسامة، تمنت أن تنشق الأرض وتبتلعها، وأسامة يفترسها بنظراته المتوحشة.. التي تفصح عن نياته الخطرة..المهددة..

    سمع أسامة همهمات النسوة خارجاً، تخيّل نفسه ملوثاً.. مهزوماً عارياً إلا من الخزي، ورأى النسوة تلوك كرامته المهدورة، ورجال القرية يدوسون سمعته... يقرّعونه، ويشتمون رجولته.. ويصمونه بأحط الألقاب والصفات. وتذكر بيت الشعر الذي كان يردده معلم المدرسة:

    صمت.

    "لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

     

     

    حتى يراق على جوانبه الدم"
     

    كان أسامة متردداً...وفجأة ارتفع صوت بكائه..لأول مرة تراه سعدية يبكي بحرقة وألم. ذعرت، هالها هذا المنظر غير المعقول.. انطلقت من ثغرها الطفولي العبارة التالية وبلهجة حازمة حادة:

    -

    حسبك ياأسامة. الرجال يبكون.

    -

    صمت ونشيج أسامة

    -

    افعل مايريحك ياحبيبي...ولكن...ولكن.

    -

    ولكن ماذا؟

    -

    انتبهت إلى الخرقة البيضاء الناصعة التي رفعها بأصابعه عالياًوهو يعلق بحقد:

    ولكن أود أن أعرف ماذا يحدث؟

    -

    وتتظاهرين بالبراءة؟! أين أضع وجهي من هؤلاء الذين ينتظرون العلامة، وامصيبتاه...

    -

    ولكن أحداً لم يمسني، صدقني ياحبيبي... أنا بريئة... طاهرة..

    -

    بريئة! هه.. (يريها الخرقة البيضاء) وهذا هو الدليل ...

    -

    وارتفعت أصوات النسوة المنتظرات، وسمع صوت والدته تستحثه على إنجاز عمله.. والدخول بسعدية، صاحت:

    أنا لا أفهم شيئاً.. لا أعرف لماذا؟... أؤكد لك أنني بريئة...

    -

    ولم يعد أسامة يحتمل أكثر، رمى بشكوكه وتردده وحبه أرضاً.. داس قلبه وعقله وأيامه معها. قالت سعدية:

    ارمِ لنا بالعلامة ياأسامة.. هدّنا النعاس...

    -

    كانت يده أضعف من أن تقاوم تلك العبارات الأخيرة التي لفحته بها سعدية... واندفع أسامة كالأعمى، وغرز السكين في وجه البدر اللامع، فتأوه الضياء، وانبجس العقيق من الفضة، أعولت الريح، وبكى الليل، وتصدّع الدرب الوحيد... الذي طالما احتضن خطواتهما الوئيدة النشوى.

    صرخ الدم: "بريئة... بريئة...بريئة"، سمعت صراخه القرية فتوجعت البيوت والأشجار والطيور. وعزفت الريح لحن الوداع.

    لم يعد أسامة يرى شيئاً سوى اللون الأحمر، فتح الباب قليلاً...

    رمى بالعلامة الحمراء في وجه النسوة. وصفق الباب بقوة... وارتفعت الزغاريد من النسوة، لتوقظ القرية الهاجعة على النبأ المنتظر.

    لا تفعلها ياحبيبي.. قد يقتلك الندم.. أخاف عليك ياحبيبي...

    ***

    عندما عاين الطبيب الشرعي جثة سعدية، حرر تقريره ومما ورد فيه:

    "

    إن المقتولة لم تكن ثيباً، بل ظلت عذراء بكراً، لأن غشاء البكارة من النوع المطاطي، الذي لا يزول إلا بعمل جراحي، أو بعد الولادة الأولى".

     

    سرت رعشة لذيذة في جسدها، انطلقت من صدرها كلمة: "حبيبي" نسيم الصيف يتلوى، يلف جسديهما. يعابثهما. ينتعشان.

    يتابعان نزهتهما القصيرة المعتادة على الدرب الأليفة والوحيدة. همس أسامة في أذنها: "أحبك" فشعت عيناها، وعكستا ضياء البدر السهران. ابتسما، واستمرا يتمشيان...وقد تخاصرا.

    حاول أن يقبلها. قاومت بنعومة. وأقنعته قائلة:

    كلمات مفتاحية  :
    قصة سعدية رياض خليل

    تعليقات الزوار ()